تتسارع الأحداث في المشهد السوداني على نحوٍ ينذر بمزيد من التعقيد، وسط تصاعد الضغوط الدولية والإقليمية لفرض هدنة إنسانية مؤقتة تُمهِّد الطريق نحو تسوية سياسية شاملة. فبينما تتواصل المعارك على الأرض في دارفور وكردفان، تعقد العواصم الإقليمية والدولية اجتماعات مكثفة لإيقاف النزيف المستمر منذ أكثر من عام ونصف. وفي الوقت الذي تسعى فيه الآلية الرباعية إلى إقناع طرفي الصراع – الجيش والدعم السريع – بقبول وقف إطلاق النار، تعيش مدينة الفاشر أوضاعًا إنسانية مأساوية غير مسبوقة، تزامنًا مع تزايد الأصوات الدولية المطالِبة بمحاسبة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات الجسيمة بحق المدنيين. هذا التقرير يرصد أحدث تطورات الميدان والسياسة والاقتصاد، ويقدّم قراءة تحليلية شاملة للمشهد السوداني الراهن، من مفاوضات الهدنة إلى مواقف الأطراف الداخلية والخارجية، مرورًا بالتحولات الاقتصادية ومؤشرات الضغط الشعبي والدولي، في محاولة للإجابة عن سؤالٍ جوهري: هل اقترب السودان من نهاية حربه، أم أن الطريق إلى السلام لا يزال طويلًا ومليئًا بالعقبات؟
هدنة إنسانية تعيش الساحة السودانية حالة ترقب مشوبة بالحذر بعد تسريبات أكدت موافقة رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقائد المليشيا محمد حمدان دقلو (حميدتي) مبدئيًا على مقترح هدنة إنسانية لمدة ثلاثة أشهر تقدمت به الآلية الرباعية (الولاياتالمتحدةالأمريكية، مصر، السعودية، والإمارات). وبحسب مصادر دبلوماسية، فإن الطرفين طلبا مهلة للتشاور مع الحلفاء الميدانيين والسياسيين قبل التوقيع النهائي، وسط جهود مكثفة يقودها المبعوث الأمريكي بولس الذي أكد أن "المفاوضات وصلت إلى نقاط متقدمة، ولا يوجد ترف لإضاعة الوقت". في المقابل، رفض البرهان لقاء حميدتي في القاهرة كما كانت تتوقع بعض الأوساط، في إشارة إلى استمرار حالة انعدام الثقة بين الطرفين رغم الضغوط الإقليمية والدولية لإنجاح الهدنة.
الفاشر.. مأساة مستمرة رغم الدعوات لوقف النار تواصل مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور تصدر المشهد الإنساني المأساوي في السودان، حيث أكدت مفوضية الأممالمتحدة السامية لحقوق الإنسان أن عمليات القتل والفظائع ما زالت مستمرة، وأن المئات من المدنيين لقوا حتفهم على يد مليشيا الدعم السريع التي تفرض حصارًا خانقًا على المدينة. وأشارت تقارير ميدانية إلى أن الطيران السوداني فرض سيطرته الكاملة على سماء الفاشر في تحول استراتيجي لافت بمسار المعركة، بعد أسابيع من سيطرة المليشيا على أجزاء واسعة من المدينة. وقال الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون في تصريح قوي إن ما يحدث في الفاشر "هو إرهاب ورعب خالص بحق المدنيين، ولا يمكن اعتباره حربًا تقليدية"، داعيًا المجتمع الدولي إلى التحرك الفوري لوقف المجازر وتحقيق العدالة.
انتهاكات مروعة وتضامن دولي متنامٍ وثقت تقارير حقوقية جديدة اغتصاب ثلاث صحافيات واختفاء 13 آخرين في الفاشر على يد عناصر من المليشيا، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني. وفي المقابل، شهدت مدن عالمية عدة تظاهرات حاشدة تضامنًا مع الشعب السوداني، حيث رفع المتظاهرون لافتات تُدين الصمت الدولي وتطالب بمحاسبة الإمارات على دورها في تمويل وتسليح المليشيا، وفق ما أكده الباحث الأمريكي مايكل توماس الذي دعا إلى "فرض عقوبات مباشرة على أبوظبي لوقف جرائمها بالوكالة". كما أعلن مجلس الشيوخ الأمريكي أنه يدرس تصنيف مليشيا الدعم السريع كمنظمة إرهابية أجنبية، في خطوة وُصفت بأنها الأقوى منذ اندلاع الحرب.
تصعيد ميداني في كردفان ودارفور شهدت ولايات كردفان ودارفور تصعيدًا عسكريًا لافتًا خلال الساعات الماضية، حيث شنت قوات الهجانة هجمات مكثفة بالمدفعية الثقيلة على مواقع المليشيا في شمال كردفان، فيما نفذت القوات الجوية ضربات جوية دقيقة أسفرت عن تدمير 47 عربة قتالية في فنقوقة المدرسة وست عربات أخرى في حفير الطينة. وأكدت مصادر عسكرية مقتل هاشم ديدان، قائد المجموعة 411 المليشية بضربة جوية في بلقاوة، وإصابة القيادي برشم إصابة بالغة في معارك الغبشة. كما كشفت تقارير استخباراتية عن تحرك وحدات متمردة تلقت تدريبًا في ليبيا تضم مرتزقة من جنسيات مختلفة، تمهيدًا لمحاولة التسلل إلى كردفان والشمالية عبر الحدود التشادية، في ما وصفه خبير عسكري بأنه "خطة مريبة لإطالة أمد الفوضى".
مواقف داخلية متباينة.. وإقالات دبلوماسية مثيرة في خطوة مفاجئة، أصدر رئيس الوزراء الدكتور كامل إدريس قرارًا بإعفاء السفير حسين الأمين وكيل وزارة الخارجية، بعد حادثة أثارت الجدل بطرده مسؤولي برنامج الغذاء العالمي الذين احتفلوا بسقوط الفاشر. الوزارة من جانبها نفت وجود أي أزمة داخلية، مؤكدة أن الإعفاء تم وفق إجراءات إدارية روتينية لا علاقة لها بالحادثة. وفي المقابل، اتهمت الحكومة الإمارات ب "قتل الشعب السوداني عبر دعمها للمليشيا"، بينما صرّح وزير الإعلام الأعيسر بأن الحكومة "مستعدة لإنهاء الحرب بما يحافظ على سيادة الدولة ووحدة ترابها".
الاقتصاد.. الذهب تحت المجهر اقتصاديًا، أعلنت شعبة مصدري الذهب تأييدها لقرار احتكار بنك السودان لصادرات الذهب لضمان زيادة العائدات، مشيرة إلى أن الإنتاج السنوي يبلغ نحو 53 طنًا بقيمة تقدر بستة مليارات دولار، بينما لا تتجاوز العائدات الحالية مليار دولار فقط، وهو ما يكشف حجم الفاقد الاقتصادي الناتج عن التهريب والفساد.
صوت العالم يتصاعد.. والسودانيون يطالبون بالعدالة من باريس إلى واشنطن مرورًا بفيينا، تتزايد الوقفات الاحتجاجية للجاليات السودانية في الخارج، للمطالبة بتحرك دولي عاجل لوقف جرائم الحرب ومحاسبة المتورطين. وفي جنيف، قدم الوفد السوداني تنويرًا شاملًا أمام مفوضية حقوق الإنسان ومنظمات دولية حول فظائع المليشيا في الفاشر وبارا، عارضًا صورًا التُقطت عبر الأقمار الصناعية توثق المجازر، وهو ما أكده الاتحاد الأوروبي الذي قال إن "جرائم الدعم يمكن مشاهدتها من الفضاء". في النهاية تبدو الأزمة السودانية أمام مفترق طرق تاريخي؛ فإما أن تنجح الجهود الدولية في فرض هدنة تفتح باب الحل السياسي، أو تتجه البلاد إلى مزيد من التصعيد والانهيار الإنساني. وبين الحرب والدبلوماسية، يبقى الشعب السوداني هو الخاسر الأكبر، منتظرًا عدالة تُعيد له حقه وكرامته، وسلامًا يعيد للوطن نبضه المفقود.