فى طريقى من مطار شارل ديجول إلى العاصمة الفرنسية باريس فى الأسبوع الماضى كان سائق التاكسى المشغول فى مكالمة هاتفية مطوَّلة يفتح الراديو على محطة فرنسية تذيع الأخبار، وفوجئت فى أثناء متابعتى النشرة التى كانت بالفرنسية التى لا أتقنها ذكر اسم قناة «الجزيرة» أكثر من مرة، فقلت لسائق التاكسى ماذا يقولون فى نشرة الأخبار عن قناة «الجزيرة»؟ ترك محادثته الهاتفية للحظة ثم قال لى: آسف يا سيدى لقد كنت مشغولا فى مكالمتى الهاتفية ولم أستطع التقاط الخبر، وصلت بعدها بقليل إلى مكتب قناة «الجزيرة» فى برج ممبرناس وسط العاصمة باريس وسألت زملائى فى المكتب عن الأمر، فقالوا: لقد أصبحنا الخبر الأول فى كل وسائل الإعلام الفرنسية بعد حادثة الفرنسى من أصل جزائرى محمد مراح، حيث سُرِّب إلينا شريط عن الحادثة أبلغنا السلطات الفرنسية عنه، حسبما تقتضى أصول العمل الإعلامى هنا وقلنا لهم إن قرار بث الشريط من عدمه متروك لإدارة قناة «الجزيرة» فى الدوحة، وقد اتخذت القناة قرارها بعدم بث الشريط لاعتبارات مهنية وأخلاقية، وأعلنت «الجزيرة» عن ذلك، وأذكر أن المدير العام لقناة «الجزيرة» الشيخ أحمد بن جاسم كان قد حدثنى عن الشريط حينما كنت فى الدوحة فى حينه وقرار المحطة بعدم بثه، لكنى فوجئت بأن قصة قناة «الجزيرة» أصبحت الخبر الأول على وسائل الإعلام الفرنسية وعلى رأسها محطات التلفزة لا سيما بعد تدخل الرئيس الفرنسى ساركوزى علانية فى الأمر، حتى إن الزملاء أبلغونى أنه حينما بُثَّ أمر الشريط فوجئنا بأن عشرات من وسائل الإعلام والصحفيين والقوات الخاصة الفرنسية قد طوقت برج ممبرناس أعلى المبانى فى العاصمة الفرنسية باريس، حيث يقع مقر قناة «الجزيرة» غير أن قرار «الجزيرة» بعدم بث الشريط أدى إلى تراجع الهجمة شيئا ما، غير أن قراءتى تطورات أحداث قضية محمد مراح تظهر أن الرئيس الفرنسى ساركوزى قد أجاد استخدام هذه الحادثة بشكل كبير ليجعلها محور حملته الانتخابية فى ظل تردى شعبيته وتصاعد شعبية غريمه الاشتراكى فرانسوا هولاند، فقد أجاد ساركوزى ومخططو حملته الانتخابية استخدام ما قام به محمد مراح ليوظفه بشكل كبير فى زيادة العداء الفرنسى للمسلمين وإظهار أنهم متطرفون، فقام بمنع عدد من الدعاة الإسلاميين المعروفين باعتدالهم وعلى رأسهم الدكتور يوسف القرضاوى من الدخول إلى فرنسا، كما شن حملة اعتقالات فى صفوف إسلاميين فرنسيين من أصول عربية أو إسلامية وجعلهم الخبر الأول على وسائل الإعلام الفرنسية وأعاد الأجواء التى أعقبت أحداث الحادى عشر من سبتمبر مرة أخرى، والمتمثلة فى العداء لكل المسلمين ولكل ما هو إسلامى إلى فرنسا، وجعل قضية الأمن هى المحور الأساسى فى حملته الانتخابية رغم فشله الذريع فى جوانب أخرى كثيرة جعلت شعبيته متدنية خلال الفترة الماضية، وحول الجنرال ساركوزى حملته الانتخابية إلى حرب مصطنعة ضد التطرف الإسلامى حتى يحقق المزيد من النجاحات مما أدى إلى ارتفاع شعبيته الانتخابية، وحول حاجات الفرنسيين الأساسية التى أخفق ساركوزى فيها إلى أن يصبح الأمن والتطرف الإسلامى هو موضوعها الرئيسى ومن ثم فإن محمد مراح أنقذ ساركوزى من هزيمة كانت تنتظره فى الانتخابات الرئاسية وجعل فرص فوزه أعلى، وقد أجاد ساركوزى استخدام هذه الحادثة بشكل بارع وأكد للفرنسيين أنه الوحيد الضامن لأمنهم وليس أيًّا من خصومه السياسيين، وقد أعلن ساركوزى يوم الأربعاء 28 مارس عددا من الإجراءات منها «قمع الذين يطالعون بصورة متكررة مواقع على الإنترنت تمجِّد الإرهاب، أو الذين يقومون بزيارات للخارج يتابعون فيها دروسًا فى العقيدة الجهادية، وهذا يعنى أن كل مسلم فى فرنسا سيكون تحت المراقبة حتى فى استخدام جهاز الكمبيوتر الخاص به كما تعهد ساركوزى بالمزيد فى فترته الرئاسية القادمة». لكن الدعاية المضادة لقناة «الجزيرة» من ناحية أخرى جعلتها بؤرة الاهتمام الأساسى لوسائل الإعلام الفرنسية وزادت شعبيتها وإن كانت بشكل سلبى فى البداية عند الشعب الفرنسى، ورغم هذه الدعاية السلبية فى البداية فإن قرار إدارة «الجزيرة» عدم بث الشريط وإصدار بيان تناولته وسائل الإعلام الفرنسية على نطاق واسع جاء فيه: «طبقا للسلوك الأخلاقى ونظرا إلى حقيقة أن شرائط الفيديو لا تضيف أى معلومات.. فإنها لن تبث محتوياتها»، جعل «الجزيرة» فى مكانة مهنية متميزة وأحبط المخطط الذى كان يُعِدُّ له ساركوزى ومَن حوله حتى وصل الأمر إلى حد التهديد بإغلاق مكتب «الجزيرة» ومنع بثها. سألت أحد الخبراء بالشأن الفرنسى وأنا أجلس معه أطالع إحدى المحطات التليفزيونية الفرنسية وقد حولت نشرة أخبارها إلى جزء رئيسى من حملة العداء التى اصطنعها ساركوزى فقلت له: وإلى متى ستظل هذه الأخبار هى الخبر الأول؟ فقال: لقد جاءت ساركوزى على طبق من ذهب وستبقى الخبر الأول حتى يفوز ساركوزى فى الانتخابات. نقلا عن جريدة التحرير