يجلسون تحت الحوائط العتيقة، الجلابيب البيضاء، فى منتصفها شيخ تجاوز الستين، وإلى جواره رجل فى نحو الخمسين، يدق على «الرِق »..يصطفون حول بعض الطعام، يقدم لهم دون مقابل. مساكنهم تؤويهم مجانا، وطعامهم يصل من دون مشقة أو جهد، ولا دور لهم إلا إقامة حلقات الذكر والإنشاد الدينى والمدائح، وتستمر حياتهم ما بين الطعام والذكر، فى «بيوت الخدمات » مجهولة التمويل، التى تحمل مسمى «الساحات »، وتعد بديلا عن «التكية » التى عرفها المصريون، من خلال أعمال درامية، مثل: "سعد اليتيم " و "الحاجة كرامات ." وتتواجد «الساحات » فى المناطق الشعبية بالقاهرة تحديدا، ومن أبرزها: أحياء السيدة زينب والحسين والموسكى، وتنشط أكثر فى الموالد، حين يهتم المؤمنون ببركة أولياء الله الصالحين، بخدمة وإطعام الفقراء والمساكين. "الصباح " رصدت عالم «تكايا القرن الحادى والعشرين » للتعرف على طقوسه ومصادر تمويله، خادمو التكية لا يتقاضون أجرا ويحتسبون عملهم تقربا لآل البيت.. والطعام «فتة باللحم » أو "فول نابت" كانت البداية فى مسجد «سيدى صالح الجعفرى »، التابع للطريقة الجعفريالأحمدية بالحسن، تقام فيه إحدى هذه التكيات، بصورة الحضرات والخدمات يومى الأحد والخميس أسبوعيا، على مدى أشهر العام. ويتوافد أتباع الشيخ صالح الجعفرى، من شتى محافظات الجمهورية، يومى الأحد والخميس، حيث تنطلق المراسم منذ بداية اليوم بذكر الله وتاوة الأوراد المتعارف عليها، وبعض الأناشيد الدينية الخاصة بهم، ثم ينزلون إلى أسفل المسجد حيث توجد الساحة، ويجهز عدد من أتباع الشيخ صالحالجعفرى الطعام )صوانى الفتة واللحم(، ثم يحتسون الشاى بعد ذلك، وتبدأ جلسات الذكر، بانطلاق المنشدين إلى الخارج، فيما يبقى بعضهم داخل الساحة، لأخذ قسط من الراحة، تمهيدا لخروجهم بعد أن ينال الإرهاق بالفريق الأول. هكذا يعيشون: أكل ونوم والصنعة «الإنشاد والذكر ».. فمن أين يأتى التمويل؟ إمام المسجد يجيب عن سؤال محرر«الصباح » قائا: ليس لك شأن بمصادر التمويل.. «عايز تاكل اتفضل وبعدين اتوكل على الله ».. لكن مصادر مقربة من الإمام قالت: إن الشيخ محمد الجعفرى، يتولى الإنفاق على «الساحة » ويقدم المال الازم لإقامة حلقات الذكر فى مواعيدها.. لكن سؤالاً آخر لم يجب أحد عنه، ألا وهو: من أين يأتى الشيخ بالمال؟ هذا سؤال بلا جواب، كذلك السؤال حول المستشفى الخيرى، التابع لمسجد الشيخ صالح الجعفرى، الذى يعالج المرضى مقابل رسوم رمزية. أما بالنسبة لخدمة الساحة، فيتولاها تابعو الطريقة الجعفرية، من دون مقابل، وهم يحتسبون عملهم تقربًا إلى الله عز وجل، وأوليائه الصالحين. ولا يتقاضون راتبا رسميا مقابل تلك الخدمة. شقق التكية! نوع آخر للتكايا، يمثل شقق التكايا، وعددها ثلاث شقق بإحدى العمارات الكبرى تتاخم مسجد الحسن، حيث توجد شقق الشيخ الأنصارى التابع للطريقة البرهامية الصوفية. على باب كل شقة، يوجد ملصق مكتوب بخط جميل: «أنا ضيفك يا رسول الله ،» ويتوافد إلى هذه الشقق المئات أسبوعيا، من كل أنحاء مصر، فيحلون سهلاً وينزلون أهلاً، ويجدون الطعام والشراب والمأوى.. فهم ضيوف الرسول، صلى الله عليه وسلم، كما يقول المسئول عن هذه الشقق. وتستقبل هذه الشقق الوافدين من الأقاليم فى أوقات الموالد، وكذلك تتعدد مهامها، فهى ليست للطعام والشراب فقط وإنما تقام فيها حلقات الذكر إلى جوار ذلك. وتنقسم مواعيد حلقات الذكر طبقا لكل طريقة صوفية إلا أنها تعقد مرتن فى الأسبوع، كما تختلف توقيتاتها من طريقة لأخرى، لكنها تتفق إجمالاً على أن الطعام يقدم مجانا بعد حلقة الذكر، ويختلف الطعام المقدم من «ساحة » لأخرى، ومن طريقة لأخرى «طبقا للحالة الاجتماعية لمؤسس الساحة والمترددين عليها »، فهناك بعض الساحات وأشهرها «الطريقة الجعفرية » و «العزمية » و «الرهانية » تقدم اللحوم والأرز للمترددين عليها وبعض الطرق الأخرى مثل«الرفاعية » و «الأحمدية » و «البرهامية »، أما«الشاذلية » فتقدم «الفول النابت » والجرجير وبعض المعجنات، ولا يجوز لقاطنى الدار و «المريدين » الاعتراض على نوعية الطعام، لكن بوسعهم أن يلجأوا إلى مطعم يتناولون فيه ما يشاءون إن كانوا ينتمون لشريحة اجتماعية غنية. ويقول الشيخ أحمد إسماعيل، أحد العاملن بهذه الساحات: أطهو الطعام لضيوف الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأولياء الله الصالحن، منذ نحو عشرين عامًا، وأحتسب هذا العمل لوجه الله عز وجل، كما أنفق من جيبى على الطعام، حتى يحظى ضيوفنا بما يليق بهم، فالغرض من الساحة حسبما يؤكد يتمثل فى جمع الإخوة واستقبال المريدين خاصة فى أوقات الموالد، حيث تعقد حلقات الذكر وتقام«الحضرات »، وهناك بعض المترددين يقيمون فيها حتى بعد انتهاء اليوم وانتهاء حلقات الذكر فى أعقاب صاة العشاء فى يومى الأحد والخميس، وخال ذلك يقدم لهم العدس أو الفول النابت فى أوقات الغداء، أما الضيوف الذين يبيتون ليلاً، فيأكلون ما يتبقى من طعام الغداء، وهذه «بركة الأولياء الصالحين، فدائما هناك ما يتبقى ويزيد ولله الحمد »، كما يقول. وتقام «الساحة » عادة بالدور الأرضى أسفل سكن مؤسسها، وتكون عبارة عن غرفة طويلة مستطيلة، لا يوجد بها مقاعد، سوى لهؤلاء الذين لا يستطيعون الجلوس على الأرض، وتكون أرضيتها مفروشة بالحصير المصنوع يدويا، وعلى جانب حوائط «الساحة » توضع مساند حتى يتكئ عليها الضيوف، وفى أوقات انعقاد حلقة الذكر ينصرف الجميع عن المساند متجهين إلى الوسط، حيث تقام حلقة الذكر التى غالبا ما تستمر لمدة ساعة، وما إن تنتهى يبدأ تناول ما تم تحضيره من أطعمة. ومعظم المترددين على الساحات، ينتمون إلى الطبقات الفقيرة، وتحمل وجوههم قسمات الفقر، التى لا تخطئها عين، وهم على الأغلب يحتاجون إلى الطعام، وهذا لا يمنع وجود آخرين من الأغنياء يعشقون تناول طعام مصنوع«بركة الشيخ والجماعة » فى حلقات الذكر. ويقول الشيخ أسعد محمود، وهو موظف متقاعد ومن أسرة ميسورة: لست فى حاجة لمن يطعمنى فأبنائى يتولون مناصب رفيعة، لكنى أحب أن أشاطر الناس طعامهم، فهذه بركة، مشيرا إلى أنه يحرص على التردد على مولد السيدة زينب، رضى الله عنها، وعلى تناول الطعام فى الساحة المقامة بالقرب من مسجدها، والتى يتولى الإنفاق عليها «محبون لآل بيت النبى .» ويعرب عن اعتقاده بأن الصوفية طريقة تنقى النفس من الهموم الدنيوية، ولا تجعل العبد متصلاً إلا بربه، لكن بعض الدخاء عليها، قد شوّهوا صورتها فى عيون الناس. التمويل السرى! وتعد تمويات أكبر الساحات من الأمور السرية التى لا يجوز حتى للمترددين عليها أن يعرفوا من يقف وراءها، فهذا «سر الأسرار » الذى لا يجوز لمؤسس الساحة الإفصاح عنه، خاصة أنه من الممكن أن ينشئ أحدهم «الساحة »، ويقوم شيخه بالإنفاق عليها وإمداده بما يحتاجه من أطعمة، إلا أنه فى بعض «الساحات » الكبيرة مثل التى تملكها «الطريقة الجعفرية » يأتى التمويل من مستشفى خيرى أنشأه مؤسس الطريقة الشيخ صالح الجعفرى، وهناك «ساحات » أخرى يتم الإنفاق عليها عبر كبار المشايخ من الطرق الصوفية ورجال الأعمال والأغنياء أتباع الطريقة من المريدين وهؤلاء يتابعون أولاً، بأول ما تحتاجه الساحة من مستلزمات، وحتى إن كانت خارج إطار الطعام والشراب، وإذا كان هناك من يحتاج إلى أدوية إلا أن هذا يكون بصورة استثنائية. وفى «الساحات » التى لا ينفق عليها رجال أعمال أو إذا كان مؤسسها ليس لديه دخل كبير، تنخفض نوعية الخدمة وترتفع، حسب تدفق التبرعات، لأنها تعتمد على التبرعات التى تقدم إليها، وحجم الموارد الموجود لديها وهذا ما يتحدث عنه الشيخ إبراهيم الكيلانى، أحد مؤسسى هذه الساحات منذ 25 عاما، وهو رجل لم يمنعه فقره من تقديم الخدمة التى عشقها وربى عليها أولاده من بعده. يقول: تعرضت لأزمة مالية منعتنى من تقديم الخدمة لبعض الوقت، وكنت خلالها شديد التألم، فقد تعودت على إكرام ضيوف أولياء الله، وحتى لا «أقطع عادة » فقد فعلت ما كان يمكننى، وهو تقديم الشاى للمترددين على الساحة. ويضيف أن الخدمة تنقى الروح وتسمو بالمشاعر، وتجعل النفس شفافة تواقة إلى كل ما هو جميل، مشيرا إلى أنه لم يتوقف عن الطواف بالموالد وهو يحمل أباريق الشاى ليوزع الكئوس على ضيوف أولياء الله. ويتابع: رغم أنى لم أتعاف من الأزمة المالية، إلا أننى نسبياً، أوزع حاليا مع الشاى«القُرْص » المصنوعة من الدقيق والسمن، وإن شاء الله عندما يجعل لى ربى فرجا بعد الضيق، سأعود إلى ما كنت أفعله، وسأقدم لضيوف الرحمن وأولياء الله ما يليق بهم. مواسم الخدمات شهر رمضان والموالد وأيام «الحضرات » مواسم رواج الخدمة فى داخل تلك البيوت، ومن أشهر الساحات التى تقدم فيها الخدمات ليل نهار بداية من الإفطار وحتى السحور في شهر رمضان «ساحة أم الغام » إلى جانب مسجد الإمام الحسين، حيث يقدم فيها طعام الإفطار والسحور بشكل دائم ويأتى إليها معظم العمال و «الغلابة » المتواجدين بالمنطقة، وكذلك الوافدون من الأقاليم، وهى عبارة عن حمام توجد إلى جانبه غرفة محاطة بالأخشاب يتم وضع الموائد بها فى شهر رمضان، أما فى الأيام العادية فهى مقر نوم العديد من البسطاء، الذين يلجأون إليها ليلا إلا أنها لا يقدم بها موائد. أيام الموالد هذه الخدمات تكون أكثر رواجا، حيث يعمل مؤسسوها على تقديم أفضل ما لديهم ويجولون فى الموالد حيث لا يقدمون الخدمة فقط فى مقر «ساحاتهم » وإنما يتجولون بها بحثا عن المحتاجين وأملا فى توصيل خدمة أجود وأعمق إلى أكثر عدد ممكن من الضيوف. وتقام «خيام » توضع عليها لافتات تحمل اسم الطريقة التى يتبعونها، وبناء على اللافتة يتقدم الوافدون من الأقاليم بدلا من مقر «الساحة » ويعرفون بعضهم بعضاً، ولابد أن تكون الخدمة إلى جانب الضريح فى وقت الموالد، ولهذا يتركون الساحات مهرولين إلى بيوت الخدمة . ويؤكد الشيخ إبراهيم محمد وهو أحد من يقدمون تلك الخدمة منذ ما يقارب ال 15 عاما أن غايته هى التجول بين الموالد، وتقديم خدمات الطعام والشراب دون أى مقابل ودون أن ينتظر الشكر من أحد، فالأساس فى تقديم خدمته هو ألا يعرف الأشخاص المقدم لهم الطعام والشراب، حتى وإن كانوا غير مسلمين. "الجعفرية".. 60 مسجدا يحرص الجعفريون على عقد مجالس الذكر وتاوة القرآن الكريم يوميا، ويهتمون بتلقين الأطفال قواعد الدين الإسامى، ولهم 60 مسجدا من أسوان إلى الإسكندرية، هذا بالإضافة إلى مركز إسلامى فى ليبيا وآخر فى ماليزيا. ويحيى الجعفريون المولد النبوى الشريف فى ديوان إمامهم، ولهم أوراد خاصة بهم، وينظمون لمريدى الطريقة ثلاث رحلات عمرة سنويا، هذا بالإضافة إلى رحات الحج الذى يخرجون إليه جماعيا. ويقول الجعفريون إن منهجهم هو سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، بعد كتاب الله، ويقع مقرهم فى الدراسة بالقاهرة. ويحتفل الجعفريون احتفالا كبيرا بقدوم شهر رمضان المبارك، ولهم ذراع سياسية تتمثل فى حزب النصر، وهم من أكثر الصوفيين اهتماما بالسياسة. " العزمية ".. مليون مريد أسس محمد ماضى أبوالعزائم الطريقة العزمية، سنة 1934 ، قبل أن يتوفى بثلاث سنوات، فى 27 رجب، بالتزامن مع احتفال الطريقة بذكرى الإسراء والمعراج. ويرى العزميون أن دعوتهم روحانية، وآية صادقة لهدى السلف الصالح، ودعوة وسطية لا علاقة لها بالتشيع، وتعتبر محافظة القاهرة مركز الثقل الحقيقى للعزمية، ويرفع العزميون شعار: «الله معبودنا والرسول مقصودنا والقرآن حجتنا والجهاد خلقنا والخلافة غايتنا وأبوالعزائم إمامنا .» وتجنب العزميون قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير، الخوض فى غمار العمل السياسى، لكنهم أصيبوا «بفيروس السياسة » بعد الثورة، وتقول مصادرهم إن عددهم لا يقل عن مليون «مريد » أعلنوا البيعة لله ولشيخ العزميين الحالى.. ومقر العزمية شارع مجلس الشعب. "البرهامية ".. لا للسياسة تسمى الطريقة البرهامية بالدسوقية أيضا، وينتسب البرهاميون إلى الشيخ برهان الدين إبراهيم أبوالمجد، الذى أسس الطريقة سنة 676 هجرية، وهو عند الصوفية أحد الأقطاب الأربعة، إضافة إلى الجيلانى والرفاعى والبدوى. ويدور منهج مدرستهم حول فكرة التطهر من الذنوب بالتوبة، التى يجب أن يبدأ بها السالك إلى الله، حسب تعبيرهم، وبعد التوبة يدخل البرهاميون إلى مرحلة يعتبرونها أرقى، ألا وهى نبذ الدنيا، والزهد وفراغ القلب من كل شىء ما عدا الذكر.ومركز الطريقة كما يبدو من اسمها هو مدينة دسوق بكفر الشيخ، ومن فروعها الطريقة الشرنوبية، ويرتدى مريدوها الخرق البالية، ويعلنون الانضمام إليها، بالمصافحة والذكر. ولا يزيد عدد أعضائها حسب شيوخها على خمسين ألفا، ولا يميلون إلى التطرق إلى السياسة.