يحلو لبعض المراقبين إعتبار ما جرى بالعراق منذ عشر سنوات ، بداية لتمهيد المسرح العربى لما بات يعرف ب " ربيع الثورات " ، حيث قادت الولاياتالمتحدة تحالفا دوليا وشنت الحرب على العراق في 20 مارس 2003، استمرت قرابة ثلاثة اسابيع وأطاحت بنظام صدام حسين فى التاسع من أبريل. وأعلنت الإدارة الأمريكية حينها ، أنها تهدف إلى تشكيل نظام ديمقراطى يقوم على التعددية الحزبية والتداول السلمي للسلطة ، بعد إزاحة نظام البعث الديكتاتورى الذى كانت تعتبره ضلعا رئيسيا فيما أطلقت عليه " محور الشر " الذى ضم بالإضافة إلى العراق كلا من إيران وكوريا الشمالية . إلا أن الوقائع على أرض الرافدين طوال العقد الماضى ، لا تدع مجالا لأى مراقب أن يرسم سيناريوهات واضحة لمستقبل تلك " الديمقراطية التجريبية " التى فرضتها واشنطن على العراقيين عبر " التوما هوك " وال " بى 52 " ، وأقامت من خلال تلك القذائف جسورا عبرت عليها ويلات تجرعها العراقيون قسرا كما تجرعوا " ديمقراطية الإحتلال " ، التى أعادت إنتاج الطائفية والهوس القومى والفساد الرسمى فى أبشع صوره. دخلت " ديمقراطية الإحتلال" نفقا مظلما لا تستطيع الفكاك منه ، وأعادت رسم المشهد العراقى بشكل شديد التشوه ، بعد أن دفعت بأسماء وتكتلات إلى واجهة هذا المشهد الذى تفوح منه رائحة البارود ، وأطاحت بأخرى كانت تتصدر الواجهة قبل دخول الدبابات الأمريكية إلى قلب بغداد حاملة الحكام الجدد ، من كافة المكونات والأعراق التى أصبحت أدوات تشغيل لآليات صراع لم يعهده العراقيون ولا يعرفون فك طلاسمه حتى الآن. ومع دخول العراق فى نفق الطائفية المقيتة التى أعادت تشكيل كل عناصر المشهد ، سياسيا وإقتصاديا وأجتماعيا وأمنيا وثقافيا ، بات الوضع عصيا على الحل ، نزف دم بريء لا يتوقف، وتحذيرات رسمية من مصائب قادمة لتقويض الدولة، حالة من الأرباك للتغطية على الأزمات ،شركاء يصبحون أعداء، وحلفاء يتنفسون الصعداء بتضخيم الخلافات وتوسيع دائرة الأخفاقات، التي تستهدف وحدة العراقيين في الصميم. بات إنتاج الأزمات وتفعيلها بمثابة "حصان طروادة " الذى يؤجل دفع فاتورة الفشل والحماقات بمختلف أشكالها وعناوين القائمين عليها، وبدت الأزمات المتعاقبة على كافة الصعد طوق النجاة للمسئولين عن اشاعة أجواء الحقد والضغينه من خلال الطروحات الطائفية أو المناطقية أو الحزبية، وهو ما يطيل أمد الخلل حتى إشعار آخر، فى ظل شراكة سياسية رهينة نمط إبتكره الإحتلال وسار عليه منفذوا مشروعه للديمقراطية أطلقوا عليه " التوافقية السياسية " التى يدعمها هذا الفريق أو ذاك. ويبدو السؤال الأكثر إلحاحا الآن هو ، لماذا لم يتحقق ما وعدت به أمريكا من نمط سياسي ديمقراطي يحقق التنمية الإقتصادية مدعوما بإستقرار أمني ، وتوافق مجتمعى يكرس التعايش التاريخى بين مكونات النسيج العراقى الطائفية والدينية والقومية ، ولماذا دخلت أوهام الديمقراطية نفقا مظلما لا يبدو الطريق إلى نهايته واضحا أو متوقعا؟. ولعل قراءة متعمقة لبعض التصريحات الغربية التي تناولت الشأن العراقي ، قبيل حشد هذا التحالف الدولى بقيادة أمريكا وبريطانيا لغزو العراق وإسقاط نظام صدام حسين ، يمكن أن تقود إلى تفسير يبدو منطقيا لما شهده العراق بعد التاسع من إبريل عام 2003 وحتى الآن. فقد أوضحت التصريحات المعلنة فى حينها ، أو تلك التى تناولتها مذكرات زعماء ومسئولى تلك الفترة الهامة من تاريخ المنطقة والعالم ، الغايات التي من أجلها احتلت الولاياتالمتحدة العراق وأزاحت نظام صدام حسين ، معلنة ذلك فى مشهد هوليودى لعملية إسقاط تمثال ساحة الفردوس التى تتوسط العاصمة بغداد صبيحة يوم التاسع من إبرايل عام 2003 . ويمكن تقسيم تلك الأهداف إلى قسمين أحدهما معلن ، والثانى غير معلن كشفته ممارسات قوات الإحتلال التى قادت إلى تفكيك الدولة العراقية ، وإعادة رسم سيناريوهات المستقبل التى أدت تدمير البلاد والعباد على كافة المستويات . فبعد يومين من إنهيار نظام صدام حسين وإختفاء الجيش العراقى بالكامل ، وإقتصار مقاومة الإحتلال على جيوب هنا وهناك ، تقاتل بلا تنظيم أو تسليح مقبول ، أعلن الرئيس الأمريكي حينها جورج بوش الابن، في رسالة مسجلة للشعب العراقي عقب لقائه شريكه الأساسى رئيس الوزراء البريطاني توني بلير أن " عهدا طويلا من الخوف والقسوة قد إنتهى ، وأن مصيرمن قاد هذا العهد أصبح الآن بين أيدي العراقيين أنفسهم . وقال بوش " انتم تستحقون ما هو أفضل من الطغيان والفساد وغرف التعذيب ، تستحقون أن تعيشوا كشعب حر، أُؤكد لكل مواطن عراقي بأن بلدكم سيكون حراً قريباً " . فيما أعلن بلير في الرسالة المشتركة " أن العراق الجديد لن تحكمه بريطانيا ولا الولاياتالمتحدة بل الشعب العراقي، قواتنا قوات صديقة للشعب العراقي، قوات تحريروليست قوات غزو". وتوالت تلك الإعلانات الوردية عن المستقبل الباهر للشعب العراقى بعد إزاحة صدام حسين ، حتى بدا للعراقيين أنهم مقبلون على زمن " لن تتميز فيه واشنطن ونيويورك عن بغداد إلا بتمثال الحرية وقبة مبنى الكابيتول". إلا أن الأهداف غير المعلنة لعملية " الصدمة والرعب " التى أطاحت بنظام صدام حسين ، والتى شملت كافة الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الدينية ، جعلت الصدمة من نصيب العالم والرعب من نصيب الشعب العر اقى . فبعد ستة أسابيع من إندلاع الحرب على العراق ، اعلن الرئيس الاميركي جورج بوش من على ظهر حاملة الطائرات ابراهام لنكولن قبالة ساحل كاليفورنيا ، انتهاء العمليات الحربية الرئيسية ، لكنه لم يعلن رسميا انتهاء الحرب . وخلف بوش إحتلت لافتة كبيرة المشهد وراءه كتب عليها " المهمة انجزت بنجاح " ، وذلك بعد شيوع حالات النهب والقتل شبه المنظمة التى أطلق عليها العراقيون " الحواسم" ، والتى كانت بمثابة إعلان عن بدء إنهيار المنظومة القيمية للعراق ، وبدء عهد من الإنفلات أدى إلى تغيير الخارطة الإجتماعية والإقتصادية فى بلاد الرافدين . وبدا المشهد العراقى المنفلت كمقدمة طبيعية لعهد يقوده أمراء الحروب ويحكمه قادة الميليشيات ، ضمن نظام عبثى عماده الفوضى المنظمة والمحاصصة الطائفية والتقسيم العرقى والمناطقى ، أعاد إلى الأذهان عصور الإنحطاط التى مرت بها عاصمة الرشيد وحاضرة الخلافة الإسلامية . وفيما مضى العراقيون يتجرعون كئوس العنف والدمار على مدى السنوات التى أعقبت الإحتلال الأمريكى ، إنطلقت التصريحات والتسريبات واحدة تلو الأخرى لتكشف حقيقة ما جرى ، وتوضح الأهداف غير المعلنة لحملة " الديمقراطية المزعومة " التى بشرت العراقيين بسنوات الرخاء والإستقرار والحرية والديمقراطية . فقد أعرب إيهود أولمرت رئيس الوزراء الإسرائيلى في تصريحات مشتركة مع الرئيس الأمريكى بوش الإبن قبيل بدء لقائهما في البيت الأبيض أوائل ديسمبر من العام 2008، عن امتنان وعرفان الشعب الإسرائيلي إزاء الدور الذي لعبه بوش في تخليص تل أبيب من التهديد الاستراتيجي، الذي كان يشكله العراق في عهد صدام حسين، مؤكدا أن تدمير القوة العراقية كان أحد أهم إنجازات فترة حكم بوش، والتي جعلت الحياة أفضل بالنسبة لإسرائيل . فيما اكد ديرك ادريانسنز عضو اللجنة التنفيذية لمحكمة بروكسل في تقرير أصدره أوائل يناير من العام الماضى 2012 " أن من بين الأهداف الرئيسية لاحتلال العراق، هو تفكيك الدولة العراقية السابقة وتدمير بنيتها التحتية .. مشيرا إلى أن الاحتلال تسبب فى قتل أكثر من مليون و300 ألف مدني عراقي. أما الإعلان الذى كان بمثابة القنبلة فقد ورد فى كتاب أصدره الصحفي الفرنسي جان كلود موريس بعنوان " لو كررت ذلك على مسامعي مرة ثانية فلن أصدقه " ، وأكد فيه أن الفكر الديني لدى بوش الابن هو الذي دفعه لإعلان الحرب على العراق؛ من أجل القضاء على "جيش يأجوج ومأجوج " ، حيث كان الرئيس الأمريكي من أشد المؤمنين بهذه المعتقدات الدينية، وكان مهووسا منذ الصغر بالغيبيات وقراءة الكتب اللاهوتية القديمة". وأعتبر موريس " أن الأسباب والدوافع الحقيقية لغزو العراق لا يتصورها العقل، وخارج حدود كل التوقعات السياسية والمنطقية " ، وهذه الحقائق أكدها الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك في حديث مسجّل له مع مؤلّف الكتاب . وقال شيراك "تلقّيت من الرئيس بوش مكالمة هاتفية في مطلع عام 2003، فوجئت فيها يطلب مني الموافقة على ضم الجيش الفرنسي للقوات المتحالفة ضد العراق، مبرّراً ذلك بتدمير آخر أوكار "يأجوج ومأجوج"، مدّعياً إنهما مختبئان الآن في الشرق الأوسط، قرب مدينة بابل القديمة، وأصرّ على الاشتراك معه في حملته الحربية التي وصفها بالحملة الإيمانية المباركة، ومؤازرته في تنفيذ هذا الواجب الإلهي المقدس، الذي أكّدت عليه نبوءات التوراة والإنجيل " . وكان بوش قد أكد هذا الأمر ، حينما بدأ حربه ضد العراق مدعياً " أن الرب أمره بضرب العراق" ، واصفا حربه بأنها " حرب صليبية جديدة " . وبعد عشر سنوات من إزاحة صدام حسين مازال المشهد العراقى محكوما بسيناريوهات تم رسمها والتخطيط لها داخل غرف مظلمة ، وتم تغليف الصورة بتصريحات إنتقائية تبشر بعهود الديمقراطية التى مازالت حبيسة نفق المؤامرات غير المعلنة . ولعل " عودة العراقيين على بدء " خلال الفترة الأخيرة وإعلاء نبرة الطائفية مع إرتفاع معدلات العنف ، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الخطط المعلنة لنشر " ديمقراطية الإحتلال " لم يتحقق منها شيىء مما كان يأمله المواطن العراقي البسيط . ويرى مراقبون أن ما شهده العراق خلال الفترة الأخيرة ينذر باقتتال طائفي قد يحرق الأخضر واليابس ، لاسيما مع الدعوات التي تؤجج الشارع العراقي من منطلقات " مظلومية الطائفة " وتهميش أبنائها . ويؤكد شبح التقسيم والحرب الأهلية حتمية تغيير الواجهات السياسية أو تعديل خطابها ، ومحاولة علاج الخلل الذى أنتجته سنوات " النهج الديمقراطى المزعوم " ، وهذا لن يتم إلا بإطلاق نمط جديد من العمل السياسى عماده التهدئة والوفاق وإعادة البناء ، بعيدا عن أوهام الديمقراطية الحبيسة داخل النفق المظلم وليس صب الزيت على النار.