خرج زعماء قريش ينتقون من قبائلهم العناصر التي ستقوم بتنفيذ العملية الإرهابية لاغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الله كشف سترهم وفضح مخططهم ومكرهم الخبيث كاملا في آية من الآيات الظاهرة. عَنْ عروة بن الزبير رحمه الله قَالَ: وَمَكَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الْحَجِّ بَقِيَّةَ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمَ، وَصَفَرَ، ثُمَّ إِنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَمَكْرَهُمْ عَلَى أَنْ يَأْخُذُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَإِمَّا أَنْ يَقْتُلُوهُ، وَإِمَّا أَنْ يَحْبِسُوهُ، وَإِمَّا أَنْ يُخْرِجُوهُ، وَإِمَّا أَنْ يُوثِقُوهُ، فَأَخْبَرَهُ اللهُ تعالى بِمَكْرِهِمْ: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ مِنْ تَحْتِ اللَّيْلِ قِبَلَ الْغَارِ بِثَوْرٍ، وَعَمَدَ عَلِيٌّ رضي الله عنه فَرَقَدَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُوَارِي عَنْهُ الْعُيُونَ. وفي دلائل النبوة كذلك للبيهقي عَنِ ابن شهاب الزهري قَالَ: "وَمَكَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الْحَجِّ بَقِيَّةَ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمَ، وَصَفَرَ، ثُمَّ إِنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ اجْتَمَعُوا أَنْ يَقْتُلُوهُ أَوْ يُخْرِجُوهُ حِينَ ظَنُّوا أَنَّهُ خَارِجٌ، وَعَلِمُوا أَنَّ اللهَ تعالى قَدْ جَعَلَ لَهُ مَأْوًى وَمَنْعَةً وَلأَصْحَابِهِ، وَبَلَغَهُمْ إِسْلاَمُ مَنْ أَسْلَمَ، وَرَأَوْا مَنْ يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَأَجْمَعُوا أَنْ يَقْتُلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ يُثْبِتُوهُ، فَقَالَ اللهُ تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]. وَبَلَغَهُ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي أَتَى فِيهِ أَبَا بَكْرٍ أَنَّهُمْ مُبَيِّتُوهُ إِذَا أَمْسَى عَلَى فِرَاشِهِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ قِبَلَ الْغَارِ غَارِ ثَوْرٍ، وَهُوَ الْغَارُ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ تعالى فِي الْكِتَابِ، وَعَمَدَ علي بن أبي طالب فَرَقَدَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُوَارِي عَنْهُ، وَبَاتَتْ قُرَيْشٌ يَخْتَلِفُونَ وَيَأْتَمِرُونَ أَيُّهُمْ يَجْثِمُ عَلَى صَاحِبِ الْفِرَاشِ فَيُوثِقُهُ، فَكَانَ ذَلِكَ أَمْرَهُمْ حَتَّى أَصْبَحُوا، فَإِذَا هُمْ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، فَسَأَلُوهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ، فَعَلِمُوا عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ فَارًّا مِنْهُمْ، فَرَكِبُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ يَطْلُبُونَهُ". وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ} [الأنفال: 30]، قَالَ: "تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ لَيْلَةً بِمَكَّةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا أَصْبَحَ، فَأَثْبِتُوهُ بِالْوَثَاقِ. يُرِيدُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ اقْتُلُوهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ أَخْرِجُوهُ. فَأَطْلَعَ اللهُ تعالى نَبِيَّهُ عَلَى ذَلِكَ، فَبَاتَ عَلِيٌّ عَلَى فِرَاشِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى لَحِقَ بِالْغَارِ، وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ يَحْرُسُونَ عَلِيًّا، يَحْسَبُونَهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أَصْبَحُوا ثَارُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَوْا عَلِيًّا، رَدَّ اللهُ مَكْرَهُمْ، فَقَالُوا: أَيْنَ صَاحِبُكَ هَذَا؟ قَالَ: لاَ أَدْرِي. فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُ، فَلَمَّا بَلَغُوا الْجَبَلَ خُلِّطَ عَلَيْهِمْ، فَصَعِدُوا فِي الْجَبَلِ، فَمَرُّوا بِالْغَارِ، فَرَأَوْا عَلَى بَابِهِ نَسْجَ الْعَنْكَبُوتِ، فَقَالُوا: لَوْ دَخَلَ هَاهُنَا، لَمْ يَكُنْ نَسْجُ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِهِ. فَمَكَثَ فِيهِ ثَلاَثَ لَيَالٍ". والله خير الماكرين من الروايات السابقة نكتشف مدى سذاجة أهل الباطل في حربهم لأهل الحقِّ، فهم يُدَبِّرُون ويُخَطِّطُون، {وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج: 20]، لقد كان الاجتماع السَّرِّيُّ الخطير منقولاً بشكل مباشر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم! وكان مكر الله أعظم بالمشركين، وجاء قرار الهجرة في توقيت لا يُمكن أن يكون عشوائيًّا، إنما حُسِب بدقَّة شديدة ليُجابه مكر المشركين الهزيل. وكان الأمر الإلهي الأول لرسولنا صلى الله عليه وسلم بعد كشف هذا المكر المشرك به هو التوجُّه الكامل له سبحانه بطلب العون والمساعدة على عملية الهجرة، فيكون خروجه من مكة حينئذٍ آمنًا، ويكون دخوله كذلك إلى المدينة آمنًا، ويعرف هو والمؤمنون أن نجاح كل أمر لا يكون إلا بعون الله وتأييده؛ ولذلك نزل من الآيات القرآنية ما يُؤَكِّد هذا المعنى ويُرَسِّخه في النفوس. عَنِ ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ ثمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ؛ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80]. وقال قَتَادَةُ رحمه الله في قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80]: "فَأَخْرَجَهُ اللهُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُخْرَجَ صِدْقٍ، وَأَدْخَلَهُ الْمَدِينَةَ مُدْخَلَ صِدْقٍ". قَالَ: "وَنَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لاَ طَاقَةَ لَهُ بِهَذَا الأَمْرِ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ، فَسَأَلَ سُلْطَانًا نَصِيرًا لِكِتَابِ اللهِ وَحُدُودِ اللهِ، وَلِفَرَائِضِ اللهِ، وَلإِقَامَةِ كِتَابِ اللهِ، وَأَنَّ السُّلْطَانَ عِزَّةٌ مِنَ اللهِ جَعَلَهُ بَيْنَ أَظْهُرِ عِبَادِهِ، وَلَوْلاَ ذَلِكَ لأَغَارَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَأَكَلَ شَدِيدُهُمْ ضَعِيفَهُمْ". وعلى قول قتادة رحمه الله فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُؤْمَر بطلب النجاة في الخروج من مكة ودخول المدينة فقط؛ بل أُمِرَ كذلك بطلب التمكين والسلطان، وأن "السلطان النصير" المطلوب في الآية ليس مجرَّد السلطان الذي ينصرهم في عملية الهجرة، إنما هو السلطان الحقيقي، وهو سلطان الحكم والقوَّة؛ مما يكفل للدعوة بعد ذلك حماية لا تضطر فيها إلى الخروج مرَّة أخرى من مكان إلى مكان. ولا يخفى علينا ما في هذا الدعاء من بثٍّ لروح الأمل في النفوس؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون لا يخرجون من حالة ضعف إلى أضعف منها؛ بل إن هذا الخروج سيُحَوِّل ضعفهم إلى قوَّة، وسيرزقهم السلطان الحقيقي والتمكين.