فى حضور الذات المبدعة وتفاعلها مع أسئلة الواقع وحركته وتيارات التاريخ وأمواجه ورفض الممارسات الشائعة لبعض المحسوبين على النخب الثقافية والمنخرطين في صراعات مشوهة بحثا عن وجود صناعي ومكانة منتحلة، ثمة رجال يجسدون نموذج "المثقف القابض على الجمر والباحث عن الحقيقة"، في مواجهة "المثقف الرث الذي يضع الحقيقة رهن إشارة المنفعة الخاصة".. رجال قاوموا السقوط مثل الكاتب الألباني إسماعيل قدري. ومع ظهور الطبعة الانجليزية لرواية "سقوط المدينة الحجرية" مؤخرا -يقول الكاتب والناقد الأرجنتينى الأصل البيرتو مانجويل فى صحيفة "ذي جارديان" البريطانية إن قارىء الرواية الجديدة لإسماعيل قدري يجد نفسه في عالم الأحلام والواقع، حيث التاريخ يسير جنبا الى جنب مع الخيال ووقائع الحياة. وكما اعتاد إسماعيل قدري في رواياته التي تجاوزت ال20 رواية، فإن "سقوط المدينة الحجرية" يحتشد فيها حضور الماضي وهو يصنع "ألبانيا التي يعرفها".. الوطن الذي يعاني من تعاقب أنظمة الحكم الاستبدادية: من الإحتلال العثماني إلى الغزو الفاشي الإيطالي، فالهيمنة النازية الألمانية، ثم الحكم الشمولي الشيوعي. واسم إسماعيل قدري مطروح منذ سنوات على قوائم التكهنات السنوية لجائزة نوبل للآداب، ويبدو أن صاحب رائعة "جنرال الجيش الميت" لم يمل الانتظار، فيما تتوزع أعماله بين الرواية والقصة والمسرح والشعر وترجمت بعض رواياته الى نحو 30 لغة.وإبداعات قدري منذورة لمحاربة الطغيان ومناوءة الديكتاتورية والتنديد ببشاعة العدوان على الحرية عبر توظيف مدهش للتاريخ والأسطورة ولغة شاعرة، كما يتبدى في روايته "سقوط المدينة الحجرية". ولد اسماعيل قدري عام 1936 في مدينة "جيركاستير" جنوب ألبانيا ودرس الأدب في جامعتي تيرانا وموسكو واضطر لنشر أغلب أعماله في الخارج قبل لجوئه الى المنفى الباريسي عام 1990. وفي رواية "سقوط المدينة الحجرية"، التي ترجمها من الفرنسية للانجليزية جون هودجسون، تتجلى معاني المقاومة، فيما تحول المقاومون الألبان من مقاومة المحتل الإيطالي إالى مقاومة المحتل الألماني حيث ينتشر القناصة من رجال المقاومة لاصطياد راكبي الدراجات النارية من الجنود في الجيش النازي. والرواية تستدعى التاريخ وهدفها الحاضر، ففي عام 1943 وقعت إيطاليا الفاشية على اتفاق تنازلت بمقتضاه لحليفتها ألمانيا النازية عن ألبانيا، والمثير للسخرية أن الجنود الألمان دخلوا ألبانيا في صورة محررين لهذا البلد الذي كان يخضع للإحتلال الإيطالي منذ عام 1939. وكانت المحطة الأولى للجنود الألمان داخل ألبانيا هي مدينة "جيروكاستير" الحجرية، فيما حمل طبيبان فى المدينة الإسم ذاته وهو "جيوراميتو" وللتمييز بينهما أطلق على أحدهما اسم "الدكتور جيوراميتو الكبير"، وسمي الآخر "الدكتور جيوراميتو الصغير"، كما يحكي إسماعيل قدري في روايته التي تحظى بحفاوة فى الصحافة الثقافية البريطانية. ولدهشة الجميع في المدينة الحجرية، تبين أن القائد النازي فريتز فون شفابل، كان صديقا قديما للدكتور جيوراميتو الكبير منذ أيام الدراسة، ودعا هذا الطبيب صديقه القديم على العشاء في منزله في وقت كان جيش الاحتلال الألماني يحتجز مائة شخص من أبناء مدينة "جيروكاستير" كرهائن ردا على عمليات المقاومة. ورغم كل شىء، يلبي القائد العسكرى النازي دعوة جيوراميتو الكبير الذي يقنعه بإطلاق سراح الرهائن، ومن بينهم صيدلي يهودي، عشية مغادرة القوات الألمانية مدينة"جيروكاستير" . ورغم عدم وجود أي منافسة بين الدكتور جيوراميتو الكبير والدكتور جيوراميتو الصغير، فان سكان المدينة الحجرية يشيدون بالأول ويعتبرونه بطلا أنقذ مدينتهم، بينما تكون السخرية من نصيب الدكتور جيوراميتو الصغير. وتمضى الرواية الى ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث يتهم نظام الحكم الشيوعي الجديد الدكتور جيوراميتو الكبير بالتعاون مع المحتل النازي، غير أن الطريف أن السلطة الاستبدادية الجديدة لم تكلف نفسها عناء التمييز بين الطبيبين، فأعتقلتهما وعذبتهما معا. لم يقترف الدكتور جيوراميتو الصغير إثم دعوة القائد النازي على العشاء ولم يكن يعرف الجنرال فريتز فون شفابل الذي قتل في معارك الجبهةن ومع ذلك فقد ذاق ألوان العذاب لمجرد أنه يحمل اسم "جيوراميتو".. فالإستبداد لا يميز. إنها "ألبانيا قدري" بحجارتها وحيث الميت والحي، أو الماضي والحاضر يتبادلان الأدوار، بينما تتطاول الأكاذيب في ظل الطغيان وينتعش كل دعي وتروج تجارة الإفك ويرتاب الناس في بعضهم البعض وهميؤخذون بالشبهات. فالمدينة التى يحكمها الطاغوت كما يصنعها إسماعيل قدري ببصيرة الإبداع هي مدينة الوشايات والشائعات والمكائد والمؤامرات والخيانات، فيما الحكايات القديمة الجديدة أو الجديدة القديمة تلقي بظلال الشك على كل شىء بما في ذلك التاريخ ذاته.هكذا لا أحد يعرف ما إذا كانت الفتيات في القرى يتعرضن للخطف ويتم اقتيادهن إلى مدينة "جيروكاستير"- كما يقال- أم انهن جئن للمدينة الحجرية بغواية الإنحراف في انسياق إرادي.. أي أحلام تراود هؤلاء الفتيات القادمات من الريف للحضر؟ هل يعشن داخل المدينة بمتاهاتها الحجرية في حزن، أم سعادة؟ لا أحد يعرف الحقيقة رغم أن الكل يتجسس على الكل! كأن الحقيقة ماتت في ظل الاستبداد. لكن حقيقة إسماعيل قدري ساطعة ولم يتمكن منها الطغيان، فهو كما يقول الناقد البيرتو مانجويل مازال قادرا على إهداء المتعة لقرائه بروايات يبدو فيها الخيال التاريخي كأنه الواقع فيما تبيح الضرورة الإبداعية خروجه على قواعد تعارف عليها البعض وتتحول أحيانا الى قيود تكبل الخيال. ومن هنا لا يلتزم إسماعيل قدري في رواياته بحرفية التاريخ المدون، وقد يعيد في أحيان كثيرة صنعه أو يشكله مجددا بعيدا عن روايات المؤرخين بحذافيرها لتتبارى الأسطورة والتاريخ، كما أن معاصري قدري ليسوا فقط ضحايا وطغاة عصره الحزين وإنما أيضا نساء ورجال حاربوا في مشاهد أسطورية بالملاحم الألبانية. في كتاباته لا يمكن عقد تلك المقارنات السطحية والسهلة بين الماضي والحاضر، وإنما فهم عميق للمأساة الغنسانية فى استمراريتها وسيولتها، فيما تبدو الحدود بين الواقع والحلم مراوغة ومتداخلة حتى الصفحة الأخيرة إلى أن تأتي لحظة الكشف في آخر لحظة. وليست رواية "سقوط المدينة الحجرية" بعيدة عن ذلك كله، كما يقول البيرتو مانجويل، صاحب الكتاب الشهير:"تاريخ القراءة"، وهو يتحدث عن صاحب "الاستفزاز وأشياء أخرى"، و"الشتاء الكبير"ن و"حفل نهاية الفصل"، و"طبول المطر"ن و"قصر الأحلام"، والحائز على جائزة "مان بوكر" عام 2005 وجائزة "أمير استورياس" الأدبية الأسبانية في عام 2009. هذا رجل رفض التواطؤ على الذات وعلى الواقع في ذروة زمن الاستبداد ببلاده وتحمل محنة الطغيان التي تنال من بعض المثقفين وتجتاح أحيانا المواقف والتصورات والآليات الذهنية وحتى الثوابت.. تحية لإسماعيل قدرى المثقف الباحث عن الدور لا المقعد، والذي لم يتهافت أبدا على مائدة السلطة رغم أنها راودته كثيرا عن نفسه!