خبأت تحية كاريوكا صلاح حافظ من البوليس السياسى فى مخزن بيتها فعرض عليها الزواج فضائح الطبقة الأرستقراطية فى النوادى الراقية عجلت بقيام ثورة يوليو دراما أشهر محرر مجتمع من اللعب بالفلوس إلى طرد الشياطين بالمنشة وإزالة العنكبوت لمنع العوكوسات الدنيا بغير حب أكوام من حجارة.. من لا يعيش الحب لا يستوعب الحضارة.. العشق هو حياتنا البريئة والحميمة.. والدولة التى تعتبره جريمة دولة قبيحة مسيئة. وعندما نقع على جذور رقابنا من الدور العاشر ونحب نرى الأشياء بعواطفنا ونحكم عليها بمشاعرنا.. ساعتها تترفع عيوننا عن رؤية العيوب.. البدينة تصبح رشيقة.. البلهاء نجدها مثيرة. يسألونك عن الحب.. قل الحب مثل الروح من عندى ربي.. الحب هو السر الخفى فى كيمياء البشر الذى احتفظت به السماء بعيدا عنا حماية لنا. طوال ثلاثين سنة عشتها فى «روزاليوسف» لم أجد فى مبناها الكئيب قبحا.. إنه الحب.. تفسير ما لا يفسر.. وتبرير ما لا يبرر. شيد المبنى من ثمانية طوابق بطريقة هندسية غير مناسبة لوظيفته المهندس المعمارى الدكتور سيد كريم.. حجرات متتالية متلاصقة تقع على طرقات مربعة وسطها منور كبير أكل مساحة من الأرض الثمينة فى شارع قصر العينى.. مبنى لا فيه عمارة أخبار اليوم ولا رخام الأهرام ولا سكون دار الهلال.. لكنه أصبح جزءاً من لحمى وتاريخى. انتقلت «روزاليوسف» إلى ذلك المبنى بعد أن اختنقت داخل مقرها القديم المتهالك الذى شهد مولدها فى شارع محمد سعيد بالقرب من ميدان التحرير.. بدأت فى مكان متواضع مثل أخبار اليوم التى حررت عددها الأول من شقة فى عمارة وسط القاهرة. دخلت مبنى «روزاليوسف» فى وقت كان الإهمال يسيطر عليه.. مكاتب من الصاج الرخيص.. أرضيات من بلاط بارد كالح.. حمامات مهملة لا تطاق.. جدران جيرية تغطيها الأتربة وشبكات العنكبوت جعلت جلال فيهم يمسك بمنفضة طويلة الذراع ليزيلها بعد أن آمن بأنها السبب فى كل ما تعانى منه المؤسسة من خراب وضعف فى الرواتب وانهيار فى التوزيع وسيطرة أمنية على ما ينشر. وجلال فهيم كان أشطر محرر باب المجتمع أين يذهب الناس؟ وهو باب كان يصيغ أخباره بأسلوبه الجذاب والتحريضى صلاح حافظ قبل ثورة يوليو.. كشف فيه تناقضات الحياة فى مصر.. وكان أحد أسباب تعاطف المصريين مع الثورة باعتراف جمال عبد الناصر نفسه. والمفاجأة أن مصدر هذه الأخبار كان إسماعيل سرى ابن شقيق حسين سرى باشا الذى كان دائم الغضب لأن صلاح حافظ لا يلتزم بالتعليمات التى يكتبها على هامش أخباره التى كان يقصد بها التحكم فى مجتمع الذوات بينما صلاح حافظ يهدف إلى إزالته. وجاء جلال فهيم وكان بارعا فى التقاط أخبار وأسرار الشخصيات المؤثرة فى المجتمع لسبب بسيط أنه كان يعيش مجتمعات السهر بكل ما فيها من حب وخيانة وغدر وانتقام وقمار وصفقات.. فى يوم تجد معه ألف جنيه وفى يوم آخر يطلب منك شراء سندويتش فول.. وفجأة اعتزل تلك الحياة المثيرة والمضطربة معا وأعلن توبته عن كل ما يغضب الله وراح يبعد الشيطان بمنشة فى يده بجانب إصراره على إزالة خيوط العنكبوت التى يرى أنها المسئولة عن كل ما تعانى منه «روزاليوسف» من متاعب. لكن عشق «روزاليوسف» كان للمعنى لا للمبنى.. لجرأة الساكن لا لقيمة المسكون.. لبريق الشخصيات لا لبرودة الطرقات.. فمهما بدت تلك المجلة شاحبة ناحلة متعبة فإنها قادرة على الحياة من جديد بمجرد أن تخرجها إلى شمس الحرية. على أنها فى أوقات كثيرة وطويلة تنكمش على نفسها مثل طاووس يطوى جناحيه ويسقط ريشه ويشرب دموعه ويجتر أحزانه.. إنها الأوقات التى تخنقها فيه السلطة وتجبرها على معاشرة رجال غرباء عنها يغتصبونها ولا يفهمون سرها ومن ثم فإنها إما فى السماء أو فى الأرض.. إما فى القمة أو فى القاع.. لا وسط.. فليس هناك نصف عبودية أو نصف موهبة أو نصف جرأة أو نصف حرية. لكن للأسف كانت أوقات تألق «روزاليوسف» استثنائية إذا ما قيست بسنوات الركود والتجمد والفشل وانتشار خيوط العنكبوت على جدرانها مستفزة جلال فهيم. تألقت «روزاليوسف» أيام محمد التابعى وإحسان عبد القدوس وصلاح حافظ وأنا وأقولها مجبرا بحكم ما حدث بشهود لا يزالون على قيد الحياة. عشت بنفسى تجربة صلاح حافظ وشاركت فيها وتعلمت منها ما جعلنى أكرر نجاحها ولكن بأسلوب مختلف فكل وقت وله آذان. كان السادات بعد حرب أكتوبر يفكر فى إعادة الأحزاب السياسية التى ألغيت فى 15 مايو 1953 فوجد أن الخطوة الأولى رفع الرقابة المباشرة على الصحف واختار الأهرام لتعبر عن الوسط الحاكم و«روزاليوسف» لتعبر عن اليسار وأخبار اليوم لتعبر عن اليمين وفى تلك الأثناء تولى صلاح حافظ رئاسة التحرير مسئولا عن الشئون السياسية وتولى فتحى غانم رئاسة التحرير مسئولا عن الفن والثقافة والمجتمع وكان عبد الرحمن الشرقاوى قد سبقهما إلى المؤسسة رئيسا لمجلس إدارتها بعد أن وصف انقلاب السادات على رجال عبد الناصر فى 15 مايو 1971 بثورة التصحيح. لم تزد تلك التجربة عن عامين وسبعة شهور (من يونيو 1974 إلى فبراير 1977) ولكن رغم النجاح المذهل الذى حققته توزيعا وتأثيرًا فإنها أجهضت عند أول خلاف سياسى بينها وبين السادات. فى 18 و19 يناير انفجرت تظاهرات الطعام بعد أن فاجأت الحكومة الشعب برفع الدعم عن أسعار السلع الغذائية الرئيسية ووصف السادات تلك التظاهرات التى قتل فيها 80 شخصا وجرح 800 غيرهم بانتفاضة الحرامية ولكن «روزاليوسف» اعتبرتها انتفاضة شعبية بل أكثر من ذلك اعتقل بعضا من كتابها ضمن القائمة التى ضمت ألف يسارى منهم يوسف صبرى الذى تولى رئاسة التحرير فى الشهور الأولى لقدوم الشرقاوى. وأذكر أن صلاح حافظ جلس إلى الشرقاوى فى مكتبه بحضور فتحى غانم ولويس جريس (العضو المنتدب) وعدلى فهيم (المدير الفني) وكنت هناك بصفتى سكرتيرا للتحرير وقرأ صلاح حافظ التقرير الصحفى الذى سينشر تغطية للأحداث بجرأة تخالف التيار السائد سياسيا وصحفيا وما أن انتهى حتى طلب عدد من المحررين وضع أسمائهم عليه كنت من بينهم مشاركة منا فى تحمل المسئولية السياسية بصورة جماعية. وسألنى الشرقاوي: بصفتك دارسا للاقتصاد والعلوم السياسية كيف ترى تلك التظاهرات؟. وكان ردي: إنها تظاهرات فاجأت السادات وصدمته وربما هزت ثقته فى نفسه وفى حكمه ولابد أنه سيفكر فى مناورة كبرى يلتهم بها الآثار السلبية التى حدثت. وفى خريف العام نفسه وتحديدا فى 19 نوفمبر 1977 تحدى السادات قدره وقام بزيارته الانقلابية إلى إسرائيل. وكما توقعنا غضب السادات مما نشرته «روزاليوسف» وقرر إبعاد الشرقاوى إلى الأهرام كاتبا متفرغا وقال له: الشيوعيون ضحكوا عليك يا عبد الرحمن. واستدعى مرسى الشافعى مدير تحرير المصور وفتح السادات ملفا ضخما أمامه وراح يقرأ منه ما ليس فى صالح الشافعى وما ان انتهى حتى سأله: أعمل فيك إيه يا مرسى؟ ولم يرد مرسى الذى تصور أن مصيراً مظلما ينتظره لكن السادات فاجأه قائلا: عينتك رئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير «روزاليوسف» وستأخذ معك عبد العزيز خميس مديرا للتحرير أنت عارف إنه كان متهماً معى فى قضية اغتيال أمين عثمان تعاون معه بصدق وخلصونا من الشيوعيين. ولكن للإنصاف ظل السادات يحب ويحترم ويقدر موهبة صلاح حافظ وكان يتمنى أن يسايره فى تعبير انتفاضة الحرامية ولكن صلاح حافظ أصر على أنها انتفاضة شعبية ما جعل السادات يقول له فى اجتماع حضره كبار الصحفيين: لسه الدجمة دى فى دماغك يا صلاح أنا كنت سأعيدك إلى رئاسة التحرير لكن أنت حر. جملة من كلمتين تجعل صحفياً رئيسا للتحرير لو نطق بها وتطرده من الجنة لو رفضها لكن رجلاً مثل صلاح حافظ انحاز إلى ضميره السياسى معطيا ظهره للمنصب. والحقيقة أن «روزاليوسف» بعد تجربته ظلت فى حالة هزال مهنى نحو 15 سنة وعبر السادات عما جرى لها قائلا: استرحت من صداعها ولم أعد أقرأها. كما أنه ذات مرة قال لمجموعة من رؤساء التحرير من بينهم بعض رجاله فى «روزاليوسف» إنهم لا يساوون فى ذمته ربع جنيه فخرجوا يقبلون بعضهم البعض لأنه أبقى عليهم فى مناصبهم. بعد وفاة مرسى الشافعى سيطر عبد العزيز خميس على التحرير والإدارة وجاء بعده محمود التهامى الذى بدأت تجربتى الصحفية معه فى فبراير 1992 مستلهما ما اكتسبت وما تعلمت وما استوعبت من صلاح حافظ. وصلاح حافظ ولد فى 27 أكتوبر 1925 فى مدينة الفيوم قبل يوم واحد من صدور العدد الأول من «روزاليوسف» وأصر والده على أن يدرس الطب واستجاب إليه لكنه لم يحرم نفسه من كتابة القصة وراح ينشر ما أبدع فى صحف ومجلات مثل الكتلة والنداء وصوت الأمة وكلفه ياسين سراج الدين بإصدار مجلة القصة ونشر فيها القصة الأولى للدكتور يوسف إدريس الذى كان زميلا له فى كلية الطب هو والدكتور مصطفى محمود. ولكن صلاح حافظ لم يكتف بالقصص القصيرة وإنما راح يكتب فى الصحف اليسارية التى كان يراها معبرة عن أفكاره السياسية مثل الكاتب والملايين. وحسب شهادة رشاد كامل فإن مأمون الشناوى حمل إلى صلاح حافظ عرضا من إحسان عبد القدوس للعمل فى «روزاليوسف» مقابل 15 جنيها شهريا وهو ما اعتبرته فاطمة اليوسف نوعا من الطمع ونشر صلاح حافظ بابه الشهير «انتصار الحياة» الذى استخدم دراسته الطبية فى تشخيص حالة المجتمع المصرى كما وضع تصورا لمجلة صباح الخير ولكن قبض عليه فى شتاء 1954 قبل التنفيذ. أما السبب فهو أنه تورط فى السياسة منضما إلى تنظيم شيوعى معارض (حدتو) سعى إلى تصحيح مسار ثورة يوليو فلم يكمل دراسة الطب وعاش فترات من حياته مطاردا من البوليس السياسى وذات مرة لم يكن أمامه سوى مخزن أطعمة تحية كاريوكا للاختباء فيه وكانت تحية كاريوكا وثيقة الصلة بواحد من ضباط الجيش اليساريين ولا ينكر صلاح حافظ أنه عرض عليها الزواج فنهرته قائلة: روح العب بعيد يا واد على أنه ظل ممتنا لها حتى أنه سمى ابنته الوحيدة على اسمها أما ابنه شريف فقد ترك له حرية العمل ديلر فى كازينو قمار رغم تخرجه فى كلية الهندسة. وخرج صلاح حافظ من المعتقل بعد تسع سنوات ليرأس تحرير آخر ساعة وقفز بتوزيعها إلى عنان السماء لكن سنوات المعتقل تركت بصماتها عليه إلى حد أن قال لرشاد كامل: فعصونى فأنا البقية الباقية من صلاح حافظ. وسألت نفسي: لو كانت البقية الباقية منه انتجت الكثير الذى قدمه ترى لو كان بكامله ماذا كان سيفعل؟. والحقيقة: إننى لم أصادف شخصا متعدد المواهب مثله.. صوته ينافس صوت عبد الوهاب.. أسلوبه فى الكتابة عجينة صلصال يسهل تشكيلها بين أصابعه.. حاد فى السياسة.. ناعما فى الرواية.. ساخر فى النقد الاجتماعى.. مريح فى سيناريوهات الدراما. ولن تصدق أنه يجيد الطهى بما فى ذلك الأصناف التى تحتاج خبرة خاصة مثل الفتة والملوخية والكوارع. وعندما أبعده السادات مع غيره من الصحفيين عن الكتابة راح يزرع حديقة بيته فى شارع الأهرام بالخضر المنزلية لكن إنتاج كيلو الطماطم كان يكلفه جنيها بينما سعره فى السوق خمسة قروش. وأثبتت تجربته فى «آخر ساعة» و«روزاليوسف» فى رئاسة التحرير أنه واحد من أمهر صناع الصحف فى مصر. لكنه لم يهتم بالثروة والشهرة وإن شغلته النساء أكثر.. ربما تعويضا عن سنوات الحرمان فى المعتقل.. خاصة أنه عندما خرج منه لم يجد بيتا ينام فيه بعد أن وجد زوجته الممثلة هدى زكى فى عصمة رجل آخر بعد أن طلقت منه وهو وراء الأسوار وعاش ضيفا فى بيت مأمون الشناوى وتزوج ابنته التى أحبته ولكنه وجد من الظلم أن تعيش مع رجل لم ير مستقبله بعد فطلقها.. وكان أن سارعت بالهجرة إلى الولاياتالمتحدة وفتحت هناك سلسلة من المحلات جنت من ورائها ثروة طائلة. ولا ينسى تاريخ السينما مشهد فاتن حمامة فى فيلم الخيط الرفيع وهى تمزق ملابس محمود ياسين الذى هجرها بعد أن صنعته مهنيا واجتماعيا وربما لا يعرف أحد أن المشهد الذى كتبه صلاح حافظ عاشه فى الحقيقة. لكن الأهم أن صلاح حافظ ظل وفيا ل«روزاليوسف» لم ينتقل منها مثلما فعل كثير من نجوم الصحافة الذين ولدوا على صفحاتها. يكاد لا يوجد اسم لامع فى الصحافة لم يمر على «روزاليوسف».. محمد التابعى الموظف السابق فى البرلمان الذى تحمل أقلامنا جينات أسلوبه السحر المؤثر والذى خرج من تحت يديه مؤسسى المدارس الصحفية.. مصطفى أمين مدرسة الخبر.. إحسان عبد القدوس مدرسة الرأي.. محمد حسنين هيكل مدرسة السياسة الرسمية. لم يكتب هيكل فى «روزاليوسف» سوى خواطر أدبية وسياسية.. كتب عن عيد ميلاد الملك فاروق مادحا.. وكتب عن زيارته للصعيد ممتنا. ويمكن القول: إن صلاح حافظ جمع بين مدرستى «روزاليوسف» وأخباراليوم فقد أغراه مصطفى أمين بخمسين جنيها فى الشهر ليساهم فى تحرير صحيفته من عددها الأول ورفعت «روزاليوسف» مكافأته إلى عشرين جنيها بطلوع الروح. كانت هناك تسعيرة إجبارية فرضتها فاطمة اليوسف على المحررين: الخبر السياسى بربع جنيه والخبر الاجتماعى بعشرة قروش والتحقيق بثلاثة جنيهات ومقال الرأى بخمسة وسبعين قرشا والكسور تجبر لصالح الست. لم أعش تلك الأيام لكننى عشت أصعب منها فقد عملت فى «روزاليوسف» ثلاث سنوات بلا مقابل باعتبار أننى أتلقى مقابل عملى مجدا لم يكن متاحا فى الحقيقة فالمجلة محدودة التوزيع والتأثير ومنقسمة على نفسها بسبب صراعات التيارات العقائدية بين محرريها وكتابها فإذا ما تولى فصيل منها مسئولية تحريرها حاربته باقى الفصائل وشهرت به حتى يفشل. كانت السياسة حاضرة بمتاعبها والصحافة غائبة بقواعدها وبريقها وفى ظل رقابة مباشرة على ما ينشر وجد غالبية الكتاب أنفسهم فى مأزق فلا هم قادرون على التعبير ولا هم يملكون حق التوجع وكان أن فضلوا الجلوس على المقاهى وفى البارات ينتقدون همسا ما كان يجب أن يكتبوه علنا وسهل ذلك أنهم يقبضون رواتبهم بانتظام بعد أن تحولوا بفعل تأميم الصحافة إلى موظفين شبه حكوميين. على أن ذلك كان فى صالح الأجيال الشابة التى جذبتها بسحرها رغم شحوبها وضعفها صاحبة الجلالة. كيف؟. انتظر الإجابة الصادمة.