لا تبق لي شيئا, فلن أسعي وراء بقية مما جمعت, خذ كل شيء قد يذكرني بأنك كنت تعرفني, وأني أعرفك. هذي بقاياك اللعينة كنت تجعلها حبالة صيدك المجنون, حين تريد أن تتملك الدنيا, بما وسعت, وتمتهن السراب! أبشر, فها لم يبق من أحد لديك, وأنت تمتلك اليباب. وتري صفاء العيش في خلوات نفسك حين يرحل عنك من تشقي بصحبتهم, وتخشي أن يكون الوقت مرهونا بقبضتهم, وأنت أسير ما يلغون فيه, بل كدت ترجو أن تظلك غربة عنهم, وينجيك اغتراب. جرب سياحتك البعيدة بين آلاف من الأرواح تحيا بين آلاف من الصفحات والأوراق, تزحم بيتك المخنوق في أكداس ما جمعت من كتب وأشعار وفيض من قراءات, ومن دنيا حكايات وأحلام, تبخر بعضها عبر السنين, وظل معظمها نديا, ساطع الإيحاء, يلهمك الجمال الحق, يسكب فيك ألحان الحياة, يفيض حولك, فائرا, وكأنما انشق الجدار لها, وصفق كل باب! هم أصدقاؤك في لياليك الطوال, ومانحوك بشاشة الدنيا, بما رحبت قصائدهم, وهم من يمسكون بساعديك إذا انطويت, وآخذوك إلي مجاليهم إذا اشتد المحال. ها أنت منجذب إلي شوقي, تري فيه وفي مجنون ليلاه وفي هتفاتها, ليلا, وفي مأساة مصرع كليوباتراه سبائك شعره الماسي, لوعة قلبه المحروق في لهب الفواجع, حسه الملتاع, صوت الشعر مخترقا فضاء سمائه العليا, وربة شعره حملت قياثرها وغنت للأولي سهروا سجا الليل البديع, ولم يزل يجثو فتي روما يناديها ويرجو ودها المفقود, يا روما حنانك واغفري لفتاك, أواه منك وآه ما أقساك, فيجيبه قيس الذبيح مناجيا ليلاه, هلا تستجيب له, تقرب منه فاها, مثلما قد لف منقاريهما غردان, ذاب القلب يا ليلاي ذاب! أم أنت سار بالخيال وراء معجزة البيان, مغبرا من خلفه, وتود تلحقه, وإيماضات حكمته تضيء لك الطريق, وصوته يأتيك من زمن ومن دنيا تفوح بشعره الباقي, يعطر كل ما فيها, وينثر من لآلئه علي قصاد ساحته, ويهتف واثقا: ذو العقل يشقي في النعيم بعقله, وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم, فإذا اقتربت من الحمي, طالعت فيه سمته, وسمعته: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذي, حتي يراق علي جوانبه الدم. هو شاعر العربية الأسمي, وواحدها الذي مضت الدهور وما أتين بمثله, ولقد أتي فعجزن عن نظرائه. هو أحمد وابن الحسين, ومثله يمضي الزمان, وليس يأتي مرتين! وبشعره اختتم الكتاب! مالي أراك وقعت في أسريهما, شوقي وأستاذ له المتنبي! أهما خلاصة كل هذا الشعر عبر قرونه المتطاولة؟ ومنارتاه أشعة وضياء؟ هل يكفيانك أن تؤوب إليهما, فيعود للروح اختلاجتها وللقلب الحبيس صفاؤه الأسني, ومرقاه لمعراجيهما حبا وصبوة عاشق؟ قل لي فأين الشاعر الملاح؟ أين ربيب ذاك الكوخ؟ أين صديقك السياب؟ أين وأين ممن قد عرفت, ومن صحبت, ومن سهرت لأجله, حتي يعود إليك في يده صبابة شعره وبقية مما اعتصرت من الشراب؟ لا تلق بالا للذين تجمعوا في ساحة الموتي وظنوا أنهم أحياء هذا العصر- وحدهمو وقولهمو- إذا قالوا- هو العجب العجاب. من كان مثلك ليس يجذبه نعيق غربان تحوم فوق أكوام الخرائب, ثم تنبشها وتبحث عن طعام من عفن. واربأ بدنيا ملؤها السياب أو شوقي أو المتنبي, أن تهتز يوما للذي زعموا, وأن تشقي بقول ممتهن. واقبض علي الجمر الذي وضعته في كفيك أرواح العباقرة التي تبقي علي طول الزمن. هذي ليالينا تموج بما يرد الروح نشوي بالجمال, عصية في وجه من قبحوا, وساطعة كما سطع الشهاب!. نقلا عن جريدة الأهرام