تسنيم: الاستخبارات الإيرانية تُحبط مؤامرة إسرائيلية كبرى لاستهداف عراقجي في طهران    جيش الاحتلال: اعتراض مسيرة إيرانية في منطقة البحر الميت    الرئيس الإسرائيلي ل أمريكا: «نحن نعرف ما يجب فعله».. وخامنئي ليس هدفنا    مروان عطية: سنحسم التأهل أمام بورتو    «لازم يقعد دكة».. علاء ميهوب يهاجم صفقة الأهلي الجديدة    الشكوك مستمرة حول مشاركة مبابي ضد باتشوكا    رابط نتيجة الشهادة الإعدادية 2025 الشرقية الترم الثاني    «فكرتني بالمصريين».. مينا مسعود يكشف كواليس تعرفه على خطيبته (فيديو)    إعلام إيراني: الدفاعات الجوية تتصدى لأهداف في أصفهان    إسكان النواب: الانتهاء من مناقشة قانون الإيجار القديم تمهيدًا لإقراره نهاية يونيو    شيرين رضا: والدي قالي الستات مش هتحبك.. لكن الجمال نعمة وأنا مبسوطة بها    تعليق مثير للجدل من إبراهيم فايق عقب خسارة الأهلي من بالميراس    سعر الفراخ البيضاء والحمراء وكرتونة البيض الأبيض والأحمر بالأسواق الجمعة 20 يونيو 2025    «الطقس× أسبوع».. معتدل إلى شديد الحرارة والأرصاد تحذر من اضطراب الملاحة والرياح والشبورة بالمحافظات    السيطرة على حريق شب داخل كافيه شهير بالنزهة    اللجنة العليا للزيوت: لا نقص في السلع والمخزون الاستراتيجي يكفي 11 شهراً    الوكالة الدولية: منشأة التخصيب الجديدة التي أعلنتها إيران في أصفهان    محافظ المنيا يشهد مراسم تجليس نيافة الأنبا بُقطر أسقفًا لإيبارشية ديرمواس    10 صور لاحتفال وزير الشباب والرياضة بعقد قران ابنته    الاتحاد الأفريقي يعلن مواعيد دوري الأبطال والكونفدرالية    التشكيل - خروج جريزمان ضمن 3 تعديلات في أتلتيكو لمواجهة سياتل    إير كايرو توسّع أسطولها الجوي بتوقيع اتفاقية جديدة في معرض باريس للطيران    سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن بعد آخر تراجع بمستهل تعاملات اليوم الجمعة 20 يونيو 2025    إيران تعلن عن غارات إسرائيلية على مناطق لويزان وبارتيشن ودماوند شرق طهران    إيران تعلن مهاجمة بنى تحتية عسكرية في إسرائيل بمسيرات قتالية تستخدم لأول مرة    قبل الغلق.. رابط التقديم لوظائف المدارس المصرية اليابانية 2026    اليوم.. مصر للطيران تنظم اليوم 11 رحلة جوية لعودة الحجاج    الجبهة الداخلية المصرية متماسكة في مواجهة كل الأخطار    ثقافة الفيوم تناقش أثر المخدرات على الشباب وتقدم مسابقات ترفيهية للأطفال.. صور    «إنجاز طبي جديد».. تحت مظلة منظومة التأمين الصحي الشامل    مصرع شاب غرقًا بترعة المحمودية في البحيرة    أستاذة علوم سياسية: الصراع الإيراني الإسرائيلي تحول إلى لعبة "بينغ بونغ" عسكرية    البطريركية القبطية في جنوب أفريقيا تقود صلاة الغروب الأرثوذكسية: "سلامي أتركه لكم"    خبير اقتصادي: البنوك المركزية قد تعود لرفع الفائدة هربًا من موجة تضخم جديدة    خبير في الحركات الإسلامية: الإخوان يستخدمون غزة كغطاء لأجنداتهم التخريبية    رسميا بعد الارتفاع الجديد.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الجمعة 20 يونيو 2025    تعرف على ترتيب مجموعة الأهلي بعد خسارته وفوز ميامي على بورتو    ريبييرو: أغلقنا ملف بالميراس.. ونستعد لمواجهة بورتو    خلافات عائلية تنهي حياة خفير نظامي في الفيوم    قادة كنائس يستعرضون دروس مقاومة نظام الفصل العنصري بجنوب أفريقيا    وزير الأوقاف: تعاون مشترك مع اتحاد الجامعات لدعم الأعمال الوقفية ومواجهة الإرهاب    خبير يكشف كمية المياه المسربة من بحيرة سد النهضة خلال شهرين    هل من حق مريض الإيدز الزواج؟ نقيب المأذونين يجيب (فيديو)    بسبب بلاغ للنائب العام.. محمد رمضان يعتذر لعائلة «هلهل»    هنا الزاهد ب"جيبة قصيرة" وصبا مبارك جريئة.. لقطات لنجوم الفن خلال 24 ساعة    حدث بالفن| وفاة والدة مخرجة وفنانة تستغيث ونجمة ترد على شائعة زواجها    "وحش البحار" و"ليو".. أعمال يشاهدها الجمهور على "نتفليكس" في الصيف    محسن رضائي: لم نستخدم ورقتي النفط ومضيق هرمز ولم نلجأ لأصدقائنا بعد ولم نستخدم التقنيات الصاروخية الحديثة    طبق الأسبوع| من مطبخ الشيف الأردنية نسرين الوادي.. طريقة عمل شوربة البروكلي    كارثة تعليمية| رسوب جماعي في مدرسة يثير صدمة.. وخبير يطالب بتحقيق شامل    باحث: 36 سببًا لمرض ألزهايمر    خالد الجندى: الكلب مخلوق له حرمة والخلاف حول نجاسته لا يبرر إيذائه    نائب رئيس الوزراء يترأس اجتماع المجلس الوطني للسياحة الصحية    فاتتني صلاة في السفر كيف أقضيها بعد عودتي؟.. الأزهر للفتوى يوضح    ما حكم تشغيل صوت القرآن أثناء النوم؟.. أمين الفتوى يجيب    محافظ أسيوط يفتتح وحدة طب الأسرة بمدينة ناصر بتكلفة 5 ملايين جنيه – صور    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 19-6-2025 في محافظة قنا    هل الحسد يمنع الرزق؟.. الشيخ خالد الجندي يوضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العبقرية العسكرية في شخصية خالد بن الوليد
نشر في الفجر يوم 07 - 01 - 2016

لقد حفَل التاريخ الإنساني بالكثير من الأسماء والشخصيَّات التي سَطرت على صفحات الزمن بحروف من نور قصصًا للبطولة النادرة والعبقريَّة الفذة، ولعل القائد الإسلامي خالد بن الوليد من ألمع تلك الشخصيَّات التي سطعت في سماء العبقريَّة العسكرية، والذي استطاع في سنوات قليلة مستعينًا بالله أولاً، ثم بفضل الحُنكة العسكرية الفذَّة والخبرة التكتيكية الفريدة أن يَدُك حصون الفرس والروم، وهما أعظم دولتَين في ذلك الوقت، وأن ينشر الإسلام عزيزًا مهابًا على أرض الجزيرة العربية وفي بلاد العراق والشام.
ولا عجب إذًا أن يقول فيه الخليفة الأول للمسلمين وهو أبو بكر الصديق: "والله لأُنِسينَّ الرومَ وساوس الشيطان بخالد بن الوليد"، وقال عنه أيضًا: "لقد عجزت النساء أن يَلِدن مثل خالد"، ولقد سمَّاه المسلمون: (سيف الله المسلول)؛ بعد أن قال له الرسول صلى الله عليه وسلم يوم دخوله الإسلام: "أنت سيف من سيوف الله، سلَّه على المشركين".
عبقرية خالد بن الوليد في مؤتة
وفي غزوة مؤتة في العام الثامن للهجرة، وبعد أن حاصَر الجيشُ الرومي المؤلَّف من مائة ألف جندي الجيشَ المسلم المؤلَّف من ثلاثة آلاف جندي، وبعد مقتل ثلاثة قادة من قواد الحملة، وهم زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبدالله بن رواحة، وإزاء هذا الموقف العصيب والبالغ الحساسية من الوِجهة العسكرية أخذ الرايةَ خالد بن الوليد، وبأسلوب تكتيكي استطاع أن يَنسحِب بالجيش مؤمِّنًا لهم سُبُل السلامة، ومخفِّفًا عنهم وقْعَ الهزيمة، ومؤكِّدًا للروم أنه بالرغم من كثرة عددهم وعدتهم وقوة تنظيمهم، فقد تمكَّن من سحب الجيش سالمًا؛ ليتأهَّب لملاقاتهم في مرات قادمة.
عبقرية خالد بن الوليد في حروب الردة
وبعد انتقال الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى وتولي الصديق أبي بكر الخلافة، والتي استمرَّت حوالي ثلاثين شهرًا، هي عند الله خيرٌ من ثلاثين قرنًا، كانت الردة هي أول ما واجَهه من مشاكل، حيث اضطرب أمر الكثيرين من العرب، فارتد منهم من كان قريب العهد بالإسلام، وامتنَع بعضهم عن الزكاة، وإزاء ذلك فقد عزم الصدِّيق على قتال المرتدين حتى يعود الإسلام إلى ما كان عليه في الجزيرة العربيَّة. وكان لخالد بن الوليد سيف الله المسلول دورُه في إخماد هذه الفتنة، واستعادة هيبة الإسلام في صدور المتشكِّكين.
عبقرية خالد بن الوليد في فتوحات العراق
وبعد أن اطمأن الخليفة الصدِّيق إلى الجبهة الداخلية، تَطلَّع إلى تأمين حدود دولته الناشئة، خاصة تلك المتاخمة لدولتَي الفرس والروم، والتي باتتا تَستعِدان لمهاجمة الدولة الإسلامية، والقضاء على قوَّتها المتنامية في مهدها، وكانت خطته تتلخَّص في تَقدُّم القائد البطل خالد بن الوليد بجيشه البالغ عشرة آلاف مقاتل إلى جنوب العراق، ويتقدَّم القائد المغوار المثنى بن حارثة الشيباني نحو الحيرة، ويتقدَّم عياض بن غنم بالزحف نحو دومة الجندل ثم يَنعطِف نحو الحيرة، ويتقدَّم سعيد بن العاص بجيشه الذي يبلغ سبعة آلاف مقاتل نحو الحدود الفلسطينيَّة؛ لشغل الروم ومَن والاهم من العرب عن التدخل، وتعطيل التقدم في أراضي الفرس.
وقد نجح خالد بن الوليد في التقدم في جنوب العراق وتَمكَّن من فتح مدينة الحيرة، ولكن اعتراضًا حدث لجيش عياض بن غنم من جانب جيوش الغساسنة ومَن والاهم من العرب؛ مما اضطر خالد إلى نجدته وفكِّ الحصار عنه في الشمال، ثم عاد ثانية إلى جنوب العراق.
عبقرية خالد بن الوليد في فتوحات الشام
وعندما عَلِم خليفة المسلمين أبو بكر الصديق باضطراب الحدود على الروم، وبأن هرقل عظيم الروم قد جمع مائتين وأربعين ألف مقاتل للهجوم على المدينة، فماذا يفعل أبو بكر هل يَعقِد صلحًا أو يطلب هدنة مع هرقل؟ لا وألف لا، بل اجتمع أبو بكر مع مستشاريه، وأعلن النفير العام في الأراضي الحجازية والنجدية واليمنية، ومن ثَمَّ بادرت جموع المتطوعين بالتوافد نحو المدنية المنورة من جميع تلك الأنحاء.
وعندما اكتمل الحشد كوَّن الصِّديقُ أربع فِرق هجوميَّة، تتوجَّه إلى بلاد الشام بقيادة أربعة من قواد المسلمين، هم: يزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وأبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، وعندما وصل نبأ الجيوش العربية الإسلامية للروم، أَعَد هرقل ملك الروم جيشًا جرارًا، يَزيد على المائة والعشرين ألفًا ليُواجِه الفرق الإسلامية كلاًّ على حدة، وبعد التشاور رأى القوَّاد المسلمون ضرورة توحُّدهم في جيش واحد على ضفة نهر اليرموك، وقد أيَّدهم في ذلك الخليفة أبو بكر.
ولما علِم الروم بتحركات المسلمين، اضطروا للتوحد أيضًا في جيش واحد بمحاذاة الجيوش الإسلامية على أرض اليرموك، وظلَّ الجيشان في حالة تحفُّز وترقُّب قرابة الشهرين؛ حتى خاف القواد المسلمون من فتور حماس الجند المسلمين ونفاد صبرهم، وقد تربَّص بهم الأعداء الذين يفوقونهم عددًا وعُدَّة، وكان الرأي هو طلب المدد من الخليفة الصديق.
ولما وصلت الرسالة إلى الخليفة، وبعد استشارة مستشاريه رأى أن الموقف يتطلَّب تحويل القائد الصنديد خالد بن الوليد مع بعض جيشه من العراق إلى الشام، وبالفعل كتب إليه شارحًا له حالة اللاحرب واللاسِلم التي تسيطر على الجيشين، وأن هذا الوضع لا يَحسِمه إلا قائد مُحنَّك مثل خالد، وأمره أن يقسم جيشه نصفين، فيترك النصف الأول بالعراق، وتحت إمرة لواء الإسلام المثنى بن حارثة، ويسير بالنصف الثاني نحو اليرموك؛ ليكون مددًا لجيوش المسلمين هناك، وبهذا التقسيم يضمن استمرار العمليات العسكرية بالعراق، ويَحسِم الموقف على الجبهة الشامية.
عبقرية خالد العسكرية في المسير من العراق إلى الشام
وبالفعل جهَّز خالد بن الوليد جيشه المكوَّن من الكتائب القوية مع بعض القادة المتميزين، مِثل القعقاع بن عمرو التميمي وضرار بن الخطاب وضرار بن الأزور وعاصم بن عمرو، وتألَّف الجيش من حوالي عشرة آلاف مقاتل، ولقد ظهرت عبقرية خالد العسكرية في اختيار الطريق إلى وادي اليرموك، فلقد اختار طريقًا وعرًا صحراويًّا غير واضح المعالم، تَندُر فيه مصادر المياه؛ لأنه كان حريصًا على أن يرتاد الطريق الخالي من الحاميات الموالية للروم غير الآهل بالمارة أو السكان؛ وذلك من أجل الإبقاء على سرية المدد، واستخدام عنصر المباغتة من الخلف لجيش العدو ومحدِثًا لهم الهلع والارتباك، ولقد خطب خالد في جيشه ليهوِّن عليهم مصاعب الطريق قائلاً لهم: "أيها المسلمون، لا تسمحوا للضعف أن يَدُب فيكم، ولا للوَهْن أن يُسيطر عليكم، واعلموا أن المعونة تأتي من الله على قدْرِ النيَّة، وأن الأجر والثواب على قدر المشقة، وأن المسلم ينبغي له ألا يَكترِث بشيء مهما عَظُم ما دام الله في عونه".
وقد لبَّى الجنود نداء خالد قائلين له: أيها الأمير، أنت رجل قد جمع الله لك الخير، فافعل ما بدا لك وسِر بنا على بركة الله، وكان الطريق المختار هو طريق قراقره سوى، أرك، تدمر، القريتين، حوارين، مرج راهط، بصرى، وادي اليرموك، وقد استشار خالد دليلَه رافع بن عميرة في مشكلة المياه، فأشار عليه بأن على الجنود أن يحملوا ما استطاعوا من الماء معهم، أما الخيل فسوف يكون لها مصدر آخر من مصادر الشرب؛ فقد جاؤوا بعشرين من أعظم الجمال وأكثرها سِمنة، فمنعوها الماء حتى أَجهدها الظمأ، ثم عرضوا عليها الماء مرة ومرتين، حتى ارتوت وملأت أكراشها، ثم قُطِعت شفاهها؛ لئلا تجتر فتحوَّلت بطون الإبل بذلك إلى مستودعات هائلة للمياه، فإذا عطشت الخيل نُحِرت الإبل، فتشرب الخيل ما في بطون الإبل من الماء، ويأكل الجنود لحومها حتى يتقووا على جهد الطريق، ومضى الجيش المسلم يَخترِق الفيافي والصحراء مفضلاً السير في الليل والصباح الباكر، حيث الجو المعتدل من أجل توفير المستطاع من الماء، وأثناء الطريق كانت خبرة الدليل الجغرافي واضحة في مساعدة الجنود على ورود مصادر المياه، ليتزودوا منها أثناء تَرحالهم.
عبقرية خالد بن الوليد في معركة اليرموك
وما أن وصلت جيوش خالد إلى أرض اليرموك، حتى اجتمع خالد بن الوليد في مكان اسمه أجنادين مع أركان حرب الجيش الإسلامي المرابط بالشام، وهم يزيد بن أبي سفيان وأبو عبيدة بن الجراح وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة، وعقَد معهم جلسة طارئة في غرفة العمليات العسكرية، قال فيها لإخوانه: إن عدد جنود العدو حوالي مائتين وأربعين ألفًا، وعدد جنودنا ستة وأربعون ألفًا، ولكن القرآن الكريم يقول: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]. والنصر في الحروب لم يكن أبدًا لمن كَثُر عدده، بل كان لمن آمن بما يُقاتِل من أجله، وصدق النية، وصمَّم على النصر، وأعدَّ للأمر عدته.
وبعد أن أخذ خالد رأي كل أمير من أمراء الجيوش المسلمة، استقرَّ الرأي على أن تتوحَّد الجيوش الإسلامية تحت إمرة أمير واحد، خاصة بعد أن علم خالد بأن الجيوش الرومية قد توحَّدت تحت إمرة تيودورك، فأصبح من غير الحكمة أن تُقاتِل الجيوش الإسلامية المتفرِّقة جيشًا واحدًا منظَّمًا، وبحكمة بالغة وحتى لا يدع للشيطان مدخلاً في نفس أي من الأمراء فقد اقترح خالد بن الوليد أن تكون الإمارة الموحَّدة بالتناوب بين جميع الأمراء بحيث يكون لخالد بن الوليد اليوم الأول، ثم يتولَّى الأمراء الآخرون، كل حسب دوره، وقد وافَق الجميع على هذا الاقتراح.
ومن ثَمَّ شرع خالد بن الوليد في إعداد خُطَّة المعركة، وهو صاحب التجارب الناجحة في خوض حروب عديدة خارج الجزيرة العربية، وله خبرة بأساليب الدول الكبرى في المعارك، ويَمتلِك القدرة على التصرف السليم في المواقف الحرجة، والذي يؤدي دائمًا إلى تحقيق النصر.
وكانت الخطة الموضوعة تقضي بتقسيم الجيش العربي المسلم إلى ستة وأربعين كردوسًا، كل كردوس يتألَّف من ألف رجل يتأمَّرهم أمير من أولي البأس، ثم قسَّم الجيش إلى قلب وميمنة وميسرة، فأما القلب فيتكوَّن من خمسة عشر كردوسًا، تحت قيادة أبي عبيدة بن الجراح، وأما الميمنة فتتألَّف من خمسة عشر كردوسًا، تحت إمرة عمرو بن العاص، ويُعاوِنه شرحبيل بن حسنة، وأما الميسرة، فتتكوَّن من عشرة كراديس بقيادة يزيد بن أبي سفيان، وأما بقية الكراديس فتكون احتياطًا في الساقة تحت قيادة عكرمة، وبهذا التنظيم البديع أظهر خالد بن الوليد براعته العسكرية التي جعلت الجيش العربي المسلم يبدو أكثر عددًا، وأخفَّ حركة، وأكثر مرونة، وأقدر على الحركة بما يتلاءم مع سير المعركة.
أما خالد بن الوليد، فسيتولَّى القيادة من القلب، وستَصدر أوامر مباشرة إلى قواد القطع الرئيسية: القلب والجناحين والساقة، وقبل أن يبدأ الهجوم المُنتظَر من الروم جرت حملة تشجيعيَّة على الجبهة العربية الإسلامية، كان هدفُها الحث على الجِهاد والصبر وقوة الإرادة.
وكانت خطة خالد العسكرية هي انتظار الروم حتى يبدؤوا زحفَهم المتوقَّع، فإذا اقتحم فرسانهم خطوط المسلمين، أفسحوا لهم الطريق وتركوها تتوغَّل خلف خطوط الجيش الإسلامي، حيث تُقابِلها قوَّة احتياطية من فرسان المسلمين تُقابِلها وتقضي عليها، وبهذا تَحرِم مشاة الروم من فرسانها، وتتفرَّغ قوات المسلمين لملاقاة هؤلاء المشاة، وقد اختار خالد بن الوليد مواقع حصينة بحيث تكون المدينة المنوَّرة خلفهم ليحتَفِظ بخطوط الإمدادات، بينما كان الروم يُرابِطون في موقع محصور بين سهل فسيح في منحنى نهر اليرموك، ومن خلفهم منخفض سحيق اسمه (واقوصة) تحيط به من ثلاث نواحٍ جبال بالغة الارتفاع، ولما قَدِم الروم إلى هذا المكان، تخطَّى جيش المسلمين النهرَ إلى الضفة اليمنى منه، فأصبح الروم محصورين بين الجبال ومن أمامهم الجيش الإسلامي.
وفي فجر يوم الثامن والعشرين من شهر جمادى الأولى عام 13ه بدأ الزحف الرومي، واخترق فرسان الروم خطوط المسلمين حسب خطة خالد؛ حيث أَعدَّ لهم قوَّةً احتياطيَّة من الفرسان، وحمل المسلمون على الروم حملة صادقة، وانقضَّ الفرسان المسلمون على فلول الروم كالصقور الغاضبة، فمن لم تحصده السيوف ابتلعه نهر اليرموك غريقًا، أو لاذ بالفرار باجتياز الخندق نحو الساحة؛ حيث طاردهم فرسان العرب، فقتلوا منهم الكثيرين، وقد كان هناك عدد كثير من مشاة الروم مقرنين في سلاسل كل عشرة في سلسلة واحدة، وقد أثقلت هذه السلاسل حركتَهم، خصوصًا إذا قُتِل أو جرح واحد منهم، وقد استمرَّت المعركة يومًا واحدًا، استطاع فيها الجيش العربي المسلم أن يسيطر على ساحة القتال، وهربت فرسان تيودورك وباتت مُشاته مكشوفة من دون حماية، فأصدر الأوامر لهم بالتقهقر إلى خلف الخندق، بيد أن خالد حال دون ذلك؛ حيث انقضَّ عليهم بفرسانه ومشاته فسحقهم بقوة.
وفي إحصاء للخسائر فقد كان عدد القتلى والجرحى من المسلمين حوالي ثلاثة آلاف، ولكن بالنسبة للجيش الرومي فقد كانت الخسائر كبيرة يَصعُب حصرها، وقد أبلغ المسؤولون عن الإحصاء خالد بن الوليد أن ثمانين ألفًا من الروم سقطوا في الواقوصة خلف الخندق، كما قُتِل قائدهم العام تيودورك أخو هرقل، وهنا قال خالد بن الوليد: "الحمد الله الذي نصر عباده المؤمنين".
وفي أثناء المعركة حملت الرسل القادمة من المدينة أنباء وفاة أبي بكر الصديق خليفة المسلمين، ومبايعة المؤمنين عمر بن الخطاب ليكون الخليفة الثاني، ومع هذه الرسل جاء خطاب من عمر بن الخطاب إلى قيادة الجيش المُحارِب في اليرموك يقضي بعزل خالد بن الوليد، وتولية أبي عبيدة بن الجراح قائدًا عامًّا للجيوش الإسلامية باليرموك، وقد أخفى خالد هذه الرسالة خوفًا على أفراد الجيش من الاضطراب، فلما انتهت المعركة بالنصر المبين دفع خالد بالرسالة إلى أبي عبيدة بكل تواضُع وإيثار، قائلاً له: "وأما الآن، فإنك أنت أميري وقائدي، وأنا لك الجندي الأمين، سلني أُطِعك".
خالد بن الوليد .. البطل الإنسان
فما أكرمَ هذا الإنسانَ وهذا البطل! الذي عرف حدوده كبشر، وأنجز ما أنجز من بطولات وهو يخشى الله تعالى وحده لا شريك له، إن اسم البطل خالد بن الوليد قد دُوِّن في سجلات التاريخ البشري بمآثره في معركة اليرموك وغيرها، وذكراه تتصدَّر في قدرته على التخطيط والتنفيذ لمعركة غيَّرت وجه التاريخ، وحطَّمتْ أسطورة الدولة الكبرى التي لا تُقهَر، وارتفعت بالمقابل الدولة الإسلامية الشابَّة، واتَّسعت، فأصبحت إمبراطورية أضاءت الحضارة بنور علومها لعشرة قرون متتالية.
وبعد معركة اليرموك أرسل خالد بن الوليد إنذارًا حربيًّا شديد اللهجة إلى كسرى عظيم الفرس، وقال له: "أَسلِم تَسلَم، وإلا فقد جئتك بقوم يحرصون على الموت كما تَحرِصون أنتم على الحياة"، فلما وقع الإنذار في يد كسرى ارتعدت أعصابه، وأرسل إلى إمبراطور الصين يطلب منه المددَ والنجدة، فردَّ عليه قائلاً: "يا كسرى، لا قِبَل لي بقوم لو أرادوا خلْع الجبال لخلعوها، رجال خافوا الله فخوَّف الله منهم كل شيء".
ثم انظر ماذا ترك هذا البطل خالد بن الوليد عند موته، إنه لم يترك إلا سيفَه الذي كان يُقاتِل به في سبيل الله، وفرسَه الذي كان يركبه غازيًا في سبيل الله، ثم ها هو يبكي على فراش الموت قائلاً: "هأنذا أموت على فراشي، وما في جسدي قيد شبر إلا وفيه ضربة سيف أو طَعْنة رمح أو رمية سَهْم في سبيل الله، أموت كالبعير، وكنت أتمنَّى أن أموت شهيدًا في سبيل الله، فلا نامت أعين الجبناء".
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23]، صدق الله العظيم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.