أتوقع قريباً من النفوس الصافية أن تُطلق حملة "موسم الهجرةِ إلى الجنوب"؛ بدلاً من إعمار الجنوب وتنمية الجنوب وكل هذا البيض الأزلي، الذي ينم عن جهل بالجنوب وناسه ومصر اللي بجد. أفلام سينما قليلة تلك التي لفت العيون والأنوف والمسامع وكل بوابات الروح إلى هذا الجِدر الضارب؛ وكلها لم تمر على السِت الجنوبية مرور السلامُ عليكوا.. أكثر هذه الأفلام بنظري دعبسةً ونكشاً عن جوهر وعطر هذه الست كان فيلم عرق البلح للمخرج الجنوبي رضوان الكاشف، الذي رحل بعد هذا الفيلم بسنواتٍ إلى البر الغربي. الفيلم يبدأ بتحويلة في النجع تُعيده إلى سيرته الأولى؛ كمجتمعٍ أمومي؛ بسبب هجرة رجاله من البكارة لبوادي الحداثة؛ لجني الكثير من الأموال، وتحقيق الأحلام التي يلقي بها الغرباء العابرون بالواحة في عِب أهلها؛ فيصفصف النجع على النساءِ والأطفال والصبي أحمد والجد الأكبر الذي خلق الواحة ورمى بمنيه فيها؛ فأنجبت أجيال عاشت في ظل نخلاتها العاليات.. صار بنات الواحة يتزوجن من شبابه؛ فالجنوبية لا يجب أن تتزوج من بن بحري هذا بتاع التنمية والإعمار وهدير الحفارات، وسمات الهجرة إلى الشمال، هذا الإختلاط عندما حدث صفصفت الواحة أكثر وأكثر حنى خلت إلا من جميلة بنت سلمى وأحمد، والچدة زاد الخير زوجة الچد الأكبر: أرحام الجنوبيات كظل النخل الذي ما أن وقع حتى أنكشف رعب الشمس؛ فهجرها الجميع، وجف مني الجد. في البداية وجد النساء والصبايا صعوبة في تدوير شئون النجع؛ صعوبة في العودة إلى أصولهِن كربات مدبرات حاكمات، لكن بعد قليل، وبعد علقة أخذها أحمد من رجال النجوع المجاورة الذين تجرأوا على النجع بعد رحيل الرجالة وعجز الچد عن الكلامِ والحركة؛ قادت زاد الخير حركة الدفاع عن النجع بأسلحة السهر والغناء وإشعال النار؛ حتى طرح البلح، وغرست قدم أحمد في لحم العالية، وهزت الجذع والسعف؛ فتساقط البلح الأبيض، الذي لملمته الستات، وصنعن عرق البيبه، الذي ما أن شربه الجد، وسرى في عروقه؛ حتى فارق النجع، وتركه لأهله الأصليين: لنون النسوة، والحفيد المقطوع من شجرة. "لا يغلب لها حيلة".. فعندما إستهزءَ طبال -في فرقة عزف وصيتة من تلك التي تحيي ليالي الجنوب بالموروث والسير- بأحمد الذي دعاه لإحياء إحدى ليالي النجع؛ لأنهم لن يغنوا للحريم في غياب الرجال؛ بشكلٍ ذكوري غضب وشعر بالمهانة، في حين أن لفيف من الستات ذهبن بملابس الرجال وجلب رجال الفرقة خلفه هكذا بمنتهى البساطة، وبنفس البساطة خضعن لمنطق الموروث وغنين بحزن يرثي حالهن بسبب رحيل الرجال "بيبه والصعيد مات.. بيبه خلف بنات". وفي حمى الرقص والغناء فرقت زاد الخير بين شفا وبين الطبال الذي إلتصق بها، هذا التفريق زادها به إلتصاقاً في العتمة، وفي العتمة أيضاً أسقطت حملها بمساعدة سلمى؛ كل هذا رآه أحمد الذي كان يضحك مُبتهجاً عندما إلتصقت شفا بالطبال أثناء الرقص، وبشكل ذكوري غضب من تاني وحمل البندقية رغم تحذيرات زاد الخير بأن من تشيل كتفه البُندقية تظل علامتها عليه لحد مماته، وذهب فضرب دف الطبال بدلاً من رأسه؛ فهرب، لكنه جاء ليلاً مع رفاقه ينشدون "النچع فاتوه الرچالة، والطبال فط على حيطانه"؛ فتوجهت أنظار النساء الساهرات بأسلحة السهر والغناء وإشعال النار إلى شِفا، وزادوا لها في النار حطباً، وأصدرت عيونهم الحُكم؛ فألقت بروحها إلى النار حتى ماتت، وعاد زوجها مع من تبقى من الرجال، الذين شكوا أن أحمد هو من نام معها؛ فأصدورا عليه حكماً مماثلاً بالإعدام، حين أوهموه أن مهر سلمى -التي نام معها فعلاً وحملت منه- هو ركوب العالية بليل، وأثناء ركوبه لها؛ ذهبت زاد الخير لسلمى وجست ثديها؛ فوجدته مليئاً باللبن، عرفت أنها حامل، وأخبرتها بما سيحل بأحمد، ولما سألتها سلمى عن علة عدم قدرتها على إيقاف تنفيذ الحكم؛ أجابت "حُكم رچالة يا بتي.. حُكم رچالة".. وتلك هي المسألة؛ فمهما بان لك دور وتحكم المرأة الجنوبية في مجتمعاتها؛ فإن ذلك كله تحكمه تلك الجملة "حُكم رچالة يا بتي.. حُكم رچالة".. وهذا ما عكسته السينما دائماً عن الست الجنوبية، وعكسه رضوان الكاشف مع تبيان الفارق بين خِسة حُكم الرجالة، ومآل السير خلفه سواء من سار كان راجل أو ست؛ وبين خفة ونبل أو حتى أفق حُكم الستات في اللحظات التي نسى فيها الموروث الذكوري خلف ضهره.