ونحن نحتفي باستقبال شهر رمضان، نحاول التعرف على الطقوس الرمضانية في مختلف الأقاليم والمحافظات المصرية، بدأت جولتنا بالجنوب، فكان اللقاء بالشاعر الجنوبي أشرف البولاقي وهو من مواليد 19 أغسطس 68 بمدينة قنا، يعمل أخصائيا ثقافيا بفرع ثقافة قنا منذ عام 1994. أصدر ثلاثة دواوين شعرية هي "جسدي وأشياء تقلني كثيرا" و "سلوى وِرد الغواية" و "واحد يمشي بلا أسطورة" كما أصدر كتابا في الدراسات الشعبية بعنوان "أشكال وتجليات العدودة في صعيد مصر" ويمارس الكتابة والنقد في بعض الصحف والمجلات المصرية والعربية، حصل على عدد كبير من جوائز الإبداع المصري والعربي، يشارك في فعاليات الحركة الثقافية المصرية. ما أثر النشأة في الجنوب على إبداعك؟ الحديث عن أثر النشأة في الجنوب على الإبداع حديث ذو شجون؛ ربما لا يبدو الجنوبُ في مصرَ وحدَها متميزا من حيث خصوصية طرحِه الإبداعي والثقافي فالجنوب في كثيرٍ من بلدان العالم شرقا وغربا فيه ذلك الألق، وفيه هذا الإبهار، ربما يرجع السبب في ذلك إلى ما يقوله بعض علماء الحضارات وبعض الأنثروبولوجيين، من أن تاريخ الحضارات نشأ معظمه في الجنوب، وربما كان السبب أيضا في أن الجنوبَ دائما بسبب انتمائه للحضارة بمفهومها الإنساني والثقافي، وليس المادي يظل منتميا في خصائصه وعاداته وبعض تقاليد أهله للبساطة والطزاجة معا، وليس للحداثة المركبة التي تفتن الشمال دائما للأخذ بأسباب التكنولوجيا، وما بعد الحداثة في لهاث سريع للاستفادة من كل تقدم وهو ما لا يفعله الجنوب فيظل مهمشا وقانعا بأدواته وأساليبه الحياتية والمعيشية محافظا في الوقت نفسه على ما تبقى من حضارته البكر، والتي تظهر وتتجلى في الغالب ليس فقط في موروثه، وإنما في إبداعه الحديث والمعاصر. هذا الإبداع غير المقتصر على البيان أو الكتابة لكنه متجلٍ أيضا في مختلف فنونه الأخرى كالحرف البيئية وغيرها مما يميز الجنوب دائما. وينطبق هذا الكلام أكثر ما ينطبق على الجنوب المصري الذي يمتد جغرافيا من محافظة قنا مرورا بمحافظة الأقصر وليس انتهاء بمحافظة أسوان وما بعدها. ذلك الجنوب الذي يصر الإعلام الرسمي الذي يمثله "الشمال" ليلَ نهار على أن يؤكد أنه المنفى كما يصر على أنه مصدر الشرور من عصبية وقبَلية وإرهاب وتخلّف لكنه – أي الإعلام – يضطر في أحايينَ كثيرة خاصة وقت الأزمات أن يعترف في استحياء أن هذا الجنوب هو مصدر الفكر والثقافة والإبداع منذ فجر التاريخ..! والدليل أن رموز التنوير وأعلام الكتابة شعرا ونثرا نشأوا في أو نهلوا من صعيد مصر، ومنهم: العقاد وأمل دنقل والأبنودي وبهاء طاهر وعبد الرحيم منصور ويحيي الطاهر أيقونات الفعل الثقافي المصري، وربما العربي. ما هي ذكرياتك عن شهر رمضان في الطفولة؟ ذكرياتي عن شهر رمضان في طفولتي البعيدة لا تختلف عن ذكريات أي طفل مصري نشأ في القرية، حيث كانت تبدأ الاحتفالات الشعبية مبكرا قبل رؤية الهلال بأيام، كما تبدأ إعلان حالة الطوارئ في البيوت والمنازل بإعادة ترتيبها من جديد، وكان "الفانوس" هو الحلم المنتظر في بداية هذا الشهر كما أنني كنتُ واحدا من أعضاء الفريق المسئول عن تزيين الشارع الذي أسكن فيه. كنتُ حريصا جدا على تأدية صلاة الظهر تحديدا لأنها كانت السبيلَ الوحيد لشرب الماء أثناء الوضوء في المساجد، منتظرا في ظمأ شديد صلاة العصر لأكرر الفعلة معتقدا وقتها أن من شرب مضطرا فلا إثم ولا جناح عليه، وأن اللهَ شرع لنا الوضوء ليتسلل بعض الماء إلى حلوقنا الجافة. إنْ أنسَ لا أنسى أنني كتبتُ قصيدتي الأولى أيام الصبا في أول يوم من أيام شهر رمضان، وقد كانت قصيدة "خمرية" قلدتُ فيها أبا نواس، وقد أنشدتُها أصدقائي قبيل الإفطار مباشرة، وسط دهشة بعضهم ولوم ولعنة البعض الآخر. وما هو شكل رمضان الآن، ومدى اختلافه عن الماضي؟ علينا أن نعترف أن الإحساس بشهر رمضان الآن اختلف كثيرا، عن الإحساس به في الماضي، إذ كان شهر رمضان قديما حدثا دينيا وثقافيا وفنيا ينتظره الناس جميعا عندما كانت مجتمعاتنا المصرية مجتمعاتٍ بسيطة وقانعة. أما الآن وفي ظل ثقافة الاستهلاك وفي ظل كثير من الضغوط الاجتماعي والاقتصادية فقد اختلف الإحساس بالشهر الكريم.. ويكفي للدلالة على ذلك التغييرات المناخية التي جعلت الناس مهمومين بموعده السنوي هل يأتي في الصيف أم يأتي في الشتاء...؟! في الماضي كان شهر رمضان فرصة اللسفر والانتقال من بلدة إلى أخرى الآن كل شيء يتم تأجيله لما بعد الشهر الكريم..! كيف يكون الاحتفال بشهر رمضان في الجنوب؟ الاحتفال بشهر رمضان في الجنوب لا يختلف عن الاحتفال به في الشمال، فاستعدادات الاستقبال تكاد تكون واحدة أو متشابهة إلى حد كبير والاحتفالات ذات الطابع الديني تكاد تكون متطابقة ربما يبدو الشكل الثقافي أو الفني هو المختلف حيث تحول الظروف الاجتماعية والاقتصادية في الجنوب على إقامة مظاهر الاحتفال الفني والثقافي كالخيمات الرمضانية أو المراكز الثقافية التي تظل ممتدة لما قبل السحور في القاهرة بينما ينتهي كل شيء في الجنوب عند منتصف الليل. العامة والبسطاء في الجنوب يحتفلون برمضان في التزاور وكثرة الصلاة والتعبد وقراءة الأوراد وإعادة لم شمل الأسرة .. وربما بدا احتفال المبدعين والمثقفين مختلفا فهم عشاق السهر وهم القادرون تماما على أن يأخذ الاحتفال شكلا مغايرا بأن يستضيفوا المبدعين من خارج محافظاتهم وأن يغيروا من شكل أنشطتهم الثقافية احتفالا بالشهر الكريم. ما هي علاقتك بشهر رمضان ومدى تأثرك به؟ لا تربطني بشهر رمضان أي علاقة شخصية غير أنه يؤثر على صحتي، وعلى مزاجي النفسي والعصبي.. ولظروف مَرَضية تتعلق بقرحة المعدة مضطر مثلي ألا يصوم.. وشهر رمضان هو الشهر الوحيد الذي لا أذهب فيه للعمل نهارا مكتفيا فقط بالفترة المسائية، ولا أنام إلا في الساعات المتأخرة من الصباح. كيف استطاع الأدب الشعبي من وجهة نظرك التعبير عن شهر رمضان؟ يمكن تلمُّس شهر رمضان في الأدب الشعبي القديم في الكتب والمطبوعات المعنية بتاريخ الأدب، أما عن الأدب الشعبي المعاصر فلا يزال شهر رمضان له قيمته وله أثره في كثير من الإبداعات والتجليات... وربما كان شعراء فن الواو في صعيد مصر هم أكثر طائفة تهتم باستقبال الشهر الكريم في إبداعاتهم، ومربعاتهم بل إن كثيرا من السهرات الرمضانية في الجنوب لا بد من وجود شعراء الواو فيها، للحديث عن الصوم والإفطار وأنواع الطعام والمشهيات، في رمضان وإن كان يغلب على ذلك كله الحس الفاكهي.