سنوات طويلة وملايين المصريين والعرب لا يعرفون عن شادية حتى مفاجأة اعتزالها أكثر من أنها واحدة من أكبر المطربات وأحلاهن صوتا..! وأنها دلوعة الشاشة والميكروفون.. وصاحبة الضجة المستمرة في أخبار الزواج والمعجبين.. ولكن شادية الحقيقية لم يعرفها غير قليلين! شادية الحقيقية كانت تصوم وتحفظ القرآن وتصلي وهي طفلة صغيرة.. بل وكانت تحلم بأن تتزوج طبيبا أو ضابطا وتتفرغ لخدمته وتعيش لأطفالها منه.. لكنها حينما قفزت بسرعة الصاروخ إلى الصفوف الأولي من النجومية رشح لها أبوها عريسا رفضته شادية بإصرار.. بل هددت بالانتحار إذا أجبرت على الزواج منه.. فالشابة الحسناء الصغيرة أحبت ضابطا من الصعيد.. وقررت أن تعتزل الفن من أجل عينيه.. ووضعت دبلته في يدها وهي تطير بلا أجنحة من فرط سعادتها بأول دقة حب لأول رجل يمثل في حياتها الحب الحقيقي الحكاية سوف ترويها شادية بنفسها فليس أصدق من يروي عن إنسان إلا نفسه.. لكن قبل أن نترك شادية تحكي مأساة الحب الحقيقي تعالوا نتعرف عن قرب أكثر على هذه الإنسانة التي كانت تقول عن نفسها للصحف أيام الخمسينات أنها تكره الغروب وتحب الدلع.. وفي التسعينيات قالت وهي ترتدي الحجاب أنها لا تحب إلا الليل.. فهو الوقت الوحيد والجميل لمناجاة الله والتجويد في عبادته! من هي شادية وكيف لمع نجمها؟! - هي فاطمة محمد كمال الدين شاكر والدها المهندس كمال شاكر مهندس بوزارة الزراعة.. موالد الحلمية شهر فبراير 1931.. اسم الدلع في طفولتها "فتوش" وأحيانا "فُتنة".. تلقفتها الصحف مع بداية ظهورها ونشرت عنها كل كبيرة وصغيرة تتعلق بحياتها.. قالوا مثلا إن طولها في هذا الوقت 155 سم، ووزنها 50 كيلوجراما ومحيط الخصر 88 سم والشعر لونه أسود كستنائي والعينين لونهما عسلي.. أول سيارة امتلكتها سكودا موديل 1950.. وأول فيلم مثلته "العقل في أجازة"! نشروا الكثير عن أمها التي تنتسب لجذور تركية.. وعن والدها المحب للغناء.. وعن هوايتها منذ طفولتها وأهمها تقليد ليلي مراد، وقزقزة اللب!.. تحدثوا عن شقتها القديمة في شارع السلطان بعابدين.. والشقة التي انتقلت إليها في 21 شارع كمبوني بالزمالك!.. وعن دراستها فقد تلقت تعليمها الابتدائي بمدرسة شبرا للبنات حتى السنة الرابعة.. وعن ترتيبها بين إخوتها قالت شادية في حواراتها الصحفية إنها كانت الرابعة في الرتيب بعد عفاف وسعاد ومحمد.. بينما كان آخر العنقود شقيقها طاهر الذي كان أول مستمع لها! وتحكى شادية الآن قصة أول حب حقيقي في حياتها وقصة أول قرار بالاعتزال.. تقول: الحب الحقيقي أو أول قصة حب في حياتي حدثت عندما كان عمري 17 عاما.. فقد حدث أن دعيت ذات مرة للغناء في حفل زواج أحد الجيران.. وكان من الصعب أن أعتذر فعلاقتنا بهؤلاء الجيران كانت تسمح لهم بأن يطلبوا مني الغناء في مناسبة سعيدة مثل حفل الزواج ووقفت لأغني.. ووقعت عيني على شاب أسمر وسيم.. وأحسست أن نظرته قد اخترقت قلبي. وبعد انتهاء حفل الزواج فوجئت به يتقدم نحوي ويهنئني ويمتدحني وعبر عن إعجابه بصوتي بكلمات رقيقة قليلة.. لم نتكلم كثيرا وافترقنا بسرعة.. ولم أنم تلك الليلة.. فصورة ذلك الشاب الأسمر لم تفارق عقلي أبدا.. إنني لا أعرف عنه شيئا بل ولا أعرف حتى اسمه.. من هو؟ وأين يعمل؟ وأين يقيم؟ وهل يبادلني هذا الإعجاب؟ أم أنه فقط إعجاب بصوتي.. وهل سأراه مرة أخرى.. وكيف؟ وبقيت أياما حائرة.. حتي جاءني أول خطاب منه.. وعرفت من خطابه أنه طالب بالسنة الأخيرة بالكلية الحربية. وأن هذا الخطاب قادم من الصعيد حيث يعيش هناك مع أسرته. وكان خطابا رائعا مليئا بالمشاعر الرقيقة.. وشعرت بالراحة والسعادة لأنه يبادلني نفس المشاعر.. وجاء إلى القاهرة مرة أخرى والتقيت به وسلمته كل خطاباته التي كانت تصلني بعد ذلك على صندوق بريد إحدي صديقاتي. ورأيت القلق على وجهه عندما مددت يدي لأسلمه كل الخطابات التي أرسلها لي.. لكني قلت له إن هذا إجراء وقائي يحميني.. فأنا أخشي أن يكتشف أهلي أمر ومكان هذه الخطابات العاطفية.. لأن إخفاء هذه الخطابات يعتبر مشكلة كبيرة بالنسبة لي.. وفهم ما أقصده ولم يغضب.. وقال لي إنه لا يريد أن يكون سببا في مضايقتي.. فهدفه الوحيد هو إسعادي.. كانت مشاعري نحوه قوية وعنيفة جدا لدرجة أني كنت أخشي أن يعرف أهلي كل شيء من عيني الحائرتين وتصرفاتي المرتبكة وشرودي الدائم وصمتي الطويل. وفوجئت بخطاب جديد منه.. لكنه ليس لي أنا بل لوالدي.. ماذا يقول في هذا الخطاب.. هل سيفشي قصة حبنا.. وماذا سيكون موقفي أمام والدي الذي أحبه وأحترمه وأطيعه دائما؟ تستطرد شادية قائلة في مذكراتها التي كشفت عنها الستار لأول مرة: إنه ليس إنسانا طائشا بل هو إنسان عاقل. فلماذا يتسرع بإرسال هذا الخطاب؟ وعرفت أنه يطلب يدي.. يريدني زوجة له.. وكان ذلك أعز خطاب تسلمته في حياتي.. لدرجة أني ظللت أحتفظ به .. إنه يقدم نفسه لوالدي ويقول له كل شيء عن نفسه بصراحة ويطلب تحديد موعد للقاء معه للاتفاق علي كل شيء.. وجاءني أبي وهو يحمل الخطاب.. ولم يكن في حاجة لأن يحاول إقناعي فقد كنت مقتنعة جدا بذلك الشاب (الصعيدي) الأسمر الوسيم الذي كان أول حب حقيقي في حياتي.. وأزداد حبي له وأصبح غراما مشتعلا.. وفي اليوم الذي تخرج فيه من الكلية الحربية وضع دبلة الخطوبة حول إصبعي وقال لي - لا أحب أن تستمري في الغناء.. ولا أريدك أن تظهري مرة أخرى على الشاشة.. فأنت ملكي أنا وحدي.. أريدك شريكة لحياتي.. ولم أعترض.. أنا التي رفضت من قبل رجلين خوفا من أن يبعدني الزواج عن الفن الذي أحبه.. لكني لم أقدر على الاعتراض أمام حبيبي (الصعيدي) الأسمر الوسيم.. هززت رأسي موافقة وأنا مسحورة به وبكلماته رغم أن هذه الكلمات ستحرمني من عملي الفني الذي أعيش من أجله.. ولم أناقشه أبدا في قراره بإبعادي عن الغناء والشاشة.. فقد كنت مستعدة لأن أفعل أي شيء من أجله.. وكل ما يسعده يسعدني وكل ما يرضيه يرضيني.. أريد فقط أن أعيش معه حتى إذا كان ذلك داخل كوخ.. أريد أن أكون دائما إلى جواره حتى لو حرمني ذلك من تحقيق أكبر آمالي الفنية والتي بدأت أقترب منها. مفاجأة غير سارة ! لكن السعادة عمرها قصير جدا.. كأنها حلم رائع لابد أن أفيق وأصحو منه فجأة.. فقد حدث أن استدعي حبيبي فجأة للدفاع عن الوطن والاشتراك في حرب فلسطين عام 1948.. وكان يوما عصيبا قاتما يوم أن جاء ليودعني وهو يرتدي ملابسه العسكرية.. وكأن قلبي كان يشعر بالذي سيحدث.. لا أعرف لماذا أحسست أن هذا هو آخر لقاء بيننا.. وأنني لن أراه بعد الآن.. وحبست الدموع في عيني حتي غاب عني.. وظللت أبكي بكاء مريرا متواصلا.. وصدقت مشاعري.. لقد ذهب ولم يعد أبدا.. استشهد في ميدان القتال.. سقط حبيبي شهيدا واسمي يلف حول إصبعه فوق دبلة الخطوبة. وتحطمت كل أحلامي.. وشعرت بأن قلبي قد تمزق.. وبأنه ينزف دما.. فقدت أي شعور بالحياة وبالناس من حولي.. فبدونه ليس للحياة معني.. لأنه كان حياتي نفسها. وظللت أياما طويلة لا أنام.. وشريط الذكريات يملأ عقلي منذ أول لقاء لنا يوم أن غنيت أمامه في حفل الزواج حتى آخر لقاء يوم أو ودعته وهو ذاهب إلى ميدان القتال. وإذا نمت أري منظرا بشعا.. صورته وهو يقتل بالأسلحة الفاسدة التي كان يحارب بها.. وأصرخ مفزوعة.. ولولا حنان أبي وعطف أمي.. لولا وقوف أهلي إلى جانبي في محنتي.. لكانت حياتي نفسها قد انتهت.. وتحول صدر أمي الحنون إلى بحر من الدموع.. دموعي الحزينة على حبيبي الذي ذهب ولم يعد.. وتنهي شادية هذه الاعترافات قائلة: لقد قتلوا حبيبي.. ذهب ضحية في حرب الخيانة والأسلحة الفاسدة.. وكرهت قصر عابدين وكل الذين أرسلوه إلى هذه الحرب ليموت ضحية تصرفاتهم الفاشلة.. وحتى الآن كلما مررت بحي عابدين وكلما اقتربت من حي عابدين أشعر بانقباض شديد.. وأشعر أن جرح قلبي القديم يؤلمني. ذلك الحب الحقيقي في حياتي.. ومازلت أذكر حبيبي الشهيد.. لو كان قد عاش لكانت حياتي كلها قد تغيرت.. ولكنت أصبحت الآن زوجة سعيدة وأما لأربعة أو خمسة أطفال. وكلما شعرت بالضيق أو الوحدة.. أسرع إلى جهاز التسجيل لأستمع إلى صوته.. على شريط التسجيل الذي كنت قد سجلت عليه حديثا دار بيننا.. أسمعه وأسمع نفسي وأنا أتحدث معه.. فتضيع من نفسي كل مشاعر الضيق والوحدة.. كلما عشت مع الذكريات الغالية.. مع أيام السعادة القليلة في حياتي.