لعبت المقاهى دورًا كبيرًا فى تاريخ مصر –وما زالت– ومن يجتهد سيعرف أن كتبًا ودراسات عديدة تناولت تاريخ مقاهى بعينها، ارتبطت بمبدعين ومثقفين وظرفاء كانوا يرتادونها.. وأبدعت «سامية الإتربى» حين قدمت برنامج «حكاوى القهاوى» على شاشة «ماسبيرو الذى خربناه.. فعشنا ظلام فضائيات آخر الزمان!! ولا يجب أن تندهش إذا قلت لك أن المقاهى كانت سببًا من أسباب رواج الصحافة.. فالقاهرة كان يصدر منها خمسون صحيفة عربية يومية عام 1898 – أى نهاية القرن ال19 – وكل هذه الصحف كانت توزع مائة ألف نسخة.. لكن الشعب الذى كان يعيش حالة أمية، كان يعرف تفاصيل ما تحمله هذه الصحف؛ لأنهم كانوا يرتادون «لمقاهى» ويلتفون حول «أفندى» يقرأ لهم الصحيفة.. وقد تندهش إذا علمت أن القاهرة كان يصدر منها فى هذا الوقت 9 صحف باللغة الفرنسية وخمسة باللغة اليونانية وأربعة باللغة الإيطالية.. وصحيفة واحدة باللغة الإنجليزية التى يتكلمها مستعمر البلد فى ذاك الوقت!! كان هذا زمن يختلف عن زمن «الكافيه» الذى نعيشه ويتبادل مرتادوه مقاطع «فيديو» يتم ترويجها عبر «الفيسبوك».. والمسافة بين مثقف ومواطن زمن المقاهى، ومرتادى «الكافيهات» هى ذاتها المسافة بين المعرفة والجهل!! ففى زمن المقاهى كنا إذا سمعنا جملة «شعب مالوش كتالوج» فهذا معناه أننا سنفتح باب الضحك والسخرية من أولئك الذين لا يفهمون المصريين حتى ولو عاشوا بينهم.. وعلى وقع الضحكات تسمع صفحات من تاريخ وطنك وعبقرية شعبه.. أما فى زمن «الكافيه» فقد أصبحت الجملة ذاتها مفتاحًا لباب الجهل على مصراعيه!! الحقيقة أن الشعب المصرى له «كتالوج» يعرفه كل قارئ فى الكتاب.. لأنه شعب له تاريخ طويل وعريض وعميق ويحتاج إلى وقت وجهد لدراسته، ومن ينفق الوقت والجهد بحثًا عن المعرفة ستجده قادرًا على قراءة «كتالوج» شعبنا ويفهمه.. فهذه أمة لا يفهمها غير قارئ للتاريخ ودارس لعلم الاجتماع وفاهم للجغرافيا.. أما «حضرات السادة ضباط الثقافة» كما كنا نسميهم على «المقاهى» وأصبح اسمهم «عاصرى الليمون» فى زمن «الكافيه» ستجدهم يختالون عليك بجهلهم وضحالتهم ولا مانع أن يفاخروا بممارسة «الخيانة» للوطن!! لأننا شعب له «كتالوج» فنحن أمة تعرف معنى الثورة وتوقيتها.. ومن لا يفهمنا يعتقد فى قدرته على تفجير الثورة وفق مناهج «الخواجات»!! فالشعب المصرى الذى استمر يتظاهر لمدة 48 يومًا ضد «خورشيد باشا» حتى خلعه وودعه فى زفة من «القلعة» إلى «بولاق» بهتاف «يا خورشيد يا ابن ال... يلا روح على أنقرة»!! وكان ذلك معناه قطع الصلة تمامًا مع أبشع أنواع الاستعمار الذى عاث فى بلادنا خرابًا وتدميرًا وتجهيلًا، وهو الاستعمار «العثمانى» كما كنا نسميه فى زمن «المقاهى».. وأصبح اسمه الاستعمار «التركى» فى زمن «الكافيه».. ولأن شعبنا له «كتالوج» نصب بإرادته «محمد على باشا» الذى وضع أساس مصر الحديثة والتف حوله لعشرات السنوات.. ووفق «الكتالوج» نفسه تقدم «أحمد عرابى» وزير الحربية – الفلاح المصرى – ليفرض حق الشعب فى مجلس نيابى ودستور وأن يكون للبلاد جيش قوى يحميها.. حتى جاء الاستعمار الإنجليزى متواطئًا ومتآمرًا مع الدولة العثمانية –تركيا– وكانت المؤامرة مكتوبة تحفظها ذاكر التاريخ باسم «وثيقة النزاهة»!! وتمكنت بريطانيا من احتلال مصر عبر متآمر صغير ورخيص اسمه «على خنفس»!! وظل الشعب ينتظر من يثق فيه ليخلصه من الاستعمار.. أودع ثقته فى «مصطفى كامل» الذى خطفه الموت شابًا – 34 عامًا – فالتف حول «محمد فريد» الذى أنفق الملايين التى ورثها عن والده سعيًا للتحرر.. ومن بعده وجد الشعب ضالته فى «سعد باشا زغلول» ورفاقه، ثم «مصطفى باشا النحاس» رفيق دربه.. وصولًا إلى «جمال عبد الناصر» ورفاقه الذين حرروا مصر من الاستعمار الإنجليزى.. وكان على شعبنا أن يتعامل مع أذناب الاستعمار الذين تركهم بوجوه مصرية ويحملون جنسيتنا لكنهم ليسوا منا.. تركهم كورم خبيث فى الجسد المصرى.. حاول «عبدالناصر» اجتثاثه وأعادهم «السادات» كما تركهم «مبارك» ينخرون فى عظام الأمة.. هذا المرض عاش معنا زمن المقاهى باسم «جماعة الإخوان» ولسخرية القدر أن شعبنا تخلص منهم فى زمن «الكافيه» عندما وجد ضالته فى ابن مصر وبطلها «عبدالفتاح السيسى» الذى نادى عليه الشعب ونصبه بالطريقة ذاتها التى اختار بها «محمد على باشا» مع فارق التطور بين المقهى والكافيه!! قارئ تاريخنا الواعى بخطورة موقعنا الجغرافى.. يعلم أن الشعب المصرى انفجر فى ثورة عارمة عام 1919 لأن المندوب السامى البريطانى –وينجت– كان صريحًا لدرجة الوقاحة خلال لقائه مع «سعد زغلول» و«على شعرواى» و«عبدالعزيز فهمى» وقال لهم: «أن يكون المصريون عبيدًا للإنجليز أفضل لهم من أن يكونوا عبيدًا للأتراك»!! ولم تهدأ ثورة الشعب حتى ترأس زعيمه «سعد زغلول» أول حكومة بعد إلغاء الانتداب البريطانى عام 1922، كما ترأس برلمانه.. لكن الاستعمار استعاد ذاكرة المؤامرة، فذهب إلى البحث عن «خنفس» جديد حتى وجد ضالته فى «حسن البنا» وفى هذه المرة كلفوه بأن يؤسس مزرعة تتكاثر فيها «الخنافس» وكلهم أحفاد «على خنفس» خائن بلاده.. وكان للاستعمار الذى خلعه «عبدالناصر» ورفاقه ما أراد.. حمل الاستعمار عصاه ورحل وترك لنا «مزرعة الخنافس» حتى قضى عليهم الشعب المصرى لحظة اعتقدوا فى تمكنهم من حكم مصر. فى زمن المقاهى كان المثقفون هم عناوين الأمة وضميرها.. وفى زمن «الكافيه» طفح على سطح المجتمع أولئك الذين أطلقنا عليهم «عاصرى الليمون» وهؤلاء انتحلوا صفة المثقفين.. فكان طبيعيًا أن يقودهم مقاول «جاهل عصامى وخائن بالفطرة» مدعوم بأحفاد «على خنفس» وأبناء «حسن البنا» واعتقدوا أنهم يقدرون على خداع الشعب مرتين!! لذلك نراهم ينفقون الملايين أو المليارات اعتقادًا فى أن الثورة يمكن تلفيقها أو استيرادها!! الشعب المصرى «بكتالوجه» يعرف متى يثور ولماذا.. ويعرف أن ثورة بلا قائد لا يستفيد منها غير أعدائه.. لذلك كان المستعمر دائمًا يستهدف القائد قتلًا أو نفيًا.. وعندما لا يتمكن من القائد يطلق عليه «الخنافس»!! وباعتبار أننا أمة ثائرة بطبعها.. فنحن نفهم أن الثورة هى حالة تغيير شامل فى زمن محدود.. وتندلع عندما تعجز السلطة عن إدارة دفة الأمور والتعامل مع الأزمات الطاحنة.. والشعب المصرى علم الدنيا أن ثوراته دائمًا هدفها اجتماعى، وعليها أن تزيل التناقضات الاقتصادية لتنطلق البلاد نحو المستقبل.. ولأننا شعب له «كتالوج» نغفر للحاكم أحيانًا قسوته إذا كنا نثق فيه ونحترمه.. لذلك سنجد أن أحفاد «على خنفس» وأبناء «حسن البنا» استهدفوا مصر فى جيشها وقائدها.. هم يعتقدون أن هيبة الحاكم تصنعها الدعاية وتهدمها الدعاية.. والحقيقة أن هيبة الحاكم يستمدها من ثقة الشعب فيه واحترامه له.. والذين يكذبون على الشعب المصرى لهم مصير محتوم ومعلوم.. فهو سيدوسهم بأقدامه ويعذبهم بأن يجعلهم يختنقون بسموم أكاذيبهم.. ولأن الشعب المصرى له «كتالوج» فهو قد يسامح من يخدعه لكنه لا يتسامح مع الخائن إطلاقًا.. ولأننا أمة لها «كتالوج» لا نغفر لأحد أن يمس ديننا أو يحاول أن يخدش جيشنا.. فنحن أكثر أمة تعلمت من تاريخها الذى يقول إذا ضعف الجيش. تحولنا إلى فريسة يلتهمها الاستعمار. فى زمن المقاهى كان لمصر كتالوجها.. وفى زمن «الكافيه» لم يتغير «الكتالوج» لكن أبناء زمن المقاهى يجيدون القراءة والفهم بوعى.. وفى زمن «الكافيه» أصبح عدد القراء أقل.. لكن الذين يفهمون أغلبية ساحقة.. تحترم «المقاول» حين يبنى، وتتشاءم من «المقاول» إذا جاء ليهدم.. وعندما تكون هواية «المقاول» الخيانة.. فهو «فنان» بكسر الفاء ومعناها باللغة العربية «حمار» ولا يمكن أن يكون «فنانًا» بفتح الفاء!!