"وامعتصماه"، الكلمة التي فُتحت بسببها بلاد "عمورية"، بعدما استصرخت بها امرأة مسلمة أثناء قيام جنود الروم بأسرها، الكلمة التي ترددت في الأصداء وخفقت بجناحيها، رغم سجن صاحبتها، ظلت حرة طليقة في السماء متناقلة على الألسن، حتى وصلت الخليفة العباسي، آنذاك، المعتصم بالله، فأرسل مكتوبا إلى أمير الروم، نقفور قائًلا " من أمير المؤمنين إلى كلب الروم أخرج المرأة من السجن وإلا أتيتك بجيش بدايته عندك ونهايته عندي"، وهو نفسه الذي خاطبه الخليفة العباسي السابق للمعتصم، هارون الرشيد، باللهجة ذاتها ردًا على خطاب تهديد، فوصفه أمير المؤمنين في رده على خطابه على نفس الورقة قائلًا "من عبدالله أمير المؤمنين هارون الرشيد إلى نفقور كلب الروم، فاحذر من لغتك عندما تخاطبنا يا ابن الكافرة". فلم يستجب نفقور لكتاب أمير المؤمنين الخليفة العباسي، المعتصم، فتحركت الجيوش ودارت المعارك في ميادين الحرب وتحصن الروم بقلعتهم فلما استعصت على المعتصم ضرب حصارا على المدينة المنيعة دام نصف عام تقريباً ذاقت خلاله الأهوال إذ أمر بجعل النار في المجانيق ورمي الحصون رميا متتابعا ففعلوا، حتى دُكت الأسوار المنيعة واستسلم الروم ودخلها المسلمون في 17 رمضان سنة 223 ه / 13 أغسطس 838م بعد أن قُتل من أهلها ثلاثون ألفا، ودخل الأمير عمورية في زهو انتصاره وأمر بالبحث عن المرأة المستغيثة ولما أتته قال لها "لبيك يا أختاه.. هل أجابك المعتصم؟"، قالت نعم، وأمر الخليفة المعتصم بهدم أسوار المدينة المنيعة وأبوابها وكان لهذا الانتصار الكبير صداه في بلاد المسلمين، وخصّه كبار الشعراء بقصائد المدح، وخلدت بعض الأعمال الأدبية والشعرية الواقعة، كما في شعر أبي تمام. يا يوم وقعة عمورية انصرفت عنك المنى حفلا معسولة الحلب لقد تركت أمير المؤمنين بها للنار يوما ذليل الصخر والخشب غادرت بها بهيم الليل وهو ضحى يشله وسطها صبح من اللهب هو أبو إسحاق محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد بن المهدي بن المنصور ثامن الخلفاء العباسيين، ولد سنة 179 هجرية وتوفي بمدينة سامراء في 18 من ربيع الأول سنة 227 هجرية (4 فبراير سنة 842 ميلادية)، وكان في عهد أخيه المأمون واليا على الشام ومصر وكان المأمون يميل اليه لشجاعته فولاه عهده، ولما اشتد المرض على المأمون في طرطوس ولم يكن قد عقد لأحد بعده بولاية العهد، استدعى أخاه المعتصم وعهد إليه بالخلافة من بعده، دون ابنه العباس الذي كان موجودا معه في طرطوس للقيام بغزو الدولة البيزنطية، ورد هجماتها، لكن مرضه حال دون إتمام ذلك. وفي اليوم الذي توفي فيه المأمون بطرطوس بويع أبو اسحاق محمد بالخلافة ولقب بالمعتصم بالله في 19 من رجب سنة 218 هجرية (10 من أغسطس سنة 833 ميلادية)، وبحسب المؤرخين فقد كان المعتصم يتميز بقوته الجسدية وشدته في الحرب وشجاعته المميزة، حتى قيل عنه إنه كان يصارع الأسود ويحمل ألف رطل، ويمشي بها، ورغم ذلك لم يكن معنيًا بالعلوم والآداب كأخويه الأمين والمأمون وكان محدود الثقافة وضعيف في الكتابة وقد بالغ بعض المؤرخين فذكر أنه كان أميًا لا يكتب، أو أنه كان ضعيف الكتابة على قول ابن خلكان، وابن كثير، لكن ذلك لم يكن له أدنى تأثير في الحركة الفكرية والعلمية التي عمّت الخلافة فقد كانت البلاد وقتها مدفوعة بطاقة عارمة نحو الرقي والتقدم. ولعل قوته البدنية وخبرته العسكرية جعلتا المأمون يؤثر أخاه بالحكم دون ابنه حيث أن الخلافة العباسية كانت تتهددها الأخطار من الداخل والخارج في ثورة بابك الخرمي في فارس، وهجمات البيزنطيين، وكان المعتصم بطلا شجاعا متمرسا في الحرب خبيرا بشئونها، فآثر المأمون المصلحة العليا للخلافة بتولية من يصلح لهذه الفترة، وتمت البيعة بعد وفاته في (19 رجب 218ه= 10 أغسطس 833)، وكان المعتصم أول من استعان بالجنود الأتراك من الخلفاء العباسيين وذلك للحد من المنافسة الشديدة بين العرب والفرس في الجيش والحكومة. واشتهر عصر المعتصم بالقضاء على الفتن والثورات الداخلية في الدولة الإسلامية وردع الروم في أكثر من موقعة حربية وتمسك بتطبيق تعاليم الشريعة الإسلامية السنية ووصف مؤرخون الخليفة المعتصم بأنه كان زاهدًا متزهدًا فحارب أتباع المعتقدات الوثنية إذ كانت وصية المأمون لأخيه المعتصم أن يقضي على فتنة بابك الخرمي، وكان زعيم طائفة ضالة، يعتقد أصحابها بالحلول والتناسخ، ويدعون إلى الإباحية، وبدأت تلك الفتنة في أذربيجان ثم اتسع نطاقها إلى همدان وأصبهان وبلاد الأكراد. وامتدت الحرب أربع سنوات، حتى تمكن "الأفشين" أبرع قادة المعتصم من إخماد الفتنة، والقبض على بابك الخرمي في (10 شوال 222ه، 16 سبتمبر 837)، وكانت هذه الفتنة من أعظم الفتن التي تعرضت لها الدولة العباسية، وشغلت الخلافة أكثر من عشرين سنة، وقُتل من أجل القضاء عليها آلاف المسلمين، قدّرهم الطبري المؤرخ بنحو مائتين وخمسين ألف مسلم، وأنفقت الدولة العباسية من أجلها ملايين الدراهم والدنانير. ولٌقب الخليفة المعتصم بألقاب عدة إلا أن أشهرها هو الخليفة المثمنّ وذلك لما كان له الرقم 8 من أهمية في عدد من الصدف التي تمحورت حولها حياته فهو ثامن الخلفاء العباسيين من بنى العباس، ودامت خلافته ثماني سنوات،وثمانية شهور وثمانية أيام، وشهد عهده ثماني فتوحات عسكرية، وترك من الأولاد 8 أولاد، 8 بنات، وكانت ولادته عام 108ه في الشهر الثامن من السنة (شعبان) وتولى الخلافة سنة ثمان عشرة ومئتين، وفتح ثمانية فتوحات وتوفي وله من العمر 48 سنة. واحتجم المعتصم في أول يوم من محرم سنة 227/ 842 م هجرية فأصيب عقب ذلك بعلته التي قضت عليه يوم الخميس لثماني ليال مضت من شهر ربيع الأول من تلك السنة.