الرائد سمير نوح يروى ل«الصباح» مغامرات محمود الجيزى بطل الصاعقة البحرية خلال حرب أكتوبر استشهد بعد معركة استمرت 11 ساعة وانتهت بهدم مخبئه فوقه الشهيد حمل أول أسير إسرائيلى على ظهره وعبر به القناة إلى مقر القيادة خرج فى 60 عملية خلف خطوط العدو.. وترك عروسه ليشارك فى الاستنزاف «شخصية صارمة تمامًا، وجهه لا يعرف الضحك أو التهريج سبيلًا، بنيته القوية وعمله كأحد معلمى قوات الصاعقة، أهلاه لكى يكون من القادة الذين تتنبأ لهم بالإقدام والإصرار على الشهادة أو النصر»، كانت هذه كلمات أحد أبطال معركة العبور الرائد بحرى سمير نوح، متحدثًا عن الشهيد البطل محمود على الجيزى. ربما تكون قصة الجيزى واحدة من ضمن العديد من البطولات الرائعة التى ضربت عظيم المثل فى التضحية والفداء والإصرار على النصر وعدم الاستسلام، حتى لو تكلف فى سبيل ذلك الحياة، ولكنها مثل العديد من البطولات الأخرى التى قد تكون طويت بمرور الأيام، وهو ما جعل «الصباح» تدخل فى معركة مع الذاكرة لإبراز هذه البطولة. يقول الرائد سمير نوح ل«الصباح»: كان البطل الشهيد محمود على الجيزى من أبطال الصاعقة البحرية الذين تشرفت بالعمل معهم فى المجموعة 39 قتال، خلال حرب العبور، وكان الجيزى ملحقًا بالمجموعة، وظل ينفذ العمليات الحربية الفدائية واحدة تلو الأخرى حتى قبيل قيام حرب أكتوبر، حين صدر الأمر بعودته مرة أخرى إلى وحدته الأساسية وهى الصاعقة البحرية. ويضيف نوح: «فى تلك الأثناء، وفى فترة وجوده بالمجموعة 39، كان الجيزى من الأبطال الشجعان، ونفذ وحده 60 عملية هجومية على نقاط العدو، وفى ذلك الحين كان برتبة مساعد أول، وأثناء زيارة الرئيس السادات للمجموعة فى العام 1971، رقاه إلى رتبة ملازم مع بقية زملائه، وهم البطل عبدالمنعم غلوش، والبطل هنيدى مهدى أبو شريف، والمرحوم عبدالعزيز عثمان». ويحكى نوح عن زميله البطل: «الجيزى ضمن المجموعة التى أسرت أول جندى إسرائيلى، ومن أهم بطولاته ما فعله فى عملية كمين جبل مريم، عندما تمكنا من أول أسير على الجبهة المصرية فى 26 أغسطس عام 1968، وتمت العملية عن طريق دراسة جيدة لتحركات العدو، واستهداف سيارتين من النوع جيب، وخلال متابعتهم لفترة تبينا أنهم سيأتون على الطريق الشرقى الموازى لقناة السويس، فعبرنا إلى المنطقة المستهدفة، وفى لحظات زرعنا عددًا من الألغام الأرضية على جانبى الطريق، وفى اللحظة التى دخلت فيها السيارتان ضمن منطقة الألغام خرجنا من الساتر العلوى الذى احتمينا به، ثم بدأنا إطلاق كثيف للرصاص عليهما، فكانت النتائج جيدة جدًا وبلغت خسائر العدو 6 قتلى». وما جعل تلك العملية مميزة جدًا، بحسب نوح، هى رتب القتلى من الجانب الإسرائيلى، فقد ظهر أن من بينهم نائب قائد القوات البحرية الإسرائيلية، ونائب مدير المخابرات الإسرائيلية، ولم تنته هذه العملية عند هذا الحد، كما يقول نوح، ويكمل: «عقب انتهاء أصوات طلقات النار اكتشفنا وجود جندى إسرائيلى مصاب، وعلى الفور ركض الشهيد الجيزى بصحبة البطل هنيدى صوب الصوت، وحمله الجيزى على ظهره من الضفة الشرقية إلى الغربية حتى عبرنا به، وسلمناه لمداواته واستخراج المعلومات منه، وكان أول أسير من الجانب الإسرائيلى بعد نكسة 67، واسمه «يعقوب رونيه»، وعلى أثر هذه العملية كرّم الرئيس جمال عبدالناصر، المجموعة المشاركة ومنحنا نوط الجمهورية العسكرى من الدرجة الثانية، تقديرًا لأعمال البطولة والشجاعة الفائقة فى جبهة القتال». يتابع الرائد نوح كشف سجل بطولات الجيزى قائلًا: «فى اليوم التاسع من شهر مارس 1969، تلقينا خبر استشهاد الشهيد عبدالمنعم رياض فى أرض الميدان، وعلى الفور استدعى العميد إبراهيم الرفاعى قائد الفرقة، محمود الجيزى للمشاركة فى العملية، وفى هذه الأثناء كان الجيزى عريسًا جديدًا، ولكن هذا لم يدفعه للتفكير، بل لبى فورًا وبكل إقدام، نداء الوطن بالمشاركة فى العملية التى شهدت إصابته هو واثنين من زملائه فى الفرقة، وبعدها جاء العديد من الصحفيين للتسجيل معه داخل المستشفى، وهو ما قابله بالرفض حتى لا يكون هذا سببًا فى إثارة قلق أهله عليه، وظل فى المستشفى».
ويضيف نوح «تم التنسيق لعملية ثأر، سطرت بطولة جديدة فى تاريخ العسكرية المصرية والتى سميت باسم عملية (لسان التمساح)، وفى تلك العملية كنا سويًا حتى جاءت الأوامر بالهجوم، بالفعل استلمنا أمر الهجوم بمنتهى الفرح وهاجمنا الموقع، وكان الجيزى ضمن المجموعة التى تشرفت بتلك العملية، وتولى قيادة المجموعة الأولى، الرائد أحمد رجائى عطية، بمشاركة عشرة من الجنود من بينهم السيد محمد أحمد، ومحمد شاكر، وهاجموا الدشمة رقم واحد، وفى أثناء الاشتباك وبسبب الشجاعة التى أظهرناها من جانبنا كان الخوف والرعب من الرد الإسرائيلى، خاصة بعد هروب الجنود والضباط الإسرائيليين ونزولهم إلى أسفل الدشمة، بينما تعاملنا معهم بقنابل الدخان، التى أدت إلى اختناقهم، فخرجوا من الدشم وهربوا». يكمل نوح: «فى ذلك الحين كان الشهيد الجيزى ضمن المجموعة المكلفة بإقامة ساتر لنا، بالإضافة إلى البطل هنيدى مهدى أبوشريف، وتمكنا من اصطياد العديد من جنود العدو خلال تلك العملية، حتى بلغ عدد من قتلناهم 44 جنديًا وضابطًا إسرائيليًا، واعتبرناه أبلغ رد على استشهاد عبد المنعم رياض، وكان الجيزى من الأساسيين، الذين يكونون دائمًا ضمن منفذى العمليات». ويقول نوح «بعد عملية (لسان التمساح) صدر القرار للجيزى بالعودة إلى وحدته الأساسية وهى وحدة الصاعقة البحرية، وهناك استأنف بطولاته بالمشاركة فى العمليات التابعة للوحدة، وأثناء إحدى عمليات أكتوبر كان الجيزى ضمن المجموعة التى تصدت لعملية إنزال بحرى إسرائيلى على قاعدة ميناء الأدبية، وهى القاعدة البحرية بالسويس، فى محاولة للوصول إلى السويس عن طريق الخليج، وبدأ الجيزى وزملاؤه التعامل مع جنود الإنزال، لكنهم كانوا فى هذه المرة أقوى، لأنهم مزودون بمعدات وأسلحة تفوق ما لدى المجموعة المصرية، وعندما أظهر الجنود صلابة فى الدفاع، فجّر الجنود الإسرائيليون المبنى الذى يتواجد به الجيزى، وبفارق بضع ثوانٍ فقط كان للجيزى نصيب فى استمرار الحياة، حيث كانت تلك الثوانى كافية ليقفز من نافذة الدور الثانى إلى المبنى ويسقط على الأرض، ويبدأ بالزحف حتى إحدى استراحات مهندسى السماد، على الطريق فى المنطقة بين الأدبية وجبل عتاقة، فكتبت الحياة للجيزى ونال البقية شرف الاستشهاد». ويواصل نوح «اختبأ الجيزى فى استراحة مهندسى السماد بالجبل لمدة 9 أيام، وحيدًا لا يملك أى شىء سوى صديقيه؛ البندقية والخنجر، وبصحبتهما بدأ الجيزى أولى جولاته الليلية فخرج إلى الجبل واصطاد أول جندى حراسة إسرائيلى وقتله، وكرر الجيزى هذه الجولة حتى أصبحت جولة يومية يخرج خلالها للبحث عن جنود الحراسة الإسرائيلية، فيتخفى حتى يذبح أحد العساكر الإسرائيليين بالخنجر الذى بحوزته ثم يأخذ المؤن والسلاح الخاصين بالجندى، ويعود بها إلى الكهف مرة أخرى، واستمر على هذا الوضع لمدة 9 أيام حتى بلغ عدد قتلى الإسرائيليين 9، وهو ما جعل القوات الإسرائيلية فى حالة هياج لعدم معرفتهم بقاتل جنودهم، حتى تعودوا على الاستيقاظ يوميًا على خبر ذبح عسكرى الحراسة». ويعود نوح بذاكرته «بدأت القوات الإسرائيلية بتكثيف جهودها والعمل على كشف هذا اللغز، وكان مفتاح الحل لدى غفير منطقة السماد، الذى تعرض لإرهابهم وتهديده بقتل بناته وزوجته أمام عينيه، وهو ما جعله يحدثهم عن شبح يخرج ليلًا من الكهف ليقتل جنودهم، وكانت هذه المعلومة هى نقطة التحول فى كشف سر الجيزى». ويصل نوح، فى حكايته، إلى لحظة الشهادة «فى يوم 24 أكتوبر، كانت أول تحركات القوات الإسرائيلية بناء على تلك المعلومة، عن طريق محاصرة الاستراحة التى كان بها، وفور إتمامهم لعملية الحصار شغلوا مكبرات الصوت التى طالبته بالخروج من الكهف والاستسلام، وهو ما لا يعرفه الجيزى فإما نصر أو شهادة، فقرر الدخول فى معركة شديدة وجها لوجه استمرت 11 ساعة، سطر بها الجيزى قصة بطولة مصرية، فأعجزتهم شجاعته وعدم خوفه من الموت، فأطلقوا القنابل على الكهف حتى انهار فوقه، وهنا سطر القدر نهاية قصة لبطل مصرى لم يعرف للهزيمة طريقًا». وظل أصدقاء الجيزى فى حسابات معقدة بشأن مصيره، فقد احتسبه البعض شهيدًا، فى حين رفض البعض الثانى تصديق خبر شهادته، ويشرح نوح: «استمر هذا الوضع لسنوات، حتى زار أحد السياح الإسرائيليين مدينة شرم الشيخ، وحين نزل على أحد اليخوت الخاصة بالسياحة والغطس، وأثناء حديثه مع صاحب اليخت، وكان السائح يتقن العربية، تعرف على صاحب اليخت أحمد حسام شاكر، الذى كان يعمل ضابطًا بالبحرية المصرية واشترك فى حرب أكتوبر، وسأله: «هل تعرف مقاتلًا يسمى محمود على الجيزى؟ وهو ما رد عليه شاكر مسرعًا بالسؤال عن مصيره، فحكى له السائح الإسرائيلى عن عمله بالقوات الإسرائيلية واشتراكه فى عملية استشهاد الجيزى». وحكى الإسرائيلى، بحسب نوح، كيف أظهر الجيزى بطولات نادرة، وهو ما دفعهم لدفنه بالصورة التى تليق ببطولته، مؤدين له التحية العسكرية أثناء مراسم الدفن، ليكون الجيزى من القلة النادرة التى أجبرت عدوهم على احترامهم». ويختتم الرائد سمير نوح موجهًا رسالة إلى الشباب «قمنا بتسليم الراية إليكم مرفوعة، ونتمنى أن تظل مرفوعة فى حب الوطن، فنحن الآن فى سن لا تجعلنا نريد أى شىء، وأصغر من شارك بالحرب يبلغ الآن ال65 على الأقل، ولكننا نقول إلى أبنائنا وأحفادنا: يجب أن تكونوا يدًا واحدة، وأن تصبروا على ظروف البلد».