في خطوة أولى لوقف العمل المسلح، واستكمال مسار التسوية الذي بدأه بنفسه مع الحكومة التركية منذ أكتوبر الماضي بهدف واضح هو إرساء الديمقراطية في كل تركيا، بما يتضمن حل المشكلة الكردية المستعصية.. وجه زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان من قلب سجنه الذي يمكث فيه منذ 14 عاما بجزيرة ايمرالي ببحر مرمرة التركي أمس الخميس كلمة تاريخية إلى أكراد تركيا، ألقاها نيابة عنه أمام مئات الآلاف من أكراد تركيا في مدينة ديار بكر النائب عن حزب السلام والديمقراطية الكردي سرى ثريا أوندر. ودعا أوجلان المتمردين الأكراد إلى إلقاء السلاح والانسحاب من الأراضي التركية، قائلا "حان الوقت للشعب الذى يشتعل فى قلبه وهج النوروز تغليب المسار السياسي.. الوقت ليس وقت الخلافات بل وقت الأخوة والتعاضد". وتعد هذه الكلمات نداء من هذا الزعيم الكردي الكبير إلى حزب العمال الكردستاني وسائر الفصائل الكردية يدعوهم فيه إلى ضرورة حل قضية حمل السلاح بسرعة لوقف نزيف الدم الذى يجرى في تركيا منذ ثلاثة عقود. وقد توافق هذا الخطاب التاريخي مع احتفال الأكراد بالعيد القومي الخاص بهم والمعروف باسم "عيد النورز"، مما يطرح تساؤلات مفادها "هل يتحول يوم العيد الكردي هذا العام إلى يوم فاصل في تاريخ تركيا وأكرادها؟، وهل سوف تحل الذكرى القادمة لهذا العيد وتكون عملية السلام التي انطلقت من إيمرالى بين حكومة حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان وبين حزب العمال الكردستاني قد أصبحت أمرا واقعا؟". مما لا شك فيه يعد هذا اليوم فاصلا في تاريخ العلاقة بين الأتراك والأكراد في تركيا، إذ لم يحدث وأن وصلت الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني منذ لجوئه للعمل المسلح في عام 1984 إلى هذه المرحلة المتقدمة من مفاوضات السلام واتخاذ إجراءات فعلية لبناء ثقة بين الطرفين يقود لاستكمال هذه العملية التي توقع أوجلان أن تنتهى إلى اتقاق ينهى النزاع التاريخي بين أكراد تركيا والدولة التركية. وتتمثل هذه الإجراءات فى توصل الطرفين إلى مسودة خطة مبدئية يبدأ بمقتضاها الأكراد هدنة رسمية تبدأ اليوم على أن ينهوا الانسحاب من مناطق تمركزهم المسلح بحلول أغسطس المقبل، مقابل إقرار الحكومة التركية لمجموعة من الإصلاحات والتشريعات التي تقر بحقوق الأقلية الكردية فى تركيا، مع عدم المطالبة بحكم ذاتى للأكراد والحفاظ على وحدة تركيا وفق مصادر إعلامية تركية. وقد صاحب ذلك قيام حزب العمال الكردستانى فى خطوة أحادية بالإفراج عن ثمانية أتراك كانوا محتجزين لديه منذ عامين منذ أسبوع، مقابل وعد من الحكومة بالإفراج عن مئات الأكراد المحتجزين فى السجون التركية، وسبق ذلك سماح الحكومة التركية مؤخرا لوفد برلمانى من أعضاء حزب (السلام والديمقراطية) بزيارة عبدالله أوجلان فى سجنه، وإقرار خطوات إيجابية منها إقرار البرلمان التركى فى 24 يناير الماضى لقانون يسمح للمتهمين الأكراد باستخدام لغتهم فى المحاكم، وتعهد رئيس الوزراء التركى رجب طيب أردوغان بعدم تعقب عناصر الحزب التى سوف تسلم أسلحتها وتخرج من تركيا، فضلا عن تقديم تقرير رسمى للبرلمان التركى يوصى بنزع صفة العدو عن حزب العمال، واعتباره تنظيما إجراميا يتم التعامل معه وفق القانون، ما يمهد لإعادة تعريف الحزب من قبل البرلمان التركى. وتعود هذه الإجراءات السابقة إلى قناعة الطرفين التركى والكردى باستحالة حل القضية الكردية فى تركيا عسكريا، وإلى أن طبيعة المتغيرات الإقليمية الآن تجبر الطرف التركى على البحث عن شروط الاستقرار الداخلى وإعادة ترتيب بيته من الداخل وفق قواعد سياسية وديمقراطية.. فى حين يبدو الطرف الكردى أمام فرصة تاريخية فى ظل ثورات الربيع العربى لأن يحقق مكاسب خاصة بالهوية الكردية والحقوق السياسية باستخدام السياسة التى تعد أكثر جدوى من السلاح والتمرد فى الوقت الراهن. وفيما يخص حكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم فى تركيا، فإن ثمة عوامل داخلية محضة تشكل دوافع قوية لوضع القضية الكردية على طريق الحل السلمى بل وإدراجها فى الدستور التركى الجديد الذى يجرى إعداده حاليا. وتتمثل أبرز هذه العوامل فى أن الحزب يسيطر على البرلمان والحكومة ورئاسة الجمهورية، مما سمح لأردوغان بتفادى ضغوط بعض قوى المعارضة التى لا تفضل المسار السياسى للتعامل مع التمرد الكردى، وبدء مفاوضات السلام مع القوى الكردية استكمالا لبعض الإصلاحات القليلة التى أجرتها حكومته أردوغان منذ عام 2009 من خلال انتهاج خطة للانفتاح الديمقراطى كنوع من خريطة الطريق الكردية، مثل السماح بالبث التليفزونى وحق التعلم باللغة الكردية فى المناطق الكردية، والسماح للأحزاب غير المصنفة بأنها إرهابية بدخول البرلمان التركى، وذلك مع الاستمرار فى وضع حزب العمال الكردستانى فى خانة الإرهاب، ورفض الحوار معه أو الاعتراف به ما لم يقم بخطوات عملية لوقف التمرد المسلح. ويدرك حزب (العدالة والتنمية) الذى وضع خطة كاملة كى تكون تركيا أحد الأطراف العالمية الفاعلة بحلول عام 2023 بأن الاستقرار الداخلى شرط لتحقيق الحلم التركى، خاصة وأن التمرد الكردى قد كلف الحكومة التركية حوالى 450 مليار دولار خلال العقود الثلاثة الماضية، فضلا عن مقتل أكثر من 45 ألفا من الطرفين، دون أن يحدث تغير فى المعادلة الكردية المستعصية. وثمة سبب سياسى مباشر يتمثل فى حاجة حزب العدالة والتنمية (يمتلك 325 مقعدا برلمانيا) إلى تأمين موافقة حزب السلام والديمقراطية الكردى (34 نائبا) لتأمين أغلبية 367 نائبا لتمرير مشروع الدستور الجديد الذى سوف يعترض عليه أحزاب المعارضة الأساسية ممثلة فى الحزب القومى والحزب الجمهورى.. ويهدف حزب العدالة والتنمية من خلال ذلك إلى وصول أردوغان لموقع رئاسة الجمهورية حفاظا على زعامة الحزب داخل أروقة الدولة لأنه لن يتمكن من رئاسة الحكومة مجددا بعد انتخابات عام 2014. ولا تبدو الدوافع الإقليمية بعيدة عن أعين حزب العدالة والتنمية، فثمة حراك كردى فى سوريا أدى إلى سيطرة أكراد سوريا على مناطق خاصة بهم، وثمة مخاوف من أن ينعكس هذا الوضع داخل تركيا، لذا أصر الحزب على تحسين علاقته مع أكراد العراق، حيث كان الزعيم الكردى مسعود البارزانى وسيطا فى المفاوضات بين المخابرات التركية وبين عبدالله أوجلان، وبالتالى عملت تركيا على تحييد الورقة الكردية فى دول الجوار إلى جانب تحقيق مكاسب ما لأكراد تركيا، حفاظا على الاستقرار الداخلى وتجنيب توريط تركيا من بعض الأطراف الإقليمية فى نزاع كردى شامل بداخلها وفى سوريا والعراق وإيران. أما فيما يخص حزب العمال الكردستانى فإن هذه الخطوات تتوافق مع سياسة أوجلان الذى دعا مقاتلى منذ عام 2006 إلى استخدام السلاح فقط فى حالة الدفاع عن النفس، ووافق على دخول القوى الكردية فى مفاوضات سابقة للسلام جرت فى أوسلو خلال عام 2009 لأجل إعمال المسار السياسى لحل القضية الكردية فى تركيا. وفى ظل التطورات الإقليمية المختلفة، حيث إقامة حكم ذاتى لأكراد العراق فى شمال العراق، ثم تحقيق أكراد سوريا لبعض المكاسب نتيجة الأحداث فى سوريا، فإن البديل هو إما ثورة كردية فى تركيا التى يمثل الأكراد فيها نسبة 56% من الأكراد بالمنطقة (حوالى 15 مليون كردى) وهو ما قد يقابل بردود فعل عنيفة من الحكومة التركية ورفض من بعض القوى الكردية ذاتها، وإما تحسين شروط التفاوض وإنجاز مصالحة سياسية تفضى إلى تحقيق مكاسب لأكراد تركيا يأتيس فى مقدمتها الاعتراف الرسمى بهويتهم واندماجهم السياسى والوطنى فى تركيا وتحقيق المواطنة الكاملة لهم. ويدرك حزب العمال الكردستانى كذلك طبيعة العلاقات الجيدة التي نسجتها حكومة أردوغان مع أكراد العراق، وأن تنظيمه يوضع على قوائم "التنظيمات الإرهابية" فى تركيا والاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة، وهو ما يصعب معه بالطبع الدخول فى عملية سلام تقود إلى تحسين أوضاع الأكراد فى تركيا؛ ولذا فإن وقف استخدام السلاح هو مقدمة لكل من استكمال التفاوض من جانب وإلغاء اسم الحزب من قوائم التنظيمات الإرهابية من جانب آخر. ويضاف لما سبق أن حزب العمال الكردستانى قد أسقط مع الوقت شعاراته الماركسية المطالبة بالاستقلال التام عن تركيا أو إقامة دولة كردية مستقلة فى المنطقة، لينتقل إلى المطالبة باعتراف الدستور بالهوية الثقافية لأكراد تركيا وبشكل من أشكال الإدارة المحلية الذاتية دون أن يعنى ذلك الفيدرالية أو الحكم الذاتى. على أن كافة هذه الإجراءات السابقة والتى من أبرزها خطاب أوجلان بالأمس لا تعنى أن الطريق ممهد لإقرار سلام شامل بين تركيا وأكرادها، فتلك فقط الأرضية والبداية الحقيقية لإكمال التفاوض الشاق بين الطرفين، لأن ثمة مجموعة من العقبات يجب على الطرفين تجاوزها،وأولها الميراث الطويل من انعدام الثقة بينهما، حيث يؤكد بعض المراقبين الأتراك أن أوجلان ليس ذلك الزعيم الذى يعطى بدون أخذ، كما أن هناك متضررين أكراد من حزبه ومن قوى كردية أخرى تعارض السلام، نظرا لأنهم إما أكثر تشددا فيما يخص مسألة القومية الكردية، أو لأنهم يحققون مصالح مادية نتيجة تجارة السلاح والمخدرات فى مناطق تمركزهم، علاوة على رؤية البعض الثالث أن الحكومة التركية لا تزال تفضل الحل الأمنى فقط وهى لم تقم خطوات تطمينية كبيرة تجاه المسلحين الأكراد. وبالمثل فحكومة أردوغان لا تثق فى إمكانية التزام القادة الآخرين لحزب العمال الكردستانى بوقف القتال وإلقاء السلاح والانسحاب إلى المناطق الكردية الجبلية بالعراق، ولذا لم تقف بإصدار عفو عن المسلحين المعتقلين حتى الآن. الأمر الآخر هو أن الاتفاق المبدئى لا يبدو واضحا لجانب سلسلة الخطوات التالية والمسار الذى يقود لاتفاق سلام شامل، فالحكومة التركية تربط ذلك بإلقاء السلاح وإكمال الانسحاب بنهاية العام الجارى، فيما يرى الأكراد أن ذلك يتوقف على ما سوف يمنحه الدستور الجديد من حقوق للاكراد وتشريع قوانين تكفل حقوقهم ومطالبهم وهويتهم وإدارتهم المحلية الذاتية. إن هذا الاختلاف يعنى أن ثمة فجوة بين رؤية أنقرة التى تركز أولا على الحل الأمنى، أى إنجاز تسليم الأسلحة وعدم ارتكاب عمليات عنف جديدة والخروج من تركيا مقابل إصدار عفو عام عن كوادر الحزب وإقرار قانون للادارة المحلية يشمل كل أنحاء تركيا، فيما ترتكز الرؤية الكردية أولا على الحل السياسى الذى يضمن الاعتراف بالهوية الكردية ومنحهم حكما محليا ذاتيا فى جنوب شرق تركيا وإصدار عفو عام عن عناصر وقيادات الحزب فى الداخل والخارج.