في زمن يمتلئ بالكثير من فعاليات القبح والازدحام والضجيج والاختناق، يظل الإنسان في عالمه المعاصر باحثًا عن معالم أخرى يكتشف فيها أنواعًا متنوعة من الجمال. الجمال الذي يعطيه دائمًا تلك الدوافع الحقيقية للعيش والاستمرار، وتجعله يهنأ بما يعيشه من تفاصيل، وهذا الطرح الهام والخطير هو الذي يجعلنا نهتم بمطالعة أحد أهم إصدارات دار العين التي صدرت حديثًا وهو كتاب "الجمال في زمن القبح" للكاتبة ملاك نصر.
كيف يرى الناس أنواع الجمال في زمن كهذا؟ عالمنا يعيش "أزمة جمال" رغم الهوس المحموم بالجمال! وزمننا كزمن للتغيير نحو الأفضل يسعى إلى جمال الناس والمجتمع والسياسة والأخلاق، بعد كل القبح الذي أصاب مساحات كثيرة من حياتنا وربما نفوسنا.
هكذا يطالعنا هذا الإصدار بأسئلته الشائكة، الذي يحاول اكتشاف الجمال متلمسًا العون علوم مختلفة كعلم النفس واللاهوت والفلسفة والنقد السنيمائي وعلم الدلالة وغيرها، مع اتخاذه لنموذجين أو أيقونتين في الجمال أو امرأتين تأتيان من عالمين مختلفين: عالم الروح "شولميث" بطلة قصائد سفر نشيد الأنشاد (النشيد الأشهر في الحب الرومانسي والعلاقة الحميمة بين الزوجين والروحانية الراقية إلى حد التصوف)، وعالم الدنيا: "سندريلا" بطلة القصص الخيالية الشهيرة والمثال الأشهر للجمال المقهور.
ويحاول الكاتب اكتشاف الارتباط والتشابه بين الشخصيتين أو "الأيقونتين" في الجمال، بالرغم من كونهما من عالمين مختلفين، ونصين مختلفين تمامًا، فالمرأة الأولى "شولميث" بطلة الجمال والحب والرومانسية لقصائد شغلت الكثيرين من المفكرين والمبدعين حول العالم من خلفيات دينية مختلفة، وعصور مختلفة، ويقترب إليها من خلال تحليل بعض أبيات قصائد سفرها.
والمرأة الثانية "سندريلا"، بطلة الجمال المنقطع النظير في عالم الأدب والخيال، وسوف يقترب إلى جمالها من خلال تحليل أزمتها النفسية والروحية مع الجمال في ثلاثة أفلام من فئة "أفلام السندريلا " المعاصرة.
ستة فصول مليئة بالمغامرات والأسئلة والغور في مناطق شتى تحاول الوصول إلى نتائج مرجوة وصائبة، تبدأ في الفصل الأول بتلك العلاقة بين الجمال والثقافة، حيث ماكينات الجمال التي تحوّل الجمال إلى "سلعة" يتم تصنيعها بأدوات و إبداعات تلك الثقافة.
ويناقش الفصل الثاني العلاقة الملتبسة أيضًا بين الجمال والإيمان ومحاولة لفهم دقيق لتلك العلاقة من خلال مناقشة المفهوم نفسه لدى اللغويين والمفكرين والأدباء والفلاسفة، بل واللاهوتيين الذين انشغلوا ونظروا بل واختبروا على المستوى الشخصي العلاقة بين الإيمان والجمال، حيث جمال الإيمان والإيمان بالجمال.
ويطرح في الفصل الثالث تساؤلًا هامًا، هل يمكن أن تكون هناك علاقة بين شخصية حقيقية عاشت وتوجت بطلة لسفر من أعذب أسفار الكتاب المقدس "سفر نشيد الإنشاد"، وبين شخصية أخرى خيالية موجودة فقط في الروايات وعلى الشاشات هي "سندريلا"؟.
وفي فصله الرابع بعنوان "الشيطان يرتدي قناع الجمال" يقترب من النوع الأول من الجمال: "الجمال الحسي"، ومن الروابط العديدة بين الجمال الحسي لدى كل من "شولميث" و"سندريلا"، من خلال تحليل بعض آيات أو أبيات من النص الخاص بقصائد نشيد الإنشاد، وتحليل الفيلم الأول من أفلام سندريلا في الدراسة :" الشيطان يرتدي برادا" The Devil wears Prada.
ثم النوع الثاني من الجمال الذي يعرض له في الفصل الخامس وهو:" الجمال النفسي"، من خلال الدراسة لبعض آيات أو أبيات أخرى من قصائد "شولميث"، مع التحليل للفيلم الثاني: " سعادة للأبد..قصة سندريلا" Ever After-A Story of Cinderella، وفي الخلاصة:تحت عنوان: " في زمن "تغيير" الجلد ..أي جمال نحتاجه؟ ننتهي إلى نوع من التقدير الذاتي لأنفسنا يمكن أن نسيمه "التقدير الذاتي الروحي".
والسؤال هنا: هل هناك مصدر آخر للحصول على تقدير الذات والشعور بالرضا غير أحمر الشفاه وبودرة الخدود وصبغة الشعر لدى النساء؟ أو العضلات المفتولة و"السيكس باك" لدى الشباب؟ وهل هناك ما يملأ فراغ النفس بدلاً من "البوتوكس" و"الكولاجين" و"السليكون"؟!.
هكذا يفتح هذا الكتاب الباب أمام أطروحات مهمة عن الجمال وأنواعه، ويترك لنا العديد من الأفكار التي يمكنها أن تساهم في تغيير رؤيتنا لفكرة "الجمال" عمومًا، كي يمكننا أن نلامسه بجدية كافية وبشفافية حقيقية في مثل هذا العالم العابس.