فكرت أن أقول ما ستطالعه فى هذه السطور أمام جامعة القاهرة السبت الماضى.. لكن إذا كنت قد فعلت ذلك فربما لم أكن سأخرج دون اعتبارى من المفسدين فى الأرض.. ولكن تعالوا نناقش بعض مواد الدستور الجديد بموضوعية وتجرد. مبدئيًا الاستقرار معناه أن غالبية شعب مصر ستحصل على حقوقها، وعندما يضيع من مواطن حق سيعرف كيف يسترده أو يحصل عليه بالقانون، فيشعر بالرضا ويطمئن لمستقبل أولاده، ويضمن أن الدولة حاضرة إذا احتاج إليها لتسانده، ويشعر أن فرص زيادة دخله متوافرة، والمعيار الوحيد لذلك ليس هو الوساطة أو المحسوبية بل مجهوده وكفاءته، ويثق فى أن الظلم لن يسطر تفاصيل، وإن تعرض له يعرف كيف يواجهه. كلنا متفقون حول هذه المعانى النبيلة، ودون تحقيق كل هذه الغايات النبيلة، فلن يحدث استقرار حقيقى فى بلدنا، بل سنعيش فى حالة هتاف ومظاهرة وراء مظاهرة، واعتراضات ومصادمات مستمرة، حتى ينتهى الأمر بنا إلى ثورة أخرى. فالشعب لن ينتظر 30 سنة مثلا أو يسلم ويعتبر ما حدث «قضاء وقدر».. فقد عرفنا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.. وبالتالى سننتفض للتغيير لو لم نحصل على حقوقنا كاملة. هل سيحقق الدستور المقترح ما نريد أم لا؟.. الأمن.. «المواطن فى قبضة الشرطة» * حقك الإنسانى فى العيش آمنًا سيصبح غير مضمون بالمرة، طالما من حق ضابط الشرطة، أنه يقبض عليك دون أن يخبرك التهمة، ويحتجزك فى القسم 12 ساعة كاملة، يعمل فيك خلالها ما يريده بما لا يخالف التوقيت. لكنه لا تنسى أنه أيضًا سيكون الميقاتى الوحيد الذى يحدد متى تنتهى ال12 كما سيحدد متى بدأت. وساعة الشرطة ليست أدق من يوم الحكومة، ومع أنه من المفترض أن فى جيبه أمرًا مسببًا من القاضى، لكن لا يوجد أى سبب يمنعه من أنه «يديهولك»، حتى لو كان ذلك فى الوقت الضائع.. «مادة 35». وأبسط حقوقك غير أنك تعرف لماذا قبض عليك؟. أنك تتحقق من شخصية من يقبض عليك، وتعرف مكان احتجازك، وأن يكون لديك فرصة لإبلاغ من تريده، وأن يتوفر لك محام أثناء استجوابك فى القسم. فهذه أبسط الحقوق، المسلم بها ولا جدال حولها. «الرئيس هو الشرطة».. * حقك فى ألا يكون جهاز الشرطة فى بلدك فى خدمتك فعلا وليس كرباجًا فى يد السلطة. ولكى يتحقق هذا لا يمكن أن يكون رئيس الجمهورية هو رئيس المجلس الأعلى للشرطة.. وأنت تعرف طبعًا أن فى ذلك استنساخًا وتكرارًا لأساليب نظام مبارك / العادلى.. فلماذا لا يكون رئيس ذلك المجلس الأعلى هو وزير الداخلية أو يكون اختياره من بين القادة الأعضاء فيه.. لأنه مجلس يتكون من متخصصين فى المقام الأول وليس سياسيون.. «مادة199». السكن.. «عشوائيات جديدة» بما لا يخالف الدستور * حقك الإنسانى فى أن يكون لك مسكن آمن وصحى، يحافظ على آدميتك وخصوصيتك، وبه جميع المرافق وقريب من مدارس ومستشفيات وأماكن خدمات حكومية أخرى ومن مناطق عمل، للحد من فكرة الهجرة الداخلية للعاصمة أو المدن الكبرى.. كل هذا غير مضمون بالمرة لأن المذكور فى الدستور «مسكن ملائم» فقط، دون إلزام الحكومة بتوفير اشتراطات عامة يمكن محاسبتها على أساسها فى حالة عدم توفيرها مثل مياه الشرب.. والكهرباء.. وهو ما يسمح بظهور عشوائيات جديدة، وعدم البدء بطرق علمية فى حل ظاهرة العشوائيات المستفحلة. «مادة 67». التربية والتعليم .. «على مزاج السلطة» * حقك فى أن يذهب أولادك للمدرسة ويحصلوا على خدمة تعليمية حقيقية، تبنى شخصياتهم وتطلق قدراتهم وملكاتهم وترعى المتفوقين منهم. كل هذا غير واضح أو مؤكد. فهناك أمور كثيرة تركت لمزاج السلطة التنفيذية بدون أى إلزام عليها، مثلما هو الحال فى الدساتير الأخرى، ولا يخفى عليك أن هذا وجد حتى لا يمكن محاسبة الحكومة. «مادة 58». الصحة.. «العلاج حسب التساهيل» * حقك فى أن تجد العلاج الملائم بغض النظر عن موقعك على الخريطة فى مصر. أيضًا غير مؤكد. فلا يوجد إلزام واضح للدولة مثل الدساتير الأخرى، باشتراطات عامة وتوجهات واضحة برفع ميزانية الرعاية الصحية، وليس بمجرد ذكر تخصيص نسبة «كافية من الناتج القومى».. فمن يحدد أنها كافية؟ «مادة 62». الأجور.. «سلفنى شكرًا» * حقك فى أن الحد الأدنى من الأجر يوفر لك «حياة كريمة». وأن تكون معادلة الإنفاق على متطلبات المعيشة مما لا يفسد جهاز الكمبيوتر إذا طلبت منه حل هذه المعادلة.! وكان يجب ألا تترك كلمة حياة «كريمة» فى يد السلطة التنفيذية لتحدد وحدها معايير هذه الحياة.. وذلك على العكس من دساتير أخرى، لدول مثل البرازيل وضعت اشتراطات وهى على وشك الإفلاس. وفى الدستور المصرى كان يجب وضع إطار عام يلتزم به قانون تحديد الحد الأدنى، وأن يكون مرتبطًا بالأسعار وله قوة شرائية ثابتة. وأن يكون مشبعًا لجميع الاحتياجات الإنسانية، ويتم ذكرها مثل المسكن والغذاء والرعاية الصحية، فأين نحن من كل هذا؟ «مادة 14». مساءلة الرئيس.. «الشكوى لغير الله مَذَلة» * حقك فى أن المسئول المخطئ ينال عقابه فورًا. أين هو فى ظل أن السلطة التنفيذية فى الدستور هى التى تراقب نفسها، بعد حذف دور المجتمع المدنى تمامًا فى الرقابة. بل وأصبح رؤساء الأجهزة الرقابية يعيَّنون بواسطة رئيس الجمهورية ومجلس الشورى. مع أن مؤسسة الرئاسة والشورى من الجهات الخاضعة للرقابة، يعنى الرقيب يعين بواسطة المطلوب مراقبته. فأى منطق هذا؟! يعنى منحوا الخاضع للمراقبة مفتاح الرقابة. فلا تعرف لمن تشكى من؟. وتتحقق مقولة الشكوى لغير الله مذلة. «مادة 202» الصحافة «ضرة» * حقك فى أن تكون صحافتك حرة مستقلة، توعّيك وتكشف لك الفساد وتكون رقيبًا شعبيًا يعبر عن صوتك بالفعل ويتابع ممارسات السلطات ويكشف الانحرافات، كسلطة رابعة مثل الدول المتقدمة. لكن للأسف سنعيد إنتاج سيطرة رئيس الجمهورية ومجلس الشورى على الإعلام بتعيين رئيسى الجمهورية والشورى رئيس المجلس الوطنى للإعلام، وسيكون منصِبًا مسيّسًا تمامًا خاضعًا للأغلبية النيابية. «المادتان 202 و215» الحرية النقابية.. «الحل هو الحل» * حقك فى أن تدافع نقابتك عنك، ويكون دورها من أجلك سيضيع، لأن يد السلطة ستكبلها وستتدخل فى أمورها. وفى الدستور العجيب مادتان مادة منهما تقول عمومًا «أنها مع حرية النقابات».. ثم مادة تتبعها مباشرة تضع شروطًا لهذه الحرية والاستقلالية وتجعل حلها أمرًا أسهل من الدعوة لانتخاباتها.. إذا لم تصدق.. فى الدستور لتعرف أنه جاء بعجيبة الدنيا الثامنة.. حيث المادة «52» تنص على حرية النقابات واستقلالها، ولكن التالية تقيد هذه الحرية وتجعل «حل النقابات هو الحل». «المادتان 52 و53». مرتبات الكبار .. (أمن قومي).. «والميزانية (سرى للغاية) * حقك فى الحصول على معلومات عامة حول إيراد بلدك ومصاريف حكومتك، ومرتبات مسئوليك ومكافآتهم وعلاواتهم، وعن المناقصات الحكومية وتفاصيلها بمنتهى الشفافية، بما يكشف الفساد بسرعة. كل هذا مقيد باعتبارات «أمن قومى» هلامية، الله أعلم من سيحدد معاييرها. وحتى اعتبارات الأمن القومى الحقيقية سترفع دائمًا شعار «سرى للغاية». دون تحديد فترة زمنية يتم كشفها بعدها، لنعرف من اتفق على ماذا ومتى. «مادة 47». الانتخابات.. «نزيهة ماتت» * حقك فى أن تكون الانتخابات نزيهة ونزاهتها مضمونة، بوجود قاضى على كل صندوق، ووجود رقابة من منظمات مستقلة على العملية الانتخابية. كل هذا غير مضمون أو منصوص عليه صراحة، وسيبقى ممكنًا جدًا العودة إلى زمن «اللجان الفاضية» ونسبة ال 99.9% الله لا يرجعها. «مادة 55». الرئيس.. «فوق الجميع» * حقك فى أن يُعامل رئيس الجمهورية كمواطن عادى، وليس كمواطن مختلف ومميز، إذا ارتكب جناية معينة، وليس فسادًا سياسىًا. مثلا أى إذا سرق.. قتل.. أو اغتصاب.. إلخ. عليك أن تنسى هذا الحق.. فلا يمكن محاكمة الرئيس رغم توافر الأدلة إلا بعد موافقة ثلثى أعضاء مجلس الشعب، أى إنه قرار سياسى مع أنها جناية، بل إنه بعدها سيمثل أمام محكمة يكون ممثل الادعاء فيها الذى يوجه الاتهامات هو النائب العام، الذى يعينه الرئيس بقرار منه، وليس أمام محكمة الجنايات كأى مواطن مصرى. «مادة 152». يعنى أيه استقرار؟ كل هذه الحقوق وحقوق عديدة غير منصوص عليها صراحة، وأمور أخرى بها عوار واضح يجب التصدى له بقوة، لأن هذا العوار ذاته هو الذى سيجعلنا نعيش فى ديكتاتورية مستمرة.. خصوصًا أن هذا الدستور للمستقبل وليس فقط للفترة الحالية. فكروا بمنتهى الموضوعية.. إذا المواطن المصرى لم يحصل على تلك الحقوق كلها.. هل سيسكت؟ أم إنه سيتظاهر ويعترض وتتحول المطالب الفئوية إلى مطالب شعبية، وندخل فى دوامة من عدم الاستقرار حتى تقوم ثورة أخرى. مادام حقك غير ملزم للسلطة التنفيذية، وأمنك وكرامتك وآدميتك مهددة دائما.. فهل هذا يسمى استقرارًا؟ إذن ما هو البديل وما الحل؟ الحل بسيط جدًا، وهو أن يظل دستور 1971، مع تعديلات استفتاء الإعلان الدستورى فى مارس 2011، الذى به آلية انتخاب مجلس شعب، وإلغاء الإعلان الدستورى الذى أصدره الرئيس ل«يكوش» على كل السلطات فى يده. فى هذه الحالة لن نخسر شيئًا.. وسيتم انتخاب مجلس شعب ونمارس حياة مستقرة فعلا، فى ظل اختيار آلية أخرى لكتابة دستور محترم وحقيقى فى أجواء أكثر هدوءًا، وتظل السلطة التنفيذية ملزمة بتحقيق الطفرة المأمولة، ولا تتمتع بوجود رخصة دستورية لها بعدم الالتزام بأى شىء على الإطلاق، خصوصًا فى ظل وجود فساد واضح فى عملية بناء مؤسسات الدولة، مما سيضطرنا إن آجلا أو عاجلا إلى هدمها بثورة أخرى، لأنه حتى آلية تغيير الدستور ليست فى أيدينا. «مادة 217». التمثيل الشعبى فى البرلمان «غير مضمون».. تخيلوا هل كان يمكن أن يطلب من مجلس شعب «حسنى مبارك»، أن يقوم ثلثا أعضائه بطلب تغيير مادة من مواد الدستور.. بالطبع كان سيحل المجلس كله، وهى بالمناسبة نفس الصلاحية المعطاه لرئيس الجمهورية فى المسودة المقترحة «المادتان 139 و150 فى تعارض مع المادة 127».. وبمراجعة مادة الانتخابات المذكورة عاليه «رقم 55» ستجد أن التمثيل الشعبى الحقيقى للبرلمان فى خطر، وليس مضمونًا أبدًا. الدستور عبارة عن مرحلة تطهير الأرض من أجل البناء الصحيح.. ولو طهرنا صح وبنينا غلط سنفشل أيضا، ولو طهرنا غلط عندما نعود للبناء سنجد قذارة التربة وفسادها قادرة على هدم أى بناء نبنيه.. وسنضطر إلى القيام بثورة من جديد ونهد كل شىء لنعمل تطهيرًا من أول وجديد.. تجارب البرازيل وتركيا وجنوب إفريقيا والهند أثبتت أن التطهير الصحيح هو بداية الحل الصحيح، ومن الحكمة أن نستفيد من تجارب غيرنا. من الآخر.. «لا» للدستور هى الحل. إذا ظننت أن «نعم» هى الاستقرار، فتذكر «كل نعم» سابقة فى عهد مبارك، وأعد التمعن فيما جاء بهذه المقالة، حتى نصل لنتيجة منطقية واضحة ونخرج من دائرة الاستقطابات واللعب بالشعارات من كل التيارات. «لا للدستور هى الحل».