تنبأت بها اليهودية.. والمسيحية تعتبرها أعلى من الملائكة.. والإسلام كرمها فى القرآن بسورتين نذرتها أمها لهيكل سليمان فى الثالثة من عمرها.. وغادرت الهيكل وعمرها 12 عامًا.. وتزوجت يوسف ابن ال90 شاهد علامات الحمل فاعتقد بسقوطها فى الزنا.. حتى برأها «الملاك» فى الحلم.. وماتت وعمرها 63 عامًا تحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية خلال هذا الأسبوع باحتفالية خاصة جدًا لدى الأقباط، وهى صلوات «تسبيحة كيهك»، وهى صلوات روحية تستمر طوال شهر كيهك القبطى حسب التقويم القبطى بالكنيسة الأرثوذكسية. كما تطلق الكنيسة على هذا الشهر اسم «الشهر المريمى» حيث يدور بمجمله حول السيدة العذراء مريم، وتسبيحة «7 و4» نسبة لمكونات التسبيحة نفسها وهى السبع ثيؤطوكيات وهى جمع لكلمة (ثيؤطوكية) وهى (تمجيد خاص بالعذراء مريم) ومعناها باليونانية (والدة الإله) - حسب المعتقد المسيحى، والأربعة (هوسات) وهى جمع لكلمة (هوس)، وهى كلمة قبطية معناها (التسبيح)، وتقام التسبيحة خلال يوم أو يومين فى الأسبوع حسب ظروف كل كنيسة، حيث تكون السهرة صباحية تبدأ من الساعة التاسعة ليلًا لتنتهى بصلاة القداس صباح اليوم التالى. وتتمتع العذراء مريم بمكانة خاصة جدًا فى الكنيسة تفوق الملائكة والقديسين، حيث دخلت التاريخ وتحولت من امرأة مهمشة إلى أشهر سيدة، نتيجة ولادتها للسيد المسيح بمعجزة، بل وفاقت شهرتها هذه أم العالمين حواء. وتنبأت اليهودية بعذراء تلد ابنًا، ويكون مخلصًا للعالم، أما المسيحية فتكرمها بشكل جلى، وتلقبها بالسماء الثانية وغيرها من الألقاب التى تندرج فى إطار تكريمها، الذى تعتقد الكنائس أنه جزء من العقيدة المسيحية. وفى سبيل ذلك أقامت الكنائس عددًا من الأعياد والتذكارات فى السنة الطقسية، خاصة بالسيدة مريم، بلغت 9 أعياد، فى حين يكون لكل قديس فى الكنيسة عيد واحد فقط، هو يوم نياحته أو استشهاده، وربما عيد آخر، هو العثور على رفاته، أو معجزة حدثت باسمه، أو بناء كنيسة له. كما خصت الكنيسة السيدة مريم بشهر كامل باسمها، وهو شهر كيهك، وشيدت أعداد كبيرة من الكنائس والمزارات التى تحمل اسمها، إلى جانب طرق مختلفة أخرى من التكريم. أما الإسلام فيعتبر السيدة مريم خير نساء العالمين، وترتبط بها السورة الثالثة فى القرآن، وهى سورة آل عمران، المنسوبة إلى اسم عائلتها؛ فضلًا عن سورة أخرى باسمها وهى السورة التاسعة عشر فى القرآن، سورة مريم، علمًا بأنها السورة الوحيدة فى القرآن المسماة باسم امرأة. ورغم كل تلك المكانة للعذراء مريم إلا أننا لا نعرف عنها إلا القليل، لذلك حاولت «الصباح» سبر غور حياتها المليئة بالأسرار فى عيدها لنطلع العالمين على قدوة ومثال اجتمعت عليه الألباب. مريم نذيرة الهيكل «المرارة» معنى يتحول إلى حال، فينقلب من معنى لاسم العذراء إلى واقع تعيشه فى حياتها، وبحسب الرواية الواردة فى التقليد والتاريخ الكنسى، فإن والدى العذراء كانا عجوزين لا أولاد لهما، فى حين كانت أمها عاقرًا لا تستطيع الإنجاب، الأمر الذى كان يعتبر عارًا فى المجتمع اليهودى القديم، لكن الرب أجرى معجزة لوالدتها، فحبلت وأنجبت مريم بعد أن نذرت نذرًا بأن تهبها لله. وهذا ما حدث فعلًا، فعندما ولدت مريم قدمتها والدتها للخدمة فى هيكل سليمان (مكان عبادة اليهود)، ولها من العمر ثلاث سنوات. وتجندت مريم لخدمة الهيكل، لتكون من ضمن 250 مكرسة يعشن هناك فى رواق النساء بالهيكل، وقد قضت حياة نسكية تشبه حياة الرهبان، حيث كانت مداومة على الصوم والصلاة، ومنكبة على بعض الأعمال اليدوية مثل الغزل والحياكة، وبعض أعمال النظافة. وكانت تنام قليلًا ودائمة الصمت فى ابتسامة مشرقة، تجالس الاتقياء من الكهنة، مثل زكريا الكاهن، أحد أقربائها، وسمعان الشيخ وحنة بنت فنوئيل المتعبدة والنذيرات. خطوبة أم زواج؟ يعد يوسف النجار من الشخصيات الجدلية فى حياة القديسة مريم، خاصة أنه الشخص الذى وقعت القرعة عليه لرعاية مريم بعد خروجها من الهيكل فى سن الثانية عشر، حيث لم يكن يُسمح للنذيرات المكوث هناك بعد بلوغهن، وبما أنه لم يكن للعذراء أحد يعولها بعد وفاة والديها، قرر كهنة الهيكل تسليمها لزوج يرعاها وتحيا فى كنفه، وتمت القرعة التى كانت وفق التقليد اليهودى يتم فيها جمع عدد كبير من شيوخ وشبان، وتؤخذ عصيهم بعد كتابة أسمائهم عليها ويتم وضعها فى الهيكل، وبعد الصلاة صعدت حمامة فوق العصا، التى كانت ليوسف النجار، ثم استقرت على رأسه، فعقد الكهنة خطبته على مريم، وكان حينها فى حوالى التسعين من عمره، بينما كانت مريم فى الثانية عشرة من عمرها، وعاشت فى بيته. ويأتى الجدل المتعلق بشخصيته من ادعاء اليهود زواج مريم من يوسف النجار ونسب السيد المسيح إليه، رغم مخالفة ذلك للتقاليد الاجتماعية الخاصة باليهود فى ذلك الوقت فيما يتعلق بالخطبة والزواج. كان الزواج حسب التقليد اليهودى يتم على مرحلتين: خطبة ثم زواج، فبعد أن تتم بعض الترتيبات المالية يخطب العروسان فى بيت العروس، هذه الخطبة فى الحقيقة تعادل الزواج السائد حاليًا فى كل شىء ما خلا العلاقات الجسدية، فالمخطوبة تُدْعى «زوجة»، وتصير أرملة إن مات خطيبها، وتتمتع بجميع الحقوق المالية كزوجة إن ترملت أو طلقت، وإن خانت خطيبها تقع تحت العقوبة كزوجة خائنة، ولا يستطيع خطيبها أن يتخلى عنها بغير كتاب طلاق. أما الخطوة التالية وهى الزواج فغالبًا ما تنتظر المخطوبة - التى لم يسبق لها الزواج - عامًا قبل إتمام مراسم الزواج، من هنا نستطيع أن ندرك سرعة دعوة القديسة مريم «امرأة يوسف» رغم كونها مخطوبة وليست متزوجة. وعما إذا كانت هناك علاقة زوجية بين مريم العذراء ويوسف النجار، يشير القديس أوغسطينوس، أحد علماء المسيحية، إلى سؤال القديسة مريم للملاك: «كيف يكون لى هذا وأنا لا أعرف رجلًا» (إنجيل لوقا 1: 34)، ويقول: «بالتأكيد ما كانت تنطق بهذا، وهناك نذر مسبق بأن تقدم بتوليتها لله، وقد وضعت فى قلبها أن تحققه». فقد يسأل البعض «كيف خُطبت السيدة العذراء مريم إلى القديس يوسف النجار بالرغم من أنها نذرت البتولية؟ ولماذا خُطِبَت إلى شيخ كبير السن كالقديس يوسف النجار؟ فهى قد خُطِبَت للقديس يوسف النجار لكى يحفظها فى بيتِه وليس لكى يتزوّجها كزوجة، بدليل أنها قالت «لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلًا» (إنجيل لوقا 1: 34). وقد كانت فتاة يتيمة ليس لها أقارب تعيش بينهم، وكانت فى السابق تُرَبّى فى الهيكل، والبنت فى الهيكل تُربى إلى سن معينة، ثم تترك الهيكل.. فلهذا أصبحت فى حِفظ رجلٌ كبير السن هو يوسف النجار. الخطبة عند اليهود تقابل «كَتْب الكتاب» عند المسلمين، وتعطى للخطيب كل حقوق الزوج الشرعية فيما عدا العلاقة الزوجية الجسدية، لذلك يقول الإنجيل إن يوسف النجار عندما اكتشف أن مريم حامل عندما رأى انتفاخ بطنها، ظن أنها أخطأت. ويقول الكتاب عن يوسف إنه رجلها وعن العذراء أنها امرأته (آيات 19-20). وهى ليست كالخطبة العادية عند المسيحيين أو المسلمين، بل هى بمثابة زواج، ويجب أن تمر فترة زمنية حتى يسكنا معًا ويعرفا بعضهما. وهذا هو الوضع الذى حملت فيه العذراء بالمسيح.. ولأن المخطوبة عند اليهود تُعَامَل كالمتزوجة، فعقوبة زنا المخطوبة مع غير خطيبها هى الرجم (سفر التثنية 22: 23-24). ربة منزل وزانية فى نظر الشريعة كانت حياة مريم فى بيت «النجار» كباقى ربات البيوت، يملأها العمل المنزلى بأنواعه، خاصة أن زوجها كان نجارًا فقيرًا، فكانت تتنقل من إعداد الخبز وطحن الحبوب بالرحى وعجنه وخبيزه إلى استقاء الماء مرتين من عين الماء عند الفجر والغروب، وكنس البيت وما حوله، وغزل الصوف والكتان. وعند المساء كان يوسف يعود من عمله كنجار ليأكلا معًا، حتى جاء ما عكر صفو تلك الحياة، حين حبلت مريم بأمر الله، لكنها لا تخبر خطيبها ليلاحظ علامات الحمل عليها، فيتسلل الشك إلى قلبه، ولا يعود يجالسها بل ويتحاشى النظر إليها، كما كان كثير السرحان والحزن، وهو بحيائه لم يسألها، وهى لم تتكلم. ومن هنا جاءته فكرة أن يتخلى عنها سرًا بدلًا من التشهير بها، إذ كانت عقوبة الزانية المتزوجة القتل فى الشريعة اليهودية، ولكن فى نفس الليلة جاءه الملاك فى حلم، حسب رواية الإنجيل، لينزع شكه ويخبره بحقيقة الحبل الإلهى. وكانت جملة حياة يوسف النجار مائة وإحدى عشرة سنة، منها 40 سنة بتولا، لكنه تزوج فيما بعد كما هو مكتوب فى كتاب سير القديسين، المعروف باسم «السنكسار»، لمدة اثنين وخمسين عامًا، وتوفيت زوجته، وصار أرملًا تسعة عشر عامًا، حتى توفى فى السنة السادسة عشر لميلاد المسيح. وفاة مريم وصعود جسدها وبعد سنين من صلب السيد المسيح وصعوده إلى السموات، وإنشاء الكنيسة الأولى فى أورشليم، ومشاركة أم المسيح فى تكوينها، تنتقل العذراء بعد أن كانت تعيش فى بيت أحد تلاميذ المسيح، وهو يوحنا الحبيب، لتتوفى عن عمر 63 عامًا فى فلسطين، حيث تمّ دفنها فى بستان الزّيتون الموجود فى مدينة القدس، والذى ما زال موجودًا حتى الآن بكنيسة الجثيمانية بالقدس، وتحتفل الكنيسة بنياحتها فى يناير من كل عام. وتقول الرواية المسيحية، حسب الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية، أن جسد العذراء مريم قد بعثت فيه الرّوح مجددًا بعد أيام ثلاثة من وفاتها، لتنتقل بعد ذلك بالرّوح والجسد إلى السّماء وعلى مرأى من الناس، إلاّ أنّ بعض الكنائس تنكر الانبعاث، وتقول إنّه لم يحدث إلاّ للسيّد المسيح. وإذا كان من الطبيعى أن تجد آلاف الكنائس والأديرة باسم مريم، فقد كان لافتًا ما حدث فى شهر يونيو الماضى، حيث تم بناء أول مسجد فى العالم يحمل اسم السيدة العذراء، وهو مسجد السيدة مريم الواقع بمدينة طرسوس فى سوريا.