يجلس على أريكته وسط مئات الصور وبعض آلات الموسيقى، بمجرد الدخول لبيته تشعر وكأنك فى متحف فنى لا شقة سكنية، كل الأشياء هنا مرتبة بعناية، الاستديو الذى يتوسط المنزل، تحيطه الأوسمة والجوائز وتوزيع الصور له رؤية فنية متناسقة، اختارها الفنان الكبير حلمى بكر بنفسه، والذى اختص «الصباح» للحديث فى أغانى النصر فى الذكرى ال 44 لحرب أكتوبر ليمزج فى حديثه ما بين آلام النكسة وذكريات النصر، وكيف عايش أهل الفن الفترتين. فى البداية يقول بكر، إنه لا يود أن يتذكر أيام النكسة، فكل ما فيها يؤرقه ويجعله يعيش لحظات مؤلمة، لأنه شاهد الطيران الإسرائيلى وهو يضرب بعض القواعد المصرية فجرًا، خاصة أن كل الفنانين الحقيقيين ابتعدو كثيرًا عن التلحين أو الغناء فى هذه الفترة لشعورهم بالانكسار، ولم يقبلوا على التجمعات الفنية التى كانت موجودة قبل النكسة حتى أن كمال الطويل جاء إليه فى بيته يبكى لأنه كان عنده بروفة لأغنية جديدة ولم يأت أحد من الفرقة والكورال. ويضيف أنه عندما غنت فايدة كامل أغنية «إلهى ليس لى إلاك عونا» التى لحنها كمال الطويل وكلمات والده، الجميع شعر بالكسرة والانهزام. يتابع: «ظهرت بعد ذلك بعض الأغانى الارتجالية فى ذلك الوقت منها «كركشندى دبح كبشه، وسلامتها أم حسن وغيرها من الأغانى التى كانت تمثل حالة الهزيمة، وانهارت الأغنية المصرية الرصينة فى تلك الفترة».
غرفة عمليات على السلم لكن هناك أحداث لم ينساها بكر الذى اقترب من الثمانين من عمره حاليًا فيقول: «ظللنا ننتظر لحظة تغير حالنا وكنا نظنها لن تأتى حتى سمعنا إعلان الحرب فى السادس من أكتوبر، ومضى اليوم الأول ونحن نتابع ونراقب فى دهشة كبيرة وفرحة عارمة، وفى اليوم الثانى اتجهنا مباشرة إلى مبنى الإذاعة فى الشريفين فاعترضوا دخولنا وقالوا إن الأوامر من جهات عليا، لكنا أصرينا على التدافع على الأبواب وكان وجدى الحكيم مدير المنوعات فى صوت العرب، رجل جرىء وشجاع فسمح بدخولنا على مسئوليته وفتح لنا الاستديوهات وكان يقف معنا حتى ننتهى من تسجيل الأغنية ويقوم ببثها مباشرة. ويستطرد: «كنا كخلية نحل كل يقوم بدوره من يكتب يجلس يكتب ليل نهار، ومن يلحن يعمل طوال اليوم واستدعينا العمال والموظفين فى الإذاعة، وعملوا كورال للفرق الموسيقية، وكان بليغ حمدى يلحن بعض الأغنيات على السلم، وبجواره على إسماعيل، وكانت ثانى أغنية انتهت من التلحين والتسجيل هى «ماتقولش إيه اديتنا مصر» وهى كلمات مصطفى الضمرانى وتم تلحينها وتنفيذها فى نفس اليوم، وبعدها لحنت وأنا على الربابة بغنى، وأغنية «سمينا وعدينا» لشهر زاد وأحمد صدقى، و«رايحين شايلين فى إيدنا سلاح. راجعين راجعين. رافعين رايات النصر». وتابع: «كانت الأغنية مخصصة لفيلم «العصفور» ليوسف شاهين، وكتبها على إسماعيل. كما أرسل عبدالوهاب أغنية «طول ما أملى معايا معايا» من لبنان، وفى الأيام الأولى للحرب أيضًا غنت أم كلثوم «سقط النقاب عن الوجوه الغابرة» ولحنها بليغ حمدى فى ظرف ساعات وهى لعبدالفتاح مصطفى، وغنتها الست فى نفس اليوم بعد بروفة واحدة.
حليم والسادات يمضى بكر فى حديثه عن ذكريات النصر قائلًا إن عبدالحليم كان دائمًا ما يغنى لجمال عبدالناصر بعد النكسة، وفقد الكثير من شعبيته وفى فترة السادات انقلب عليه بسبب أغنية «عاش اللى قال الكلمة فى الوقت المناسب» وبعدها قرر أنه لن يغنى لجمال مرة أخرى. وقاد عبدالحليم الفنانين، والموسيقيين، وكانت حركته شعبية أضافت للمشهد وقتها، بينما عبدالوهاب وأم كلثوم كانت إدارتهما فنية، وظهرت، شهر زاد ووردة ونجاة وفايزة وشادية وشريفة فاضل وغيرهم للجمهور بشكل كبير. لعب عبد الرحمن الأبنودى دورًا مهمًا مع بليغ حمدى الذى كان يقيم بشكل دائم فى الاستديو وينام على الأرض وعلى السلم، وكذلك عبدالوهاب وحسين السيد، وكانت الأغنية بمجرد كتابتها تلحن ويبدأ الفنانون فى عمل البروفة وتسجيلها خلال ساعات. ويذكر أن أغنية «الله أكبر فوق كيد المعتدى والله للمظلوم خير مؤيد» تم الاستعانة بالعمال والموظفين والسعاة فى الاستديو، ليكونوا بديلًا عن الكورال ونجحوا فى تسجيل الأغنية بنفس اليوم. يشدد بكر على أن بليغ حمدى ظلم كثيرًا بعد اتهامه فى قضية انتحار الفنانة المغربية الصاعدة سميرة مليان عام 1984، وتمت تبرئته منها عام 1989، لكن المرض كان قد نال منه. الفن على الجبهة مشهد لا يمكن نسيانه مازال حاضرًا بقوة بذاكرة بكر بعد وقف القتال فى 24 أكتوبر، انتقل عدد من المطربين والملحنين إلى أرض المعركة، وكان هو من بينهم هو وبليغ حمدى ووردة وعليا وحمدى الكنيسى، وذهبنا للجيش الثانى الميدانى، وشاهدنا بأعيننا جثة البطل الذى أوقف دبابات العدو بوضع قنبلة فى الدبابة الأولى التى انفجرت ورأينا نصف جسده فقط والنصف الآخر ممزق، وكان المكان مظلمًا ظلامًا شديدًا، وفى هذه الليلة ما إن بدأت وردة فى غناء «وأنا على الربابة بغنى» وردد الجنود وراءها الأغنية، وبعدها غنت عليا «ما تقولش إيه إدتنا مصر» وتحمس الجنود على الأغنية، وكانت ليلة رائعة، كما شاهدنا مجندًا اسمه «زرد»، وهو الذى فجر نفسه فى أحد المراكز الذرية التى كانت على الضفة ولم يذكره أحد وهو بكل شجاعة فتح الطريق أمام القوات.