حلمى بكر موسوعة موسيقية متنقلة، تمتلىء ذاكرته الحاضرة والفتية بتفاصيل موسيقية صغيرة عاشها، تتعبه ذاكرته أحيانا، حين تقارن بين زمن كان فيه سباق على التضحية والإخلاص، وزمن الأنانية فيه هى البطل. لا تقل حماسة حلمى بكر السياسية عن الموسيقية، وكان حديثنا يتخلل السياسة كثيرا، والمقارنة الحاضرة طوال الوقت بين 25 يناير و30 يونيو، هو يرى أن 30 يونيو ثورة حقيقية، بينما 25 يناير " اليافطة ثورة وما بداخلها مؤامرة" حين طلبت منه أن يكون حديثنا مقصورا على ذكريات حرب أكتوبر الفنية، تنهد تنهيدة طويلة، تحمل ألما نكأ جرحا، واستعاد ذكريات ماسبيرو وسباق الفنانين الكبار، وذهابه هو ووردة وآخرون إلى الجيش الثانى الميدانى بعد إعلان وقف إطلاق النار. يروى الفنان الكبير حلمى بكر كيف أن دور الفنان فى المعركة كما دور الجندى فى الميدان، فهو لا يتم استدعاؤه، هو يأتى من نفسه، فلم تكن هناك بدعة استدعاء فنانين ليقوموا بدور وطنى، ففى مثل تلك الأحداث الكبيرة، لا يكون هناك تكليف، بل استدعاء ذاتى، يأتى من دور الفنان داخل المجتمع، فهو مثل كل أفراد المجتمع له دور وواجب عليه تأديته ويتحرك فى اتجاهه. والفنان دائما فى المقدمة، فهو مرآة، يسلطها على المجتمع ويعرضها على الناس، وهذه لها معنى خطير فى موسيقانا وفى أغانينا ومجتمعنا ومستوانا الخلقى والاقتصادى. الفن هو مرآة المجتمع يشف أو يستشف من الناس ما يدور بداخلهم ، وحين ينقل يكون صادقا. ثم يعود بنا الموسيقار حلمى بكر إلى أيام صعبة عاشها هو وجيله من الفنانين فى نكسة 67، فرأى أننا كنا نكذب، فبرغم تسليط المرآة على المجتمع فإنها كذبت، فأزمتنا دائما أننا عبدة التابو، نؤله، ثم نكره ونعدم ، وهذا حالنا منذ أيام محمد على والخديو إسماعيل وما بعدهم. ولنقارن أيامنا هذه، بوقت الحرب، مثال ذلك الموسيقار الكبير بليغ حمدى، فهو ذاب عشقا فى حب تراب هذا الوطن، من خلال أعماله، التى سكنت الذاكرة والوجدان، من خلال صدقه، فهو لم يتقاض عن أعماله الوطنية أية أمواله، فقام بعمل أغنية "ياحبيبتى يامصر"، ونحن تعلمنا منه، ففى هذا الوقت لحنت أغنية ياحبايب مصر، وكذلك فنانو هذا الزمن، فعبدالحليم كان يدفع للفرقة الموسيقية من جيبه. غير أنه – كما يشير بكر - و نتيجة الشحن والكذب فى نكسة 67 وكم الأغانى الكبير وقتها، جاءت حرب 73 وكنا متخوفين، فكان الإنتاج الفنى مقارنة ب 67 قليلا، فأغنية " وأنا على الربابة بغنى" هى أغنية عاطفية وطنية، كانت الأغنية الرئيسية فى 7 أكتوبر، وأغنية " سمينا وعدينا" لشهر زاد وأحمد صدقى، و " رايحين رايحين. شايلين في ايدنا سلاح. راجعين راجعين. رافعين رايات النصر " كانت مخصصة لفيلم " العصفور " ليوسف شاهين، كتبها على إسماعيل، فقدمها للمناسبة، وكانت " راكبة " فى المعركة. وبولعه بعقد المقارنات دائما، يقول : فى 67 كان الكل يغنى، بينما فى 73 فإن ما وصل للناس كان من الفنانين الكبار: شادية، وردة، عبدالحليم، عُلَيّا، وعدد قليل آخر . ويعترف بأننا افتقدنا العمل الفنى والسينمائى الذى يؤرخ لهذا الانتصار العظيم. ويتذكر أن عبدالحليم فى هذا الوقت أقسم أنه لن يغنى لرئيس مرة أخرى، وكانت أغنيته، " عاش اللى قال الكلمة فى الوقت المناسب" سببا فى انقلاب السادات عليه. وعبدالحليم هو من كان يقود كتيبة الفنانين، والموسيقيين، وكانت حركته شعبية، بينما عبدالوهاب وأم كلثوم كانت إدارتهما فنية، وشعبية عبدالحليم فى الحركة خلقت شعبيات أخرى على أرض الواقع من الصف الثانى والثالث من المطربين، شهر زاد ووردة ونجاة وفايزة وشادية وشريفة فاضل وغيرهم، بينما الصف الثالث من المطربين كانوا ما زالوا صغارا، لم ينتبه لهم الكثير بسبب ظهور الكبار فى ملحمة واحدة، فدائرة الضوء كانت محصورة على الكبار. الاستدعاء الذاتى فى أكتوبر 73 حصل استدعاء ذاتى، كل الفنانين توافدوا على ماسبيرو، كان خلية نحل، الأبنودى كان له دور كبير وخطير فى الوطنيات، بليغ حمدى كان مقيما بشكل دائم فى الاستديو، لا يذهب إلى بيته بالأيام، وعبدالوهاب من ناحية أخرى هو وحسين السيد، وما كان من الإدارة فى ماسبيرو نتيجة تدافع الفنانين أن حولوا استديوهات مخصصة للدراما إلى استديوهات للأغانى، مثل استديو 36 و40 و42 و46، وكانت المعركة دائرة، والشعراء فى نفس الوقت يكتبون، والموسيقيون يلحنون، ويتم غناؤها. ومن الطرائف بل من الوطنية - كما يقول بكر - فى هذه الفترة، أن الفنان محمود الشريف أراد تسجيل أغنية " الله أكبر فوق كيد المعتدي والله للمظلوم خير مؤيد أنا باليقين" لم يجد كورالا ليغنى معه ، فالكل مشغول مع فرق أخرى فى مبنى ماسبيرو، فاستعان بالعمال والموظفين والسعاة فى الاستديو، ليكونوا بديلا عن الكورال. رحلة إلى أرض المعركة بعد إعلان وقف القتال فى 24 أكتوبر، تم تنظيم رحلة لمجموعة من الفنانين ضمت بالإضافة لى بليغ حمدى ووردة وعُلَيّا وحمدى الكُنيسى، وكانت الجثث ما زالت موجودة على ضفة القناة، ومكان معبر الشهيد أحمد حمدى، قبل إنشائه، وذهبنا هناك للجيش الثانى الميدانى، وكان المكان مظلما ظلاما شديدا، لم تكن هناك سوى لمبة وحيدة موجودة فى المسرح الذى ستغنى عليه وردة، وقدمها أحد قادة الكتيبة، قائلا: " أنا بهدى الورد للورد" وفى هذه الليلة ما إن بدأت وردة فى غناء " وأنا على الربابة بغنى" حتى توقفت عن ترديدها بعدما قام الجنود بغناء الأغنية، وبعدها غنت عُلَيّا " متقولش إيه إدتنا مصر" وتحمس الجنود على الأغنية، وكانت ليلة رائعة، وما يؤكد على نبل الهدف فى هذه الفترة، وبسالة أبطال عظام صنعوا لمجد لبلد يستحق ما قاله البطل يسرى عمارة الذى أسر عساف ياجورى ، حيث قال لنا إن الأغانى الوطنية كانت المدفع السرى لنا، وهو أحد المدافع التى لم تعلم إسرائيل عنه شيئا، فكنا على أنغام هذه الأغنيات نزداد حماسة وتصميما وإرادة على تحقيق النصر. بين زمان والآن بحسرة وأسى يتذكر حلمى بكر ويربط بين أكتوبر والآن، فرأى أن ما يسمون أنفسهم كبار، نأوا بأنفسهم، وقرروا أن يغنوا لمصر فى الساحل الشمالى وغيرها من المدن الساحلية للأثرياء، بينما أغنية ب " 2 جنيه" مثل "تسلم الأيادى" عملت سيمفونية، وكانت من أجمل الهدايا للشعب المصرى، وكانت جملة تلقائية عفوية، برغم مدفعية الهجوم على مغنيها، وكان بعدها أغنية حسين الجسمى، وكانت من أكثر من رائعة لتوقيتها " بشرة خير" التى لحنها عمرو مصطفى، ولم يسلم ملحنها أيضا من مدافع الهجوم.