على عكس الشائع فى السنوات الماضية من ترويج لفكرة أن السينما المصرية انحصرت فيما أطلق عليه «أفلام المقاولات» التى لاتهدف سوى للربح ومغازلة « شباك التذاكر»، إلا أن الناقد وليد رشاد يرى أن السينما هى أحد الأسباب الأساسية التى أدت لقيام ثورة 25 يناير 2011، بتحريضها عليها منذ السنوات الأولى لتولى الرئيس الأسبق مبارك لمنصبه بعد رحيل السادات، فقد توقف وليد عند 31 فيلمًا كانت بمثابة الضمير الذى راقب نظام الرئيس الأسبق مبارك على مدى سنوات حكمه الثلاثين. هذا الضمير بدأ بصرخات واضحة بأننا نسير عكس انتصار أكتوبر 1973، إذ نرى إشارات حذرة فى فيلم «سواق الأتوبيس» لإصرار النظام على إهمال من خاضوا حرب أكتوبر، فتتوالى المشكلات على بطل الفيلم، الذى كان أحد أولئك المحاربين القدامى، والذى بات لا يقوى على المواجهة، بعدما كان يواجه الأعداء بكل شجاعة دفاعًا عن الوطن، لكن الواقع المر يجعل منه شخصًا سلبيًا. السلطة للشعب فى التوت والنبوت تنتقل السينما من التحذير من ضياع رجال نصر أكتوبر إلى الرمز القوى الأقرب للمباشرة من ضرورة أن يتوقف النظام عن عبثه، ويدرك أن السلطات مصدرها الشعب، وجاء هذا التحذير فى «التوت والنبوت» الذى عرض فى 20 يناير 1986، وهو عن رواية الحرافيش لنجيب محفوظ، وسيناريو عصام الجمبلاطى، وإخراج نيازى مصطفى، وشارك فى التمثيل: عزت العلايلى، محمود الجندى، سمير صبرى، أمينة رزق، حمدى غيث، وتدور أحداثه فى نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.. فى تلك الفترة كان الجو العام له خصوصيته، حيث كان لكل بلد أعرافه، وكان لكل حى فى القاهرة حاكم يصل إلى السلطة بقوته، فيطلق عليه الناس «الفتوة»، وهكذا يؤسس حكمه ويبارك له الجميع، وبالطبع اختار نجيب محفوظ «الفتوات» ليرسم لوحة معبرة لعلاقة تاريخية منذ بدء الخليقة للحاكم والمحكوم، وفى كل روايات الحرافيش، كان يخلص محفوظ إلى نهاية مؤكدة، وهى أن السلطة تأتى فى الأصل من الحرافيش «الشعب»، ولا يمكن لأحد السيطرة على شعب أراد حريته وكرامته، فلقد رأينا الشعب يهب، بعد أن أخذ عاشور الناجى على عاتقه قيادة ثورة، وأخذ يؤسس لها بتوعية الجميع فى ندوات مفتوحة فى أماكن بعيدة لا يعلم عنها الفتوة ورجاله شيئًا، حتى جاءت لحظة الصفر وتحرك عاشور يقود الثورة ضد الظلم والفساد ويقضى على الفتوة «الحاكم الطاغية»، وهو ما حدث فى ثورة يناير عندما ثار الشعب ضد نظام فاسد. الحرمان من الحياة الكريمة وقد سعت أفلام كثيرة لتعرية فساد النظام، وعجزه عن توفير متطلباته الأساسية فى الحياة فى سكن مناسب، خاصة للطبقة المتوسطة، فنجد ذلك الشاب المهندس فى فيلم كركون فى الشارع، يعبر عن طبقة بأكملها ليس لها مأوى سوى الشارع، بعد أن عجزت الدولة عن توفير مسكن مناسب، فقد رصد الفيلم- على حد تعبير- وليد رشاد ظاهرة سحق عظام الطبقة المتوسطة للشعب المصرى، وهى الطبقة الأكثر قدرة على الحركة، ولكنه حرمت من حقها فى الحياة الكريمة، وهو ما عبر عنه المهندس شريف المصرى، الذى وجد نفسه وأسرته فى الشارع، فى الوقت الذى ينظر بعجز شديد إلى الماكيتات للمشاريع التى يقوم ببنائها لصالح الشركة التى يعمل بها، وهذه اللقطة تصل بنا إلى السؤال الرئيسى للفيلم: كيف يكون هو المهندس الذى يبنى المساكن للجميع، ولا يجد مسكنًا له ولعائلته، إلا إذا كان الوضع مغلوطًا وبعيدًا عن المنطق، عرض الفيلم عام 1986، وهو من إخراج أحمد يحيى.. قصة وسيناريو أحمد الخطيب، ومن أبطال الفيلم عادل إمام ويسرا. البيروقراطية العتيقة وتظهر فى التسعينيات مجموعة من الأفلام التى تتصدى بشكل واضح لتجبر السلطة وغشمها وعدم شعورها بالمواطن، كما رصدت لما نطلق عليه حاليًا «بحزب الكنبة» الذى يريد أن يعيش ويربى أولاده ولا شأن له بمجريات الأمور، وخير تمثيل لهذه الأفكار فيلم «الإرهاب والكباب» الذى عرض فى عام 1992، وهو كما يحلله وليد رشاد من أفلام الكوميديا الاجتماعية التى ترصد حالة الرضا الغريب للأغلبية الصامتة فى مصر، التى تشكل كتلة كبيرة من شرائح المجتمع، وأن أفيش الفيلم ظهر فيه البطل وهو يحمل قفصًا مليئًا بالخبز المدعوم فوق رأسه، وهنا يدل الأفيش على المضمون، وأننا بصدد حالة رجل من عامة الشعب يعمل طوال يومه فى صمت، وكل همه هو إطعام أطفاله وتربيتهم، فهو مواطن بسيط يقوم بدوره فى الحياة، متعته منها قليلة ولا يطالب بأية حقوق، المهم أن يعيش فى حاله ويربى صغاره، مثله كمثل الملايين من شعب مصر، فى ظل حكم ديكتاتورى وحكومة انشغلت بنهب ثروات الدولة بدلًا من تنمية البلاد، فنرى تعرضه لموقف يحدث للكثير من المصريين، عندما يحاولون نقل صغارهم إلى مدرسة قريبة من مسكنهم، ليجنبهم مشقة المواصلات، فيوقعه حظه مع موظف وموظفة يضعان له العراقيل ليفقد هدوءه، وتثار أعصابه فيشتبك مع الموظف الذى يستدعى له رجالًا من شرطة مجمع التحرير وأثناء محاولتهم القبض عليه، تقع بندقية أحدهم فى يده دون قصد من أثر الشد والجذب، ولعدم درايته بعمل السلاح النارى يضغط على الزناد، فتنطلق دفعات من الرصاص ترهب العساكر، ويبدو الأمر كما لوكان استيلاء على المجمع، وتبدأ المفاوضات مع الحكومة، عرض الفيلم عام 1992، وهو من إخراج شريف عرفة، سيناريو وحيد حامد، وقد عبر عن الغضب المكتوم داخل صدور الملايين من الشعب من البيروقراطية الحكومية. حقبة منفصلة ويأتى الفيلم الأكثر قسوة للنظام، والذى يتعرى فيه تمامًا، ويكشف أنه بلا امتداد تاريخى، وأنه يمثل حقبة منفصلة عن الحقب السابقة له خاصة الحقبة الناصرية، وأقصد فيلم «أرض الخوف»، وهو اسم العملية التى كلف بها واحد من أكفأ ضباط البحث الجنائى فى الستينيات، حيث تم زرعه فى عالم المجرمين، من أجل الكشف عنهم، من خلال تقارير يرسلها للجهات الأمنية عبر البريد، لكن منذ عام 1981 (سنة تولية مبارك الحكم)، فقد الاتصال بقادته، وأصبحت تقاريره مهملة لا تجد من يقرؤها سوى موظف البريد، فقد فقد الضابط الاتصال بقيادته، التى ظلت تتابعه عبر سنوات طويلة، رغم تغير المسئولين، حيث يورث كل مسئول السر للذى يخلفه، حتى جاء رجال النظام السابق ليهدموا كل شىء بابتعادهم عن العمل لصالح الوطن، مما جعل الضابط فى موقف لا يحسد عليه، ويشير الفيلم بوضوح للإهمال الذى أصاب الوطن، وضياع فكرة التخطيط والعمل التراكمى، عرض الفيلم فى عام 2000، وهو إخراج وسيناريو داود عبد السيد، ومن أبطاله: أحمد زكى، حمدى غيث، عزت أبو عوف. زمن أسود فى تاريخ الوطن أما فيلم طيور الظلام فهو تجسيد مباشر لما فعله قلة استفادت من خيرات البلاد، وتركت المواطن فريسة للفقر، وهو ما جعل وليد رشاد يعلق عليه بقوله: «حلقت طيور الظلام فى سماء مصر فى حقبة سوداء من تاريخ البلد، كانوا كخفافيش ومصاصى دماء استساغوا دماء المصريين، إنهم فئة من الدهاة الماكرين استطاعوا السيطرة على مقدرات الأمور بذكائهم، وأخذوا فى السلب والنهب والاستيلاء على المال العام وقبلوا الرشوة وجعلوها منهجًا لحياتهم، فسقط الوطن بسبب أفعالهم المشينة، والسؤال هنا من سمح لهؤلاء الخفافيش بأن يحلقوا فى سماء الوطن الآمن، ومن تركهم يستولون على أموال المصريين، ومن سمح باعتلائهم الكراسى الحكومية؟ كل هذا طرحه صناع الفيلم الذى رصد كل هذا الفساد، ونجحوا فى خلق تركيبة درامية لمحاكاة ما يحدث فى الواقع، وتم عرض الفيلم ووصلت الرسالة للمتلقى الذى استوعبها واختزنها بدوره إلى أن واتته الفرصة، وقامت الثورة، فتحققت نظرتى فى أن السينما هى الوقود الحقيقى لثورة 25 يناير»، الفيلم عرض 1995، من إخراج شريف عرفة، وسيناريو وحيد حامد. الأفكار لها أجنحة لأننا لايمكن ونحن نقرأ عهد مبارك من خلال الأفلام السينمائية، التى عكست أشكال الاستبداد والقهر، أن نتغافل عن الأزمات التى صنعها التيار الإسلامى السياسى، وما فعله من محاولات لكبت الحريات، وهذا ما عبر عنه برمزية شديدة الدلالة المخرج الكبير يوسف شاهين من خلال فيلمه الذى كتب السيناريو معه خالد يوسف «المصير»، وهو الفيلم الذى طرح السؤال الكبير حول المصير، وجاءت الإجابة كما كتبها المخرج على الشاشة «الأفكار لها أجنحة»، ولا يمكن لأحد أن يحبسها أو يمنع وصولها للناس، وعندما يحاول أحد ما منعها فستنتهى الأمور إلى ثورة محققة لا يمكن تلافيها، ولقد عرض الفيلم بعضًا من ملامح السيرة الذاتية للعالم العربى والفيلسوف الكبير ابن رشد فى مرحلة من مراحل حياته التى قاربت ستين عامًا، من أبطال المصير: نور الشريف، ليلى علوى، محمود حميدة، صفية العمرى، محمد منير. أفلام الألفية الجديدة عندما نصل إلى أفلام الألفية الجديدة، نجدها واضحة تمامًا فى معانيها التى تصدت للنظام ليس فقط فى تعامله مع القضايا الحياتية، بل - أيضًا - طرحت العديد من علامات الاستفهام حول العلاقات مع الدول والأسس التى تحكمها، من هنا يطرح فيلم «السفارة فى العمارة» إشكالية ازدواج التعامل مع العدو الإسرائيلى المنبوذ شعبيًا بسبب فظاعاته مع الشعب الفلسطينى، والمعترف به رسميًا، والسماح بأن يكون له سفارة فى عمارة سكنية، يسعى أحد قاطنيها لطرد التمثيل الإسرائيلى من العمارة، ويلجأ للفصل فيها للقضاء، لكنه يفشل للتدخلات الحكومية، الفيلم عرض فى 2005، إخراج عمرو عرفة، تأليف يوسف معاطى، من أبطاله: عادل إمام، داليا البحيرى، أحمد راتب. ومن الأفلام – أيضا- ذات التعرية السياسية، فيلم «العسل الأسود» الذى يفضح التبعية لأمريكا، ويحكى عن عودة شاب أمريكى من أصل مصرى إلى أحضان الوطن، وأراد أن يعامل بجواز سفره المصرى، لكن لم يعامل بشكل يناسب كرامة الإنسان، فاضطر إلى إظهار جوازه الأمريكى، الفيلم إخراج خالد مرعى، سيناريو خالد دياب، ومن أبطاله: أحمد حلمى، وإدوارد. سؤال وإجابة وبذكاء شديد يضع وليد رشاد إجابة عن سؤال راودنى طيلة قراءتى لكتابه «السينما والثورة» الصادر عن هيئة قصور الثقافة، وهو لم ير النظام الخطر الكامن وراء هذه الأفلام، وليد قدم إجابة منطقية، وهى أن صناع الأفلام نجحوا فى تمرير أفلامهم تارة من خلال وضع مشاهد فى النهاية ترضى الحكام (كما حدث فى العسل الأسود)، وتارة من خلال استغلال نجوم لهم مكانة فى الأوساط الحاكمة فيقوم صناعها ربما مضطرين لإسناد أدوار رئيسية إلى أولئك النجوم ذوى العلاقة الطيبة بالحكام، وقد ساعد ذلك على ظهور أفلام مهمة فى مصر تحمل فى طياتها نقدًا لاذعًا وتحريضًا قويًا على فعل شىء بالنسبة للمتلقى، وأن النظام السياسى لمبارك اعتمد على سياسة بالطبع كانت ضد مصلحته، وهى السماح من حين لآخر للمعارضين بنقده، وكشف حقائق فساده، وذلك ليصور للعالم أنه نظام ديمقراطى، فخرجت أفلام مهمة إلى النور، وتربى عليها وجدان الشباب، الذين كانوا وقود ثورة يناير.