واصلت ثورة يناير مسيرتها الباسلة في الكشف عن تركة الفساد والمحسوبية التي ورثها الشعب المصري من النظام البائد على مدار 30 عام ذاق فيها هذا الشعب ألوانا من الذل والظلم وقتل الكفاءات. وباعتبار أن القطاع المصرفي من أكثر القطاعات أهمية بالنسبة للاقتصاد المصري فإنه قد شهد العديد من المخالفات والفساد الذي تواصل "التغيير" كشفه في حلقات متتاليه. وفي هذا التقرير يلقي محمد رأفت الشاذلي الباحث بالبنك المركزي الضوء على رجال مبارك وبعض الرموز الاقتصادية والمصرفية في مصر إبان التسعينيات من القرن السابق الذين ساعدوا المحافظ الحالي للبنك المركزي فاروق العقدة في الصعود إلى هذا المنصب الهام. ويروي الشاذلي بداية العقدة والتي بدأت مع حسن عباس زكى وزير الاقتصاد الأسبق (عام 1957) ، والذي يشغل حالياً منصب رئيس مجلس إدارة بنك الشركة العربية المصرفية، رغم أنه من مواليد 1917 ، غير أن العقدة جدد له مؤخراً لمدة 3 سنوات. تلاه في ذلك على نجم محافظ البنك المركزي الأسبق (متوفي)، وكان يشغل منصب رئيس مجلس إدارة بنك الدلتا الدولي، الذي بيع إلى البنك الأهلي المتحد، وعضو مجلس إدارة شركة مصر للطيران، وبدء دوره في تصعيد العقدة عندما كان يعمل في بنك أوڤ نيويورك موظفاً في إدارة القروض المشتركة المتعلقة بتمويل صفقات التأجير التمويلي والتأجير المنتهي بالتمليك، وكان من أهم عملاء البنك شركة مصر للطيران، وذلك لترتيب التمويل اللازم لعمليات اقتناء الطائرات من خلال صفقات البيع المباشر بين الشركات المنتجة وشركة مصر ل الطيران لتحديث أسطولها. وفي هذه المرحلة من العرض كان العقدة قد جلب ابن المذكور (جمال على نجم) وعينه في البداية كمستشار في البنك المركزي المصري للتطوير المصرفي، ثم وكيل محافظ لقطاع الرقابة والإشراف، ثم نائباً للمحافظ، ولم يكن ذلك لكفاءة يتمع بها هذا الولد، ولكن رداً لجميل أبوه. وكانت أعمال العقدة في بنك أوڤ نيويورك تشمل إدارة ملفات العمولات الضخمة التي تدفعها الشركات البائعة (بوينج وإيرباص وخلافه) إلى المسؤولين المصريين بشكل عام والقائمين على شركة مصر للطيران بشكل خاص لإتمام الصفقات، وتبادر إلى ذهنه فكرة مؤداها أن التأجير التمويلي يحقق نفس العمولات (بدلاً من الشراء المباشر) دون تحمل تكاليف الشراء. وطلب العقدة عدة مرات مقابلة مبارك أثناء زياراته إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية لعرض فكرته، وفي إحدى زيارات مبارك للولايات المتحدة أفلح في إقناع رجال المخابرات المصاحبين له بأن لديه معلومات غاية في الأهمية والخطورة لا يمكن أن يبوح بها إلا أمام مبارك شخصياً، وكان ذلك دون أن يحدد ماهية تلك المعلومات، فتم ترتيب لقاء له مع مبارك شرح خلاله فكرته، ولما كان مبارك من المستفيدين من العمولات التي تدفعها الشركات البائعة، ويشتد حرصه على عدم التأثير على توقيت استلام العمولة أو قيمتها، ولا يعنيه في الأمر غير ذلك، وفكرة العقدة تحقق له تلك المنفعة، ولا يتطلب تنفيذها تكاليف، فقد اقتنع بالفكرة وأقرها. وبعد نجاح العقدة في لفت أنتباه مبارك إليه، طلب من بنك أوڤ نيويورك العمل في مصر، بزعم إدارة ملف الصفقات الضخمة المبرمة مع شركة مصر للطيران، واستجاب البنك لطلبه، ونقل إلى مكتب تمثيل البنك بالقاهرة، كموظف ضمن مجموعة آخرى من الموظفين يعملون جميعاً تحت رئاسة جمال محرم، وعُين العقدة عضواً في مجلس إدارة شركة مصر للطيران باعتباره المسئول عن ملف تمويل تحديث أسطولها. وفي غضون ذلك كانت مجموعة من البنوك وشركات التأمين (بنك الشركة العربية المصرفية، بنك مصر، بنك فيصل الإسلامى، بنك الإستثمار القومي، شركة مصر للتأمين، البنك العربي البريطاني ، ... إلخ) قد أسست شركة أنكوليس للتأجير التمويلي، وعُين العقدة عضواً منتدباً في مجلس إداراتها، وقام العقدة بتعيين محمد نجيب، وهو مصرفي سابق أنهى عقده مع بنك مصر الدولي في أواخر التسعينات لارتكابه خطأ جسيماً (وتم حفظ الموضوع جنائياً لحسن النية). وأبرمت أنكوليس عقد إدارة مع شركة أوف شور بالمملكة المتحدة البريطانية (غير خاضعة للضرائب) ، تتقاضي بموجبه عمولة إدارة على صافي رقم العمليات الموكلة إلى شركة أنكوليس، وعلماً بأن العقدة مؤسس وصاحب الشركة البريطانية. ورغم إنعدام خبرة العقدة العملية في إدارة البنوك التجارية، إلا أن ألاعيبه جعلته الشخص المناسب في تقدير النظام البائد لرئاسة البنك الأهلي المصري، فقام بتعيين محمد نجيب عضواً منتدباً في مجلس إدارة شركة أنكوليس، ولم تتجاوز فترة رئاسته للبنك الأهلي المصري السنة، غير أنه خلالها قدم تسهيلات ائتمانية بمئات الملايين إلى شركة أنكوليس، لتوفير السيولة لها وتمكينها من اقتناص أكبر عدد من الصفقات، ومن ثم تعظيم عائد عقد إدارتها المبرم مع شركته البريطانية، وروج لشركة أنكوليس بين أكبر عملاء البنك الأهلي المصري لتدبير احتياجاتهم التمويلية أو شراء أصول من خلالها. وفي أواخر 2003 أشتد الخلاف بين محمود أبو العيون محافظ البنك المركزي المصري مع عصابة مبارك، خاصة عاطف عبيد وجمال مبارك حول مدى استقلالية البنك في إدارة السياسة النقدية ومشروعات الخصصة، وكان العقدة أبرز المرشحين لهذا المنصب لما عُرف عنه من مرونة وتطلع لإرضاء كبار المسئولين ومحاباتهم وقدرته على إتمام صفقات تحقق أعلى عائد (عمولات) لهم. وفي ديسمبر 2003 تولى العقدة منصب محافظ البنك المركزي المصري، ومنذ البداية على كون لفيفاً من أهل الثقة، فاختار من المقربين لعصابة مبارك رؤساء البنوك وأعضاء مجالس إداراتها، ودعمهم بعدد كبير من الأشخاص جلبهم للعمل بوحدات القطاع المصرفي وقام بتعيينهم بمسميات غير تقليدية (مستشار أو خبير) وسكّنهم في وظائف الإدارة العليا، وزعم أن ذلك يأتي ضمن خطته لتحديث وتطوير القطاع المصرفي، وأحاطهم بشبكة أمان مؤسسي تعمل على تشوية حقيقة أعمالهم وإخفاء أدلة إثبات ما يرتكبونه من جرائم، ونجح في ذلك إلى أبعد حد يمكن تصوره، وبسط نفوذه على كل وحدات القطاع المصرفي المصري، ولم يكن العقدة في ذلك الخضم لاهياً عن تعظيم عائد العقد المبرم بين شركة أنكوليس وشركته البريطانية، فعمل على بيع بعض أصول البنوك لها وإعادة استئجارها منهم. ومن أجل محاباة مبارك وتقرباً منه قام العقدة منذ توليه منصب محافظ البنك المركزي المصري بتعيين ابنه جمال عضواً في مجلس إدارة في البنك العربي الأفريقي الدولي، ممثلا عن البنك المركزي المصري، ولفترتين متتاليتين. ومن المفارقات أن الجهاز المركزي للمحاسبات راجع في عام 2008 دفاتر شركة أنكوليس، باعتبارها شركة مساهمة مصرية يغلب عليها ملكية المال العام، واكتشف أن الشركة البريطانية (المملوكة للعقدة) تحصل على نسبة كبيرة من الأرباح دون وجه حق (لم تقدم أية خبرة ملموسة أو مهمة إدارية فعلية)، وأدرج الجهاز هذا في تقريره ، فما كان من العقدة إلا سحب شركته البريطانية دون رد ما سبق أن حصلت عليه دون وجه حق!. ولأن العقدة يعلم مدى خطورة إحالة تلك الجرائم إلى التحقيق، لاسيما بعد أن أثبت عبد الحميد أبو موسى محافظ بنك فيصل اعتراضه على ممارسات الشركة البريطانية (المملوكة للعقدة) في محاضر اجتماع مجلس إدارة شركة أنكوليس، هدد العقدة بإنهاء عقد ابن المذكور (محمد عبد الحميد أبو موسى) الذي عُين بموجبه كمستشار في البنك المركزي المصري ، وكان ذلك أحد أسباب عدم الإحالة إلى التحقيق. ولتدارك آثار ما تم الكشف عنه قام العقدة بإنهاء عقد محمد نجيب كعضو منتدب في مجلس إدارة أنكوليس، وعينه عضواً في مجلس إدارة البنك الأهلي المصري ، ثم بعد فترة وجيزة عيّنه نائب رئيس مجلس إدارة بنك مصر، غير أن محمد نجيب فاجئ الجميع بنشر إعلان بالصحف اليومية قرر فيه أنه لم يعد يرغب في التجديد له كنائب رئيس مجلس إدارة بنك مصر. وظن البعض أن شقاقاً حدث بين الرجلين، غير أن العقدة فاجأ الجميع بتعيين محمد نجيب في منصب رئيس تنفيذي لبنك الشركة العربية المصرفية SAIB ، وإن كان المنصب الجديد يقل نسبياً عن سابقه، بيد أن ما يفسره هذا التقليل أن الرئيس التنفيذ ل SAIB يتولى رئاسة مجلس إدارة شركة أنكوليس، كان في هذا القرار تحدياً واضحاً لقرار محكمة جنايات القاهرة - الدائرة 9 شمال – الصادر في القضية رقم 637 لسنة 2001 أمن دولة عليا (المعروفة إعلامياً بقضية الشركة القابضة للاستثمارات المالية لكح جروب) بمنع محمد نجيب إبراهيم عبد المجيد شعبان وزوجته أميمة محمد كمال الدين وولديه القاصرين أحمد وفريدة من التصرف في أموالهم. وأخيراً فقد تمكن العقدة من الاحتفاظ بوظائف آخرى تتعارض مع كونه محافظاً للبنك المركزي المصري، فمثلاُ منصبه كرئيس مجلس البنك الأهلي في لندن (المملوك بالكامل للبنك الأهلي المصري)، أي أنه وفقاً لذلك يعد مرؤوساً لرئيس البنك الأهلى المصري، في حين أن الأخير تخضع أعماله لرقابة البنك المركزي المصري، ومن التناقضات أن رئيس مجلس إدارة البنك الأهلي يحدد مكافأة العقدة نهاية العام وبدلات حضور جلسات في لندن، والعقدة يحدد راتب رئيس البنك الأهلي المصري باعتباره محافظ البنك المركزي المصري.