شيطانة الفن تهيم بعقول المبدعين، تعصف بأفكارهم، تجوب المقاهي... تتأمل نظرة شاردة... أو عين لامعة... تتجلى له بلحنٍ في أذنيه... أو إيقاع بعقله... أو صورة ذهنية... أو مجرد فكرة تتحسس طريقها للنور... لا تعرف بعد في أي صورة ستخرج للعالم... مقطوعة... لوحة... تمثال... قصيدة... هي أيضاً تنتظر متعتها، فهي تختار المبدع القادر على التعبير لكي ينشر أفكارها على مريديه... أو مريدي فنه... لكنها اليوم في حيرة من أمرها، ليست الحيرة عن قلة في المبدعين فهم كُثر، ولكن لا مريدين لهم... ومريدي فنهم لا يعرفون السبيل إليهم... ربما كانت اليوم في حاجة إلى شيطانة أخرى... شيطانة التسويق، أو التواصل، شيطانة القيمة... أنا الذي نظَرَ الأعمى إلى أدبي ... وأسْمَعَتْ كلماتي مَنْ به صَمَمُ هكذا كان المتنبي يتفاخر بشعره في عصر لم يكن هناك من يتحدث العربية ولا يعرف المتنبي، ولكن العصر تغير... ولم تعد المجالس الأدبية والفنية تعقد ليتبارى الشعراء والأدباء والمبدعين ويتلقون الهدايا والهبات، بل أصبحت المجالس الإبداعية تناقش "الأزمة" والحظ العثر... أصبح المبدعون يناقشون أموراً لا علاقة لها بالإبداع من قريب أو بعيد، فأزمتهم ليست في الإبداع والتنافس بل في الوصول للمتلقى... وأصبحت الثقافة من وجهة نظر المبدع هي السلعة المحرمة في مجتمعات كانت ذائقة للفن وصانعة للحضارة... وأصبحت الثقافة من وجهة نظر المتلقي هي السلعة التي يجب حماية الأطفال منها لتدني معروضها... وأصبحت الثقافة في المجتمع هي قضية الحد الأدنى من إلتزام الدولة وتلخصت في كثير من الدول في مراكز متخصصة لا يعرف عنها أحد... فانقسمت الثقافة لثقافة المجتمع، والمنفصلة تماما عن ثقافة المثقفين... وفي مساحة من التيه بينهما يقاوم المبدعون الغرق. في الموارد الطبيعية يكون التميز في الندرة، أما في الإبداع فإن التميز يكون في الاختلاف، وبرغم كون الأفكار والقضايا الإنسانية تكاد تكون مرصودة إلا أن النظر إليها والتعبير عنها يتم بتنوع في مدارس التعبير، وبدرجات متفاوتة من الرمزية للواقعية، حتى درجات التفصيل واتجاه اقتحام الفكرة، كالفلسفة فباختلاف المدارس الفلسفية عنيت جميعها بدراسة جدليات أساسية تميز المدرسة، كقضية الخلق... الأخلاق... الموت... وتأتي قضية الأخلاق لترسم ملامح المجتمع، ويأتي المجتمع ليعبر عن ثقافته المستمدة من موروثه المجتمعي، وعاداته وتقاليده، وديانته، وقوانينه المستمدة من كل ما سبق، ويأتي المبدع من قلب المجتمع معبراً عن ثقافته بأدواته، أو متمرداً على تقاليده أو عاداته، فيضع المبدع المجتمع دائما في حالة مواجهة، نقدية... ثائرة... وربما أيضاً ساخرة... فيساهم المبدع في إثراء الثقافة المجتمعية من جانب، وفي تصحيح سلوكياتها من جانب آخر، حتى أنماط الاستهلاك تتأثر بالثقافة المجتمعية... وهنا تأتي نقطة الصدام الأولى بين ثقافة المجتمع وأنماط الاستهلاك. يعتقد البعض أن صناعة الكتاب مثلا من الصناعات غير المربحة، وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة فهي من الصناعات الأكثر ربحاً إذا زارتها شيطانة التسويق، لكن تسويق الكتاب ونشر الثقافة سيعود بالثراء على صناعة الكتاب ويؤثر بالسلب على العديد من السلع الاستهلاكية، فتكون النتيجة الإجمالية شعوب راقية بثقافات عميقة وغير استهلاكية فثقافة الإبداع لن تتوقف حينها على الإبداع الفني والأدبي، بل سيرى الطبيب متعة في التشخيص، ويرى المهندس جمال اختلاط المواد، ستمتع الأرقام عقل المحاسب، ويتخلص المجتمع من مزاحمة العبث بأنماط الاستهلاك بعقله، فيستمتع بالعمل... بالفن... بالأدب... والجمال. وحينها لن تتعارض ثقافة المجتمع الرأسية النابعة من موروثه الحضاري والإنساني، مع الثقافة الأفقية المستمدة من الجوار الإقليمي... وتناغم مع الثقافة الإنسانية بوجه عام، والثقافة الإنسانية كانت مدخل نشر ثقافة العولمة... وهنا نقطة الصدام الفكرية ضد ثقافة المجتمعات. وهنا تأتي مأساة الوحي... وأزمة المبدع، فلكي يجتاز عقبة المحلية ويخرج للعالمية عليه استبدال شيطانة شعره، بأخرى عالمية... ويبدأ الصراع داخل المبدع بين الموضوعات المثيرة لحسه الإنتاجي وقدرته الإبداعية وبين ما يراه من الأعمال الناجحة بمقياس التسويق والشهرة... من خلال طبيعة الأعمال التي تحظى بجوائز في المسابقات... وطبيعة الأعمال التي تحظى بتطور في العرض من المقروء للمسموع ثم للمرئي، هو يفهم المعادلة جيداً، ويعرف معنى الأدب أو الفن العالمي، لكن يدرك أيضاً إنه اتجاه يخرج من حدود الجغرافيا ومؤثراتها والتاريخ ومؤثراته، لكن ما يتخطى إدراكه، أو ما يرفضه كمبدع أن يكون هذا هو الاتجاه الوحيد لتخطي حاجز العزلة الإبداعية... لمقهى... السوق... المشربية... ماسح الأحذية... الغجر... بائع العرقسوس... فانوس رمضان... راقص التنورة... صانع الفخار... النحاس المطروق... الخشب المخروط... صانع البخور... الصيادون... الفلاحون... سمرة الصحراء... عيون المها... حتى رأئحة المدن وحوادث الطرق، مؤثرات ومصادر إلهام على المبدع التجرد منها... حتى في بناء شخصياته يجب أن يفكر في خلفيات محايدة لا تتعلق بموروث شعبي أو خلفية حضارية بعينها، لينتقل من عزلة مجلس المثقفين إلى رحابة العلاقة بين المبدع والمجتمع، فتنفرج أزمة المبدع ويتسبب في كارثة أكبر للمجتمع... وحين يبدأ المجتمع في الانفصال عن تاريخه وجغرافيته... يفقد تدريجياً ثوابت مكونات الشخصية، وبل ويفقد أيضاً واقعه فكل ما يتعرض له ثقافياً هو ثمار لم تنبت في أرضه، فينفرط العقد وينقطع الخيط الذي يربط طبقات المجتمع الواحد، فتعيش الطبقة الراقية مجتمع معولم مجرد منفصل عن باقي الطبقات، في الملبس، والمسكن، والطعام، ونوعية الفنون والآداب... وتنظر تلك الطبقة المنفصلة بفعل العزلة الرأسمالية أو تأثير العولمة لبقية المجتمع كما ينظر السائح لفلكلور شعبي قد يعجبه ويستمتع به دون انصهار أو تفاعل مجتمعي حقيقي، ويكون مثقفوا تلك الطبقة هم المغامرون الذين يقتحمون أسرار المجتمع ويفهمون لغته وثقافته وفنونه، بينما تنظر بقية الطبقات لهذا المغامر وكأنه سائح يتحدث بلغة المجتمع ولكن بلكنة المتعلم وليس العارف، فيلقى حفاوة الترحاب تارة، ويتعرض للتحايل تارات عدة، أما هو فيدفع تكلفة متعته سواء بقيامه بدور المستكشف الجريء في حركته من أعلى لأسفل، أو بقيامه بدور العراف في حركته من أسفل لأعلى. وفي إنفصال المجتمع ثقافياً تتعرض الطبقة المتوسطة المفترض كونها حلقة الوصل وقناة الربط بين الطبقة الراقية والطبقة الكادحة لحالة من الإزدواجية، فتعيش نصف حياة المجتمع الراقي بالانفتاح والتجريد والتسامي عن التفصيل، ونصف حياة الطبقة الكادحة بارتباطها بجذور المجتمع بثقافته الشعبية وصناعاته وحرفه، حتى لغة الطبقة المتوسطة تزدوج فتتكلم لغتين، لغة الإنسانية المعولمة، ولغة الشارع الشعبية، وتبدأ الطبقة المتوسطة في السقوط لتكون امتداد للطبقة الكادحة، أو في القفز لتكون ذيل الطبقى الراقية، وفي سقوطها أو قفزها يكون خلاصها من حالة الازدواج، وما يتبقى منها في المنتصف تحت تأثير الإزدواج الثقافي تتأثر منظومة قيمها بشكل رئيسي وبالتالي تخبط السلوك، وتكون نظرة المجتمع للطبقة المتوسطة من أعلى كأنها طبقة الفاعلين، ومثقفيها هم مرجعية مناسبة للطبقة الراقية، ولا توجد اختلافات فكرية جوهرية تعيق تواصل البعض من الطبقتين ذهنياً، حتى تتعلق قضايا المناقشات الثقافية لما يمس مشكلات المجتمع الجامع لهما، فما تراه الطبقة المتوسطة واقع يحتاج لتغيير أو أزمة تحتاج لعلاج، تراه الطبقة الراقية قضية إنسانية لا يمكن تعميمها، وما تراه الطبقة المتوسطة دور الدولة في الحفاظ على هوية وثقافة المجتمع، تراه الطبقة الراقية واجب فردي على كل شخص في المجتمع السعي لتغييرواقعه أو الحفاظ عليه... وينتهي إنفصال المجتمع بالطبقة الكادحة، وهي شريحة عريضة ومتنوعة وفق تنوع المجتمعات داخل الوطن الواحد من ثقافات ساحلية أو زراعية أو صناعية أو حرفية، بكل ما تحويه كل ثقافة من عناصر منتجة أو باطلة، ربما هي الأكثر ارتباطاً بالموروث الحضاري والثقافة الشعبية الحقيقية في المجتمع، ولأنها طبقة كادحة فقدرتها على تناول ثقافة الطبقة المتوسطة المحدودة ضعيفة، أما قدرتها على تناول ثقافة الطبقة الراقية فشبه منعدمة، ترى تلك الطبقة باقي الطبقات بشكل إقتصادي فقط، والمتواصل معها من مثقفي الطبقى المتوسطة تعرِفَه بإسم "إبن بلد" وقد ترى الطبقة المتوسطة أحيانا كطبقة رأسمالية مستغلة، رغم معاناة أصحابها وكدهم للعيش، وما تراه الطبقة الكادحة من ثقافة الطبقة الراقية بشكل مباشر هو ما تراه من السائحين وكأنهم من عالم آخر وقد لا يصدقون أنهم يعيشون في نفس الوطن... كما أن إدراكهم أن طريقة حياتهم القدرية والغير مخططة مجرد فلكلور لإمتاع طبقات أخرى يخلق مجموعة من السلوكيات العدائية المبنية على الأحقاد، وتظهر عادة في الاستغلال، والتحايل بهدف التعويض من ناحية وبرغبة الخروج من تلك الطبقة الاجتماعية ذاتها. الثقافة هي أحد أهم القضايا في كل العصور للحفاظ على الهوية والموروث الحضاري والتجربة الإنسانية، ويكون لقاء الثقافات أو تقاطعها، هو إثراء للتجربة وليس لفرض ثقافة على أخرى، للجميع أدوار بداية من صناعة الأدوات وحتى إتاحة المجال للمنتج الإبداعي.. وبين الصناعة والإتاحة مجتمع يتناغم أو يتنافر، ومبدع يتمرد ويثور أو يتفاعل فيساير أو يغاير، ورؤوس أموال تبحث عن حصتها من إجمالي الأسواق، ودول تحتاج الحفاظ على ثقافتها وأخرى تسعى لنشرها وأخرى تحاول القضاء على ثقافات أخرى، ومتلقي يتذوق فيقبل أو يرفض، وشيطانة فنٍ تجوب المقاهي... وتَعِد المبدعين بأن الوحي سيأتي يوماً من الشرق.