فن "الفوازير" فن أدبي عربي قديم تطور في العهد الحديث على يد مجموعة من شعراء العامية بداية من الرائد بيرم التونسي وصولا إلى صلاح جاهين أشهر الشعراء في هذا المجال والذي تشغل "الفوازير" جزءا أصيلا من أعماله الشعرية، حيث ارتبط بها الجمهور في شهر رمضان من كل عام عبر أثير الإذاعة أو عبر التليفزيون وقدمها أشهر نجوم الفن أمثال سعاد حسني ونيللي وثلاثي أضواء المسرح وغيرهم وكانت هذه الفوازير المميزة أحد العلامات البارزة في ليالي الشهر الكريم والتي للأسف غابت عن التليفزيون المصري منذ سنوات طويلة وقد كانت تمثل نكهة خاصة ووجبة درامية وغنائية ينتظرها الجمهور حيث كان يشارك في تلحينها كبار الملحنين أمثال محمد الموجي وبليغ حمدي وكمال الطويل وعمار الشريعي وكبار المطربين كذلك وكانت تمثل نوعا من التشويق والإثارة، فلم تكن مجرد "فوازير" للتسلية، بل كانت تعتمد على رؤية عقلية، في الأساس تقوم على مشاركة الجمهور في بنية الأحداث الدرامية والتي تجيء في صورة مبسطة جامعة بين أشكال مختلفة من الدراما، وقائمة كذلك على عنصر فني هام وهو "المفارقة". ولم تكن "الفوازير" مجرد عمل فني يقوم بتأليفه "صلاح جاهين"، بل يكمن إعتبارها كبقية شعره جزءا من شخصيته فهي ذات لغة شديدة المصرية وشديدة الذكاء وتحمل في طياتها دلالات وخضاعات شاسعة من التأويل، وحسب تعبير الكاتب الصحفي مفيد فوزي فإن "جاهين هو بمعايير العطاء مصلح إجتماعي يطأ بريشته أو بقلمه مالم تجرؤ عليه ريشة أو قلم، كان جاهين يغمس ريشته في مداد البصيره، وينتقي بقلمه من بساتين الفطنة، أجمل الزهور ثم يهديها لنا حتى لو أدمت أصابعه الأشواك كان صلاح جاهين إعتذارا رقيقا عن كأبة الحياة وجروحها". ويصفه الشاعر فاروق جويدة قائلا : "لقد عاش صلاح جاهين للفن... لمصر في كل معناه، وإنتصاراتها، وأمانيها، فكان صوتا مصريا، وطنيا، صادقا، مليئا بكل ما حمل نهر النيل من صدق وعطاء". وبالفعل جاءت "الفوازير" التي كتبها "جاهين" لتعبر عن الشارع المصري بتاريخه وأحلامه وأوجاعه، وكأنه يحمل فوق ظهره سبعة آلاف عام من الحضارة ومن هموم البشر. أبا بامشي شارع بورسعيد وأكسر يمين ناحية الأزهر الصبح وأرجع من جديد العصر على نفس المنظر أوصل يا دوب عندنا في الحي أشتاق له تاني وأجري له وأفضل يوماتي رايح جاي على بيت حبيبي أغنيله وهذه الفزورة كان يقصد بها الأغنية الشهيرة للمطرب محمد عبد المطلب "ساكن في حي السيدة وحبيبي ساكن في الحسين" ، فصاغها "جاهين" في لغة درامية لا تقل جودة وقيمة عن الأغنية الأصلية مع إكساب ملامح "الفزورة". ونلمح أيضا ذلك الحس الفلسفي الذي رأيناه في أقصى تجلياته في "الرباعيات" نراه يتسرب حتى إلى هذا الفن السهل نسبيا فشخصية الشاعر هي نفسها بحسها الإنساني وفلسفتها الوجودية ومأساتها التي تتجلى عبر الغناء الشجي من مثل قوله: مسكين يا قلبي يا صغيور ... عمال تفرفر وتغني من يوم ما قادوا حبال النور ... ولقيتني في الزحمة باهني والغنوة إيه نغمتها وإعتمد "جاهين" في فوازير "حاجات ومحتاجات" والتي قدمت في منتصف السبعنيات على ما يسمى بعد ذلك في علم النقد ب "أنسة الأشياء" حيث جعل الأشياء الصماء تتحدث عن نفسها وتاريخها، أو على حد تعبيره في مقدمة الفوازير: فناجيل وكبايات ... أقلام وبريات علب وبرطمانا ... كراسي وترابيزات دول كلهم عبارة عن ... حاجات ومحتاجات ومثلما أحدث "جاهين" إنقلابا في فن الأغنية المصرية، أحدث طفره نوعية في مجال دراما الفوازير، وربما كانت قدرته الفائقة على إلتقاط التفاصيل وتوظيفها دراميا، وما تحمله عباراته من عمق وحكمة جعله الطريق صعبا على من تلاه من الشعراء فلم يبرز بعده شاعرا في هذا المجال، رغم تعدد المدارس الشعرية وتنوعها ووجود أصوات متميزة في شعر العامية، ربما لأنه "جاهين" هو النموذج المختلف أو كما وصفه الراحل إحسان عبد القدوس قائلا "لم يكن مجرد شخص، ولكنه كان أكبر أمل في مستقبل مصر الفني".