الفيلسوف.. الزاهد .. الطبيب.. العالم.. كلها ألقاب اكتسبها الدكتور مصطفى محمود وهو طبيب مصري وعالم مسلم خاض تجربة فكرية صوفية و رحلة طويلة خاض فيها صراعا فكريا ضد الجهل والكفر . وكان علمه الذي اكتسبه خلال مشوار حياته وسيلة ابتغى بها الوصول للحقيقة والغاية الوحيدة في الكون والتي من أجلها سخرت وخلقت الحياة وهي الإيمان بالله –عزوجل- خالق الكون والبشر . ولد مصطفى محمود بقرية شبين الكوم بمحافظة المنوفية في 27 ديسمبر 1921 في عائلة مصرية بسيطة يعود نسبها إلى الأشراف وينتهي إلى زين العابدين بن الحسين بن علي، وتخرج عام 1953 في كلية الطب، واشتهر بألقاب عدة منها "المشرحجي"،و ذلك لعشقه منذ الصغر تشريح الحشرات التي يوقع بها، و"الزاهد" و"الصوفي"، وتوفي في 31 أكتوبر 2009 في منزله بحي المهندسين بمحافظة الجيزة . تحول الطبيب العالم مبكرًا عن الاحتفاظ بعضوية نقابة الأطباء، مهنته التي درسها، مُفضلًا المتابعة في طريق الأدب الذي سلكه منذ كان طالبا في الجامعة في ستينيات القرن الماضي، وآثر الاحتفاظ بعضويته في نقابة الصحفيين، بعد أن أصدرت القيادة السياسية في مصر مُمثلة في شخص الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قرارا بمنع الجمع بين وظيفتين، فقرر العالم والزاهد الانتصار لبلاط صاحبة الجلالة، ونشر عددا من كتاباته في مجلة «روزاليوسف»، في أبواب «اعترافات عشاق»، و«البُوسطجي»، وباب «اعترفوا لي» في مجلة «صباح الخير». أثناء دراسته الجامعية عشق العزف على الناي، ويحكي في مذكراته المنشورة، عام 2009،قائلا : "شاء القدر أن أتعرف على الأسطى عبدالعزيز الكمنجاتى والراقصة فتحية سوست، وكانا أصحاب فرقة لإحياء الأفراح والطهور واتفقا معي أن أنضم لفرقتهما ووافقت دون مقابل مادي، وهذا ما أثار دهشتهما، ولكني قلت لهما أنا أهوى العزف فقط ولا أنوي احترافه" وهو الأمر الذي انزعجت منه والدته بعد تكرار مجيء الأسطى عبدالعزيز لمنزل العائلة، وعن ذلك كتب في مذكراته: «كانت والدتي تنزعج جدًا وكانت تعنفني وتغضب لما أقوم به ولم تستوعب أني أريد أن أترك نفسي للتجارب والبحث عن اليقين». وشغل مصطفى محمود الرأي العام المصري والعربي بعد انضمامه لمعسكر "الوجوديين"، أو الباحثين عن الحقيقة من خلال التمحيص في أصل الوجود ونشأة الكون وما بعد الموت، والتيار المادي الذي تزايد في الستينيات ولم يكن أول من دخل في هذه التجربة، حيث سبقه إليها الجاحظ أبو عثمان الليثي الكناني البصري (159 ه-255 ه) أديب عربي من كبار أئمة الأدب في العصر العباسي، وكذلك حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، وهي التجربة الروحية والمحنة التي خاضها علماء ومفكرون تاهوا في البحث عن الحقيقة، إلا أنه وإن كان الغزالي ظل في محنته 6 أشهر فإن مصطفى محمود قضى ثلاثين عاما . ثلاثون عاماً من المعاناة والشك والنفي والإثبات، ثلاثون عاماً من البحث عن الله!، قرأ وقتها عن كل المعتقدات الدنيوية والسماوية وخاض مقارنات فلسفية ونفسية وعقائدية كثيرة، ومما لاشك فيه أن التجربة كانت كالمراهنة الكبرى التي صهرته بقوة ألقت بآثارها عليه وصنعت منه مفكراً دينياً خلاقاً، وعاد من تجربته بقطعة أرض اشتراها من عائدات أول كتبه "المستحيل"، وأنشأ عليها مسجدا حمل اسمه بشارع جامعة الدول العربية ومستشفى وأربع مراصد فلكية . "احتاج الأمر إلى ثلاثين سنة من الغرق في الكتب، وآلاف الليالي من الخلوة والتأمل مع النفس، وتقليب الفكر على كل وجه لأقطع الطرق الشائكة، من الله والإنسان إلى لغز الحياة والموت ، إلى ما أكتب اليوم على درب اليقين" هكذا بدأ العالم المسلم العائد إلى طريق الله عن علم ومعرفة ويقين ودراسة وبحث وتأمل في كتابه "رحلتي من الشك إلى اليقين"، أشهر مؤلفات مصطفى محمود، وكذلك كتاب "حوار مع صديقي الملحد"، الذي يدحض فيه أباطيل وأسانيد الكُفر والإلحاد الواهية، وعكف على شرح تجربته في برنامج "العلم والإيمان"، الذي كانت حلقاته دوما والتي تُبث عبر شاشة التليفزيون المصري تبدأ بموسيقى الناي الحزينة، وهو الآلة الموسيقية التي كان يعتبرها الراحل الأقرب إلى قلبه والأكثر تعبيرًا عن الحزن الذي يختلج النفس البشرية .