فى 30 يناير 1975 أصدرت لجنة إجرانت الإسرائيلية المشكلة لتقصى حقائق هزيمة الإسرائيليين فى حرب 73 تقريرًا من 1500 صفحة تم اعتبار 1458 صفحة منها سرية، وتم نشر 42 صفحة - هى عبارة عن المقدمة - فقط. «الصباح» استطاعت الحصول على نسخة من تقرير لجنة إجرانات الكامل، والذى تناول الأحداث بالتفصيل، وانتقد جيش الدفاع الإسرائيلى بشدة لافتقاره إلى التأهب وخلل فى التنسيق بين مختلف الوحدات، وتناول التقرير أيضًا جوانب أخرى، مثل الأوامر والانضباط والإمدادات الطارئة. كما أقر الإقالات والتوصيات التى سبق ذكرها فى التقارير الأولية. وتطالعنا فى الصدارة بالطبع شهادة «جولدا مائير»، رئيسة الوزراء الإسرائيلية التى اعترفت بأنها أخطأت قبل السادس من أكتوبر مباشرة عندما وصلتها معلومات عن هجوم محتمل على كل من الجبهة المصرية والسورية، وبعد مناقشة الأمر فى اجتماع مع رئيس المخابرات ورئيس الأركان لم تجد فى نفسها الشجاعة الكافية لاتخاذ قرار باستدعاء الاحتياطى ورفع حالة التأهب فى الجيش. وأرجعت مائير ترددها فى اتخاذ هذا القرار أو حتى اتخاذ قرار بتوجيه ضربة عسكرية استباقية بعد علمها بنوايا المصريين والسوريين إلى خشيتها من رد الفعل الأمريكى، خاصة أنها كانت تنتظر دفعة من المساعدات العسكرية من الولاياتالمتحدةالأمريكية، ولم تكن ترغب فى أن يفهم الأمريكان من استدعاء الاحتياطى ورفع حالة التأهب أن إسرائيل تنوى شن حرب جديدة ضد جيرانها فيفكرون فى التراجع عن مدها بالمعدات المطلوبة. دخلت مائير فى شهادتها إلى مناطق أبعد وأكثر صراحة حيث ذكرت أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تحت رئاسة نيكسون لم تكن ستتسامح مع إسرائيل لو بدأت بشن الحرب هذه المرة أيضًا، ولم تكن ستتدخل لمساعدتها، وتضيف مائير أنها كانت تخشى أيضا من أن الجيش الإسرائيلى ليست لديه المعدات الكافية للبدء فى حرب جديدة، وأنها كانت تنتظر وصول المساعدات الأمريكية قبل اتخاذ مثل هذا القرار، الطريف أن الموعد المحدد لوصول هذه المعدات كان السادس من أكتوبر وفق الاتفاقيات المبرمة سلفًا ما بينهما. شهادة مائير بأنها كانت على علم بالحرب قبل وقوعها تتناقض مع قرارات «لجنة إجرانات» فى ذلك الوقت التى ألقت باللوم كاملًا على رئيس المخابرات الحربية «الجنرال إيلى زعيرا» والذى اتهمه تقرير اللجنة بتضليل الحكومة. فى شهادتها تلقى مائير باللوم أيضًا على زعيرا، وأيضًا على رئيس الموساد «زافى زامير» مشيرة إلى أن الأول لم يهتم بإبلاغها برحيل الخبراء السوفييت من سوريا فى نهاية سبتمبر، ورحيل عائلات الدبلوماسيين الروس من مصر فى نفس التاريخ، وأن الثانى لم يخبرها بالاجتماع الذى دار بينه وبين إحدى الشخصيات عالية الأهمية فى التعاون مع إسرائيل، والذى نقل له تحذيرًا واضحًا عن هجوم عسكرى مصرى وشيك. اضطرت مائير إلى ذكر ما دار فى الاجتماعات الوزارية التى سبقت يوم السادس من أكتوبر لتدلل على صحة ما جاء فى شهادتها، وهو ما أخرج مشاهد مزرية عن حجم الارتباك والتخبط والهلع الذى ساد الجميع فى القيادة الإسرائيلية دون استثناء، ففى الاجتماع الأشهر لمجلس الوزراء الإسرائيلى، والذى عقد فى الثانية عشر ظهرًا يوم السادس من أكتوبر أول وزير الدفاع «موشيه دايان» اهتمامًا كبيرًا بالمعلومات الاستخباراتية التى أكدت اندلاع الحرب فى تمام السادسة مساءً بعد غروب الشمس على الجبهتين المصرية والسورية، وكان كلما قرأ على وزراء الحكومة سطرًا من خطة الهجوم المصرية كلما ازدادت حالة التوتر بينهم، حتى صرخ وزير السياحة بعصبية: من أين لك بهذه المعلومات؟! فى حين طالب بعض الوزراء بضرورة إنزال ضربة وقائية على مصر خوفًا من التبكير بموعد الحرب، رفضت جولدا مائير ذلك، ورأت أنه من الأجدى ضرب سوريا فى حالة هجوم القوات المصرية. وبعد ذلك دار جدال طويل ومحموم بين الوزراء والقادة العسكريين الذين حضروا هذا الاجتماع حول مصداقية هذه المعلومات من عدمها، واتفقوا على عقد جلسة مسائية تبدأ فى الساعة السادسة وقت اندلاع الحرب وفق معلومات دايان، إلا أن جولدا مائير لا أحد يعلم التوقيت الصحيح، وربما يحدث الهجوم فى الساعة الرابعة، وعندما نظرت فى ساعتها قالت أمامنا ساعتان، وفى نفس اللحظة تم سماع دوى صافرات الإنذار إيذانًا ببدء الهجوم المصرى إلا أنها لم تسمعها جيدا، وواصلت حديثها عن تفاصيل الجلسة التى ستعقد فى تمام الرابعة من نفس اليوم، وعندما قالت عبارة ربما نبدأها فى الرابعة والنصف سمعت جيدًا صافرات الإنذار، وسألت ما هذا وقبل أن يجيب أحد من الحاضرين الاجتماع معها اندفع إلى غرفة الاجتماعات مدير مكتبها ليبلغها لاهثا بأن الجيش المصرى قد بدأ الهجوم. أما عن رئيس الأركان الإسرائيلى الجنرال «ديفيد إليعازر» والمدان الأكبر وفقًا لتقرير وأحكام لجنة إجرانات، فقد قال مباشرة فى شهادته أمامها أنه مثل غيره من القادة الإسرائيليين، كان يعتقد أن المصريين ليست لديهم فرصة ضد إسرائيل فى أى حرب محتملة، وأضاف: «لقد شعرنا نتيجة تفوقنا العسكرى والمخابراتى بأننا نعرف جيدًا كل ما يدور فى مصر، وفلسفتنا كانت أنهم فى مصر يتحدثون عن الحرب ويفكرون فى الحرب ويستعدون من أجل الحرب، ولكنهم لن يخوضوها ضدنا أبدا، كنا نعلم بأنها قد تكون أمرًا محتملًا، ولكن فى الوقت نفسه كنت أعتقد ومعى كثير من القادة العسكريين بأنها أمر وفق القواعد العسكرية غير محتمل، كنت أعرف أنهم ليست لديهم فرصة، وحتى لو بدأوا الحرب فمصيرهم الهلاك». «ديفيد إليعازر» أضاف أن أحدًا لم يحذره من اقتراب الحرب سواء من جيش الدفاع أو أفرع المخابرات المختلفة، وأنه لم يتلق أى معلومات جدية من الجواسيس والعملاء الإسرائيليين، فعلى سبيل المثال فى زيارتى للجبهة الشمالية – الجولان فى أيام قليلة تسبق اندلاع الحرب ذكر لى قائد المنطقة الشمالية أنه قلق من التصعيد فى الجيش المصرى وهذا صحيح، ولكن لم يأت أحد من مركز المخابرات أو القيادتين الشمالية أو الجنوبية ليقول إن هناك علامات على أن الأمر يتجاوز التدريبات المعتادة، ويقع خارج حالة الطوارئ الطبيعية بشكل يشير إلى الاستعداد للحرب، وفقط يوم السادس من أكتوبر السبت صباحًا، تلقينا معلومة تفيد بأن الحرب قد تندلع فى المساء. واضطر «ديفيد إليعازر» أن يذكر أمام اللجنة بعضًا من أسرار الإدارة العسكرية لتفاصيل الحرب، فى محاولة منه لدفع الاتهامات عنه بقدر الإمكان، فذكر بأنه قد أبلغ مجلس الوزراء فى الساعة العاشرة من مساء يوم السادس من أكتوبر بتحقيق نجاحات على هضبة الجولان، لكنه اعترف بنجاح القوات المصرية المدوى، وقال إن عمليات صد القوات المصرية التى عبرت قد بدأت، وأنه فى الصباح سيتم إخلاء المنطقة، وأن موشيه دايان أظهر فى هذا الوقت «قدرًا كبيرًا» من التفاؤل فقد كان يرى أنه فى حاله عدم تحقيق القوات المصرية والسورية لأى تقدم أو إنجاز آخر فهذا سيعنى أن الهجوم قد فشل. لكن دايان يعود فى مساء السابع من أكتوبر، وبعد مرور أقل من 24 ساعة على تفاؤله ليعترف أمام مجلس الوزراء بلهجة تحمل قدرًا كبيرًا من المرارة نصا، «لقد كان تقديرى لاحتمالات بدء العرب الهجوم ضدنا منخفضًا للغاية، والنتائج الآن تقول إن القتال المصرى على الجبهة أكبر وأقوى بكثير مما توقعنا»، وفى هذا التوقيت انفعل عليه وزير الهجرة «ناتان بيلد»، وقال بغضب: «كان يمكننا صد ذلك لو قمنا بتجنيد قوتنا قبل 36 أو 48 ساعة من الحرب»، ورد عليه دايان بنبرة منكسرة «لم نكن متأكدين من اندلاع الحرب». الاتهامات تطايرت من وزير الهجرة وغيره من الوزراء بأنه لم يكن لدى إسرائيل تقديرات محترمة عن شكل الاستعدادات المصرية السورى، وهذا يعنى وجود تقصير شديد من جانب المخابرات الإسرائيلية، فرد دايان «لم نكن نعلم متى سيبدأ المصريون الهجوم، ولكننى لا أشعر بالخجل تجاه أجهزة المخابرات لدينا، لأنها لم تتوقع الحرب قبل أسبوعين من حدوثها، وهذا ليس ذنبها وحدها». أقوال صارخة وفضائح انكشفت أمام «لجنة إجرانات» بينت مدى التخبط الذى كانت فيه القيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية فى تعاطيهم مع حرب أكتوبر 73، مما دفع أعضاء اللجنة أن يطلقوا على تقريرهم المدوى اسم «المحدال» العبرى ويعنى «التقصير» بالعربية .. وهو تعبير ملطف عن المعنى الحقيقى الذى حدث وهو الهزيمة الكاملة.