«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف بدأت رحلة الإسراء والمعراج؟
نشر في الفجر يوم 12 - 05 - 2016

رحلة الإسراء والمعراج هي أعجب رحلة في التاريخ؛ حيث نَقَل الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بجسده من مكة إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السموات العلا، ثم عاد به إلى بيت المقدس، ثم أخيرًا إلى مكة، كلُّ ذلك في جزء يسير من الليل.
إننا في الواقع أمام حدث مهيب رأينا فيه الآيات تلو الآيات، ولا نكاد نلتقط الأنفاس إلا ونرى معجزة جديدة، فلم يكن الإبهار في معجزة هائلة فقط؛ إنما كان في تكثيف عدد هائل من المعجزات في ليلة واحدة، ولا شكَّ أنها كانت من أكثر الليالي تميُّزًا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثبت للمعاصرين له حقيقة الإسراء إلى بيت المقدس؛ وذلك بما قدَّمه من أدلَّة مادية تُؤَكِّد صدق كلامه، فإن المعراج لا يمكن التصديق به إلا مع كامل الإيمان بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك مع كامل الإيمان بقدرة الجبار ربِّ السموات والأرض؛ ومن ثَمَّ فلم تكن رحلة الإسراء والمعراج اختبارًا لإيمان المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقط؛ وإنما ما زال اختبارها قائمًا إلى يومنا هذا، بل إلى يوم القيامة.
كانت هناك أحداث كثيرة في الرحلة، وبالتالي لم يستوعبها حديث واحد، إنما نقلها الصحابة عن طريق روايات كثيرة تحكي كل واحدة منها طرفًا من القصة، وهذا ما قد يُؤَدِّي إلى بعض الاضطراب في الفهم عند مَنْ لم يُحِطْ علمًا بالروايات الصحيحة الكثيرة المذكورة عن الإسراء والمعراج، وبالتالي يظنُّ التعارض بين الأحاديث، أو يظنُّ تعدُّد الإسراء والمعراج، والحقُّ أن الإسراء والمعراج كان مرَّة واحدة فقط.
الحدث كبير للغاية، وفيه استنباطات كثيرة، وينبغي أن يُفْرَد له كتاب خاص يتناول كل تفصيل صحيح جاء في القصة بالبحث والدراسة، وما أُقَدِّمه في هذه المقالات هو في الواقع مجرَّد إجمال لهذه التفصيلات الكثيرة.
قبل أن يُوحى إلى رسول الله:
بدأت قصة الإسراء والمعراج برؤيا رآها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يُوحى إليه، تمامًا كما حدث في موضوع الوحي، فكما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جبريل في منامه يقول له: اقرأ. إلى تمام القصة ثم حدث ذلك على الحقيقة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قصة عروجه إلى السماء قبل أن تحدث على الحقيقة بعد ذلك بأعوام، وهذا ما رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، يَقُولُ: "لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَسْجِدِ الكَعْبَةِ، أَنَّهُ جَاءَهُ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ، فَقَالَ أَوَّلُهُمْ: أَيُّهُمْ هُوَ؟ فَقَالَ أَوْسَطُهُمْ: هُوَ خَيْرُهُمْ. فَقَالَ آخِرُهُمْ: خُذُوا خَيْرَهُمْ. فَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى، فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ وَتَنَامُ عَيْنُهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُهُ، وَكَذَلِكَ الأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلاَ تَنَامُ قُلُوبُهُمْ، فَلَمْ يُكَلِّمُوهُ حَتَّى احْتَمَلُوهُ، فَوَضَعُوهُ عِنْدَ بِئْرِ زَمْزَمَ، فَتَوَلاَّهُ مِنْهُمْ جِبْرِيلُ فَشَقَّ جِبْرِيلُ مَا بَيْنَ نَحْرِهِ إِلَى لَبَّتِه حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَدْرِهِ وَجَوْفِهِ، فَغَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ بِيَدِهِ، حَتَّى أَنْقَى جَوْفَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ تَوْرٌ مِنْ ذَهَبٍ، مَحْشُوًّا إِيمَانًا وَحِكْمَةً، فَحَشَا بِهِ صَدْرَهُ وَلَغَادِيدَهُ -يَعْنِي عُرُوقَ حَلْقِهِ- ثُمَّ أَطْبَقَهُ ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَضَرَبَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا فَنَادَاهُ أَهْلُ السَّمَاءِ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: جِبْرِيلُ. قَالُوا: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مَعِيَ مُحَمَّدٌ. قَالَ: وَقَدْ بُعِثَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالُوا: فَمَرْحَبًا بِهِ وَأَهْلاً. فَيَسْتَبْشِرُ بِهِ أَهْلُ السَّمَاءِ، لاَ يَعْلَمُ أَهْلُ السَّمَاءِ بِمَا يُرِيدُ اللهُ بِهِ فِي الأَرْضِ حَتَّى يُعْلِمَهُمْ، فَوَجَدَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا آدَمَ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ آدَمُ، وَقَالَ: مَرْحَبًا وَأَهْلاً بِابْنِي، نِعْمَ الاِبْنُ أَنْتَ. فَإِذَا هُوَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِنَهَرَيْنِ يَطَّرِدَانِ، فَقَالَ: مَا هَذَانِ النَّهَرَانِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا النِّيلُ وَالفُرَاتُ عُنْصُرُهُمَا. ثُمَّ مَضَى بِهِ فِي السَّمَاءِ، فَإِذَا هُوَ بِنَهَرٍ آخَرَ عَلَيْهِ قَصْرٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ فَضَرَبَ يَدَهُ فَإِذَا هُوَ مِسْكٌ أَذْفَرُ، قَالَ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟، قَالَ: هَذَا الكَوْثَرُ الَّذِي خَبَأَ لَكَ رَبُّكَ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَقَالَتِ المَلاَئِكَةُ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَتْ لَهُ الأُولَى: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قَالُوا: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. قَالُوا: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالُوا: مَرْحَبًا بِهِ وَأَهْلاً. ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، وَقَالُوا لَهُ مِثْلَ مَا قَالَتِ الأُولَى وَالثَّانِيَةُ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى الرَّابِعَةِ، فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الخَامِسَةِ، فَقَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، كُلُّ سَمَاءٍ فِيهَا أَنْبِيَاءُ قَدْ سَمَّاهُمْ، فَأَوْعَيْتُ مِنْهُمْ إِدْرِيسَ فِي الثَّانِيَةِ، وَهَارُونَ فِي الرَّابِعَةِ، وَآخَرَ فِي الخَامِسَةِ لَمْ أَحْفَظِ اسْمَهُ، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّادِسَةِ، وَمُوسَى فِي السَّابِعَةِ بِتَفْضِيلِ كَلاَمِ اللهِ، فَقَالَ مُوسَى: رَبِّ لَمْ أَظُنَّ أَنْ يُرْفَعَ عَلَيَّ أَحَدٌ. ثُمَّ عَلاَ بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لاَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ اللهُ، حَتَّى جَاءَ سِدْرَةَ المُنْتَهَى، وَدَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ العِزَّةِ، فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى اللهُ فِيمَا أَوْحَى إِلَيْهِ: خَمْسِينَ صَلاَةً عَلَى أُمَّتِكَ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. ثُمَّ هَبَطَ حَتَّى بَلَغَ مُوسَى، فَاحْتَبَسَهُ مُوسَى، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَاذَا عَهِدَ إِلَيْكَ رَبُّكَ؟ قَالَ: عَهِدَ إِلَيَّ خَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ وَعَنْهُمْ. فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى جِبْرِيلَ كَأَنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ: أَنْ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ. فَعَلاَ بِهِ إِلَى الجَبَّارِ، فَقَالَ وَهُوَ مَكَانَهُ: يَا رَبِّ خَفِّفْ عَنَّا فَإِنَّ أُمَّتِي لاَ تَسْتَطِيعُ هَذَا. فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرَ صَلَوَاتٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُوسَى، فَاحْتَبَسَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهُ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ حَتَّى صَارَتْ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ، ثُمَّ احْتَبَسَهُ مُوسَى عِنْدَ الخَمْسِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ لَقَدْ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْمِي عَلَى أَدْنَى مِنْ هَذَا فَضَعُفُوا فَتَرَكُوهُ، فَأُمَّتُكَ أَضْعَفُ أَجْسَادًا وَقُلُوبًا وَأَبْدَانًا وَأَبْصَارًا وَأَسْمَاعًا؛ فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ. كُلَّ ذَلِكَ يَلْتَفِتُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى جِبْرِيلَ لِيُشِيرَ عَلَيْهِ، وَلاَ يَكْرَهُ ذَلِكَ جِبْرِيلُ، فَرَفَعَهُ عِنْدَ الخَامِسَةِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنَّ أُمَّتِي ضُعَفَاءُ أَجْسَادُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ وَأَسْمَاعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ فَخَفِّفْ عَنَّا. فَقَالَ الجَبَّارُ: يَا مُحَمَّدُ. قَالَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: إِنَّهُ لاَ يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ، كَمَا فَرَضْتُهُ عَلَيْكَ فِي أُمِّ الكِتَابِ، قَالَ: فَكُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، فَهِيَ خَمْسُونَ فِي أُمِّ الكِتَابِ، وَهِيَ خَمْسٌ عَلَيْكَ. فَرَجَعَ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: كَيْفَ فَعَلْتَ؟ فَقَالَ: خَفَّفَ عَنَّا، أَعْطَانَا بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا. قَالَ مُوسَى: قَدْ وَاللَّهِ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ فَتَرَكُوهُ، ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ أَيْضًا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا مُوسَى، قَدْ وَاللَّهِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي مِمَّا اخْتَلَفْتُ إِلَيْهِ. قَالَ: فَاهْبِطْ بِاسْمِ اللهِ. قَالَ: وَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي مَسْجِدِ الحَرَامِ".
في هذه الرواية نجد أمرين لا يمكن تجاهلهما يُثبتان أن الرواية السابقة تحكي رؤيا منام وليس رؤية عين على الحقيقة. أمَّا الأمر الأول فهو في بداية الرواية حيث قال أنس بن مالك رضي الله عنه: "لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَسْجِدِ الكَعْبَةِ، أَنَّهُ جَاءَهُ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ، فَقَالَ أَوَّلُهُمْ: أَيُّهُمْ هُوَ؟ فَقَالَ أَوْسَطُهُمْ: هُوَ خَيْرُهُمْ. فَقَالَ آخِرُهُمْ: خُذُوا خَيْرَهُمْ. فَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى، فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ وَتَنَامُ عَيْنُهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُهُ، وَكَذَلِكَ الأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلاَ تَنَامُ قُلُوبُهُمْ». وهذا الكلام من أنس رضي الله عنه أثبت لنا حدوث الرؤيا في المنام مرَّتين؛ الأولى عندما جاءه ثلاثة من الملائكة حيث قال: "وَهُوَ نَائِمٌ". ثم قال بعد قليل عندما وصف الرؤيا الثانية: "فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ وَتَنَامُ عَيْنُهُ...". إلى آخر كلام أنس رضي الله عنه. وأما الأمر الثاني فهو في ختام الرواية حيث قال أنس رضي الله عنه: "وَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي مَسْجِدِ الحَرَامِ". فهذا صريح في أنه كان نائمًا صلى الله عليه وسلم.
وكثير من العلماء يعتبرون أن هذه الرؤيا الثانية ليست في المنام ولكنها على الحقيقة؛ ولكن يتعارض مع هذا الأمر الألفاظ الصريحة التي ذكرناها، والدالَّة على النوم، ويتعارض معها -أيضًا- أن أنس رضي الله عنه يقول عن الرؤيا الثانية: "فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى". فإذا كنا قد عرفنا أن الرؤيا الأولى هي قبل الوحي بتصريح أنس رضي الله عنه فمحال أن يكون الموقف الثاني هو موقف المعراج الذي حدث في نهاية فترة مكة؛ لأن جبريل كان قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرات أو مئات المرات حتى ليلة المعراج الحقيقية، ولا شكَّ أنه رآه كثيرًا في خلال هذه السنوات، فلا يصحُّ هنا أن يقول: "فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى". كما أن صياغة أنس رضي الله عنه لقصة الرؤيتين تُشير إلى أنهما قريبتان، ولا يفصل بينهما سنوات كما يقول البعض.
ويُؤَكِّد على هذه الرؤيا رواية أخرى عند مسلم، تشرح الأمر بتفصيل أكبر، وأنا أعتقد أنها تتحدَّث عن الرؤيا نفسها التي كانت قبل الوحي، مع أن معظم العلماء اعتبروا أن هذه الرواية تتحدَّث عن حادث المعراج الفعلي الذي تمَّ في أواخر الفترة المكية.
ولنراجع نص الرواية كاملاً في البداية ثم نلقي بعض الظلال على بعض الكلمات التي تُؤَكِّد ما أرمي إليه. روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه -أيضًا- قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَا أَنَا عِنْدَ الْبَيْتِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ، إِذْ سَمِعْتُ قَائِلاً يَقُولُ: أَحَدُ الثَّلاَثَةِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ. فَأُتِيتُ فَانْطُلِقَ بِي، فَأُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، فَشُرِحَ صَدْرِي إِلَى كَذَا وَكَذَا -قَالَ قَتَادَةُ: فَقُلْتُ لِلَّذِي مَعِي مَا يَعْنِي؟ قَالَ: إِلَى أَسْفَلِ بَطْنِهِ- فَاسْتُخْرِجَ قَلْبِي، فَغُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ أُعِيدَ مَكَانَهُ، ثُمَّ حُشِيَ إِيمَانًا وَحِكْمَةً، ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ أَبْيَضَ، يُقَالُ لَهُ: الْبُرَاقُ، فَوْقَ الْحِمَارِ، وَدُونَ الْبَغْلِ، يَقَعُ خَطْوُهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ، فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ انْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَفَتَحَ لَنَا، وَقَالَ: مَرْحَبًا بِهِ وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ". قَالَ: "فَأَتَيْنَا عَلَى آدَمَ عليه السلام".
وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِقِصَّتِهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ "لَقِيَ فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ عِيسَى، وَيَحْيَى عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ، وَفِي الثَّالِثَةِ يُوسُفَ، وَفِي الرَّابِعَةِ إِدْرِيسَ، وَفِي الْخَامِسَةِ هَارُونَ عليه السلام". قَالَ: "ثُمَّ انْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَأَتَيْتُ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. فَلَمَّا جَاوَزْتُهُ بَكَى، فَنُودِيَ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: رَبِّ، هَذَا غُلاَمٌ بَعَثْتَهُ بَعْدِي يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِهِ الجَنَّةَ أَكْثَرُ مِمَّا يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي". قَالَ: "ثُمَّ انْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَأَتَيْتُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ". وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: وَحَدَّثَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، "أَنَّهُ رَأَى أَرْبَعَةَ أَنْهَارٍ يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا نَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، وَنَهْرَانِ بَاطِنَانِ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذِهِ الأَنْهَارُ؟ قَالَ: أَمَّا النَّهْرَانِ الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ: فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ. ثُمَّ رُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، إِذَا خَرَجُوا مِنْهُ لَمْ يَعُودُوا فِيهِ آخِرُ مَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ أَحَدُهُمَا خَمْرٌ، وَالآخَرُ لَبَنٌ، فَعُرِضَا عَلَيَّ فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقِيلَ: أَصَبْتَ أَصَابَ اللهُ بِكَ أُمَّتُكَ عَلَى الْفِطْرَةِ، ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسُونَ صَلاَةً"، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّتَهَا إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ.
في هذه الرواية نجد بعض الأمور المهمَّة، التي تدعوني إلى تصوُّر أن هذه الرواية تتحدَّث عن الرؤيا:
أولاً: كلمة الرسول صلى الله عليه وسلم المباشرة: "بَيْنَا أَنَا عِنْدَ الْبَيْتِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ". فهذه المقولة تُفَسِّر لنا أمرين اختلط فيهما كثير من العلماء: أما الأمر الأول فهو المكان الذي بدأت منه القصة بقدوم جبريل؛ حيث إن هناك رواية صحيحة في البخاري -سنتعرَّض لها لاحقًا إن شاء الله- تشير إلى أن قدوم جبريل كان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بينما في هذه الرواية نجد أن جبريل جاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند المسجد، والواقع الذي تُفَسِّرُه هذه الكلمة التي قالها صلى الله عليه وسلم أن الذي حدث عند البيت الحرام هو الرؤيا، حيث كان نائمًا صلى الله عليه وسلم، أو بين النائم واليقظان، فرأى الرؤيا التي ستتحقق بعَّد ذلك بسنوات عديدة، فهذا مكان الرؤيا، وليس مكان قدوم جبريل صلى الله عليه وسلم على الحقيقة. أما الأمر الثاني فالتصريح بأن الأمر بين النائم واليقظان، وهذا يُرَجِّح أنها كانت رؤيا؛ لأن قصة المعراج بعد ذلك حدثت على الحقيقة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم متيقظًا تمامًا، ولا يُناسبها وصف: "بين النائم واليقظان".
ثانيًا: هذه الرواية ذكرت الثلاثة الذين جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو نفس ما وصفه أنس رضي الله عنه في رواية البخاري، التي ذكرنا أنها تتحدَّث عن الرؤيا؛ بينما الروايات التي تتحدَّث عن المعراج عند حدوثه على الحقيقة لم تذكر أمر الثلاثة، إنما ذكرت أمر جبريل صلى الله عليه وسلم فقط، فهذا يُوَضِّح أن الروايات تتحدَّث عن أمرين مختلفين، أمر الرؤيا وأمر الحقيقة.
ثالثًا: هناك اختلافات بين رواية البخاري ومسلم في أماكن تواجد الأنبياء، الذي يُفَسِّر هذا هو أن رواية مسلم رواها أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رضي الله عنه، وفيها يذكر مالك بن صعصعة رضي الله عنه النصَّ الذي سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بينما في رواية البخاري فإن أنسًا رضي الله عنه يصف أمر الرؤيا بكلامه هو، ولا يذكر كلام الرسول صلى الله عليه وسلم؛ مما يدلُّ على أنه قد جمع هذه المعلومات من روايات شتى، لعلَّ بعضها نقلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والأخرى نقلاً عن بعض الصحابة، وقد صرَّح فيها أنه لم يحفظ اسم النبي الموجود في السماء الخامسة كما أغفل أسماء الأنبياء الموجودين في الثالثة، ولا يخفى علينا هنا أن الأصوب في تحديد أماكن الأنبياء الذين قابلهم صلى الله عليه وسلم في رحلة المعراج هو رواية مالك بن صعصعة رضي الله عنه عند مسلم، التي صرح فيها بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رابعًا: في هذه الرؤيا تم استثناء قصة الإسراء، فانتقلت الأحداث فجأة من المسجد الحرام إلى السماء الدنيا، وهذا قد يُوهِم البعض أن الرحلة كانت مباشرة من المسجد الحرام إلى السماء الدنيا دون ذهاب إلى المسجد الأقصى، أو أن الراوي اختصر القصة لسبب أو لآخر، والحقُّ أنني أرى أن هذا ليس اختصارًا من الراوي أو نسيانًا، إنما قصَّ الراوي كل تفصيلات الرؤيا التي رآها صلى الله عليه وسلم قبل الوحي لتُمَهِّده لقصة المعراج العجيبة، بينما قصة الإسراء -على غرابتها- لا تحتاج إلى هذا التمهيد؛ ولذلك لم يرها الرسول صلى الله عليه وسلم أصلاً في الرؤيا، وهذا يعني أنه صلى الله عليه وسلم قد قصَّ الرؤيا كاملة بكل أحداث المسجد الحرام، ثم ببعض أحداث رحلة السماء.
وهنك فائدة أخرى من هذا التحليل، وهي أن النص السابق لا يستلزم أن يكون البراق هو وسيلة الانتقال من الأرض إلى السماء، إنما قد تكون رؤية البراق هي مجرَّد استكمال لما سيحدث بعد ذلك عند البيت الحرام في ليلة المعراج الحقيقية، وكأن رؤيته إشارة إلى حدوث رحلة أرضية قبل رحلة السماء لم يُفْصَح عنها في الرؤيا، ثم ظهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الرؤيا نفسها أنه عند السماء الدنيا، فقصَّ كل ذلك على صحابته، ومعنى هذا أن وسيلة الانتقال إلى السماء قد تكون البراق كما قال البعض، وقد تكون غيره كما سنفصِّل بعد ذلك؛ ولكن ما يهمنا الآن هو أن نذكر أن النصَّ الذي بين أيدينا ليس دليلاً حتميًّا على صعوده بالبراق؛ لأنه تم استثناء قصة الإسراء، والله أعلم.
أما عن سبب حدوث الرؤيا قبل الحقيقة بسنوات، فأنا أرى أن هذا كان تمهيدًا لحدث هائل لم -ولن- يحدث في تاريخ الإنسانية إلا في هذه المرَّة؛ ومن ثَمَّ فهذا تطلَّب تمهيدًا لسنوات طويلة؛ حيث رأى الرسول صلى الله عليه وسلم الرؤيا قبل الوحي، ثم مرَّت به سنوات طويلة قابل فيها جبريل مرَّات عديدة، وقرأ في القرآن الكريم تفصيلات كثيرة عن السماوات السبع وما فيهن، وعن الجنَّة والنار والملائكة، وتعرَّف كذلك على حياة الأنبياء وقصصهم ومكانتهم، ثم بعد ذلك سيُصبح قادرًا على تحمُّل الرحلة العجيبة بتفصيلاتها الكثيرة.
ومن الملاحظ كذلك أن الرؤيا لم تتعرَّض للإسراء؛ الذي يُعَدُّ في حياة الأنبياء أمرًا متكرِّرًا لا يستغرب منهم؛ وذلك كما ذكرت بعض الروايات من أن الأنبياء ركبوا البراق الذي ينتهي خطوه عند منتهى بصره، وهذا يُوَضِّح أن الأنبياء كانوا ينتقلون به مسافات شاسعة في وقت قصير للغاية، ولم يُذْكَر لنا تفصيلات عن هذه الانتقالات في حياة الأنبياء الذين نعرفهم، اللهم ما جاء -في رواية ضعيفة- عن انتقال إبراهيم عليه الصلاة والسلام به من الشام إلى مكة [5]، كما أننا رأينا في قصة سليمان عليه السلام انتقالات أخرى سريعة وصلت إلى حدِّ الإتيان بعرش ملكة سبأ من اليمن إلى فلسطين في أقلِّ من طرفة عين، فهذه أمور على غرابتها وإعجازها تتكرَّر في حياة الأنبياء؛ وقد لا تحتاج إلى هذا التمهيد الطويل الذي رأيناه في موضوع المعراج؛ لكن يظلُّ حادث المعراج بما فيه من آيات عجيبة مثل الصعود إلى السماء، وهو صلى الله عليه وسلم على حالته البشرية، والعودة إلى الأرض مرَّة ثانية، ومثل مقابلة الأنبياء الذين ماتوا منذ قرون عديدة والتحاور معهم، ومثل الصعود إلى سدرة المنتهى ودخول الجنَّة، ومثل التردُّد في الزيارة على ربِّ العالمين، فكل هذه الأمور تظلُّ فريدة وغير متكرِّرة، وهي خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم وحده؛ ومن ثَمَّ فقد احتاجت إلى هذا التمهيد الطويل. لا شكَّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يذكر هذه الرؤيا طوال سنوات مكة، وينتظر تحقيقها؛ ولكنه لا يدري على وجه اليقين متى سيكون ذلك أو كيف سيكون، فكان هذا هو التمهيد الذي نقصده.
أمَّا بخصوص التفصيلات الكثيرة التي جاءت في الروايتين فسوف نتناولها بالشرح -بإذن الله- عند الحديث عن رحلة المعراج على الحقيقة. كانت هذه هي الرؤى التي رآها صلى الله عليه وسلم قبل أن يُوحى إليه بخصوص أمر المعراج، وهي تُضَمُّ إلى سلسلة الأحداث الغريبة التي مرَّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الوحي لتمهيده لأمر الرسالة، وإشعاره أنه مختلف عن الناس، ولفت نظره إلى أنه سيكون رسول هذه الأُمَّة، ثم جاءه الوحي بعد ذلك، وكُلِّف بالرسالة، ومرَّت به أحداث كثيرة تعرَّضنا لها؛ وذلك من إيمان القلَّة به وكثرة التكذيب له، حتى وصلنا في أخريات فترة مكة إلى الوقت الذي تحقَّقت فيه الرؤيا العجيبة الخاصة بالمعراج؛ بل أُضيف إليها رحلة أخرى عجيبة كذلك؛ وهي رحلة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.