مباحثات مصرية كينية لتعزيز التعاون النقابي المشترك    "نيويورك تايمز": ترامب ربط سلوك ماسك غير اللائق بال"مخدرات"    أمريكا تدرس دعم مؤسسة "غزة الإنسانية" بنصف مليار دولار    "إذا حدث كذب".. متحدث الزمالك ينشر "حديث" تزامن مع تصريحات زيزو    حمدي فتحي: قرار مشاركتي بكأس العالم جاء بالتنسيق مع الخطيب    «الداخلية» تكشف حقيقة اقتحام منزل سيدة وسرقتها بالجيزة    ليلة من الفن الأصيل تجمع بين فنان العرب محمد عبده والمايسترو هانى فرحات (صور)    «الدبيكي»: نسعى لصياغة معايير عمل دولية جديدة لحماية العمال| خاص    أوكرانيا: أمامنا 12 شهراً لتلبية شروط التمويل الكامل من الاتحاد الأوروبي    اليونسيف: هناك غضباً عالمياً مما يجري في غزة.. واستخدام الجوع سلاحا جريمة حرب    الثلاثاء أم الأربعاء؟.. موعد أول يوم عمل بعد إجازة عيد الأضحى 2025 للموظفين والبنوك والمدارس    سعر الدولار أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية السبت 7 يونيو 2025    «المشكلة في ريبيرو».. وليد صلاح الدين يكشف تخوفه قبل مواجهة إنتر ميامي    حسام المندوه: تعاقدنا مع الرمادي لهذا السبب.. وسنعيد هيكلة الإدارة الرياضية في الزمالك    نتيجة وملخص أهداف مباراة المغرب ضد تونس الودية    محمد الشناوي: الزمالك هو المنافس الحقيقي ل الأهلي وليس بيراميدز    مبالغ خيالية.. إبراهيم المنيسي يكشف مكاسب الأهلي من إعلان زيزو.. وتفاصيل التعاقد مع تركي آل الشيخ    عيار 21 الآن بعد الارتفاع الأخير.. أسعار الذهب اليوم السبت 7 يونيو بالصاغة محليا وعالميا    شديد الحرارة والعظمى في القاهرة 36.. حالة الطقس اليوم    للمسافرين ثاني أيام العيد.. مواعيد قيام القطارات من محطة بنها إلى المحافظات السبت 7 يونيو    سفارة الهند تستعد لإحياء اليوم العالمي لليوجا في 7 محافظات    محاضرة عن المتاحف المصرية في أكاديمية مصر بروما: من بولاق إلى المتحف الكبير    يسرا توجه رسالة إلى تركي آل الشيخ بسبب فيلم «7 Dogs»: نقلة نوعية للسينما    منال سلامة ل"الفجر الفني": لهذا السبب قد أرفض بطولة.. ولا أفكر في الإخراج    دار الإفتاء تكشف آخر موعد لذبح الأضحية    تجارة الخدمات بالصين تسجل نموًا سريعًا في أول أربعة أشهر من عام 2025    أجواء فرحة العيد في حديقة الحرية أول أيام عيد الأضحى| فيديو    وفاة سائق سيارة إسعاف أثناء عمله بمستشفى بني سويف التخصصي    سوزوكي توقف إنتاج سيارتها «سويفت» بسبب قيود التصدير الصينية على المعادن النادرة    المطران فراس دردر يعلن عن انطلاق راديو «مارن» في البصرة والخليج    الكنيسة الإنجيلية اللوثرية تُعرب عن قلقها إزاء تصاعد العنف في الأراضي المقدسة    البابا تواضروس يهاتف بابا الفاتيكان لتهنئته بالمسؤولية الجديدة    تفاعل مع فيديو هروب عجل قفزًا في البحر: «رايح يقدم لجوء لأوروبا»    أخبار × 24 ساعة.. المجازر الحكومية تستقبل أكثر من 9800 أضحية أول أيام العيد    صلى العيد ثم فارق الحياة.. تشييع جنازة صيدلي تعرض لأزمة قلبية مفاجئة في الشرقية    بسبب ماس كهربائي.. السيطرة على حريق نشب في كشك بكرداسة    باختصار.. أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. 42 شهيدا بغزة منذ فجر أول يوم العيد.. انتخابات مبكرة بهولندا في 29 أكتوبر المقبل.. إسقاط مسيرة استهدفت موسكو.. وبوتين يهنئ المسلمين بعيد الأضحى    فيفا يدخل ابتكارات تقنية غير مسبوقة فى كأس العالم للأندية 2025    ولي العهد السعودي: نجاح خدمة ضيوف الرحمن نتيجة جهود الدولة في رعاية الحرمين والمشاعر المقدسة    "الخارجية الفلسطينية" تُرحب برفع عضوية فلسطين إلى "دولة مراقب" في منظمة العمل الدولية    سالى شاهين: كان نفسى أكون مخرجة سينما مش مذيعة.. وجاسمين طه رفضت التمثيل    بصورة مع والدته.. حسن شاكوش يحتفل بعيد الأضحى    اليوم.. فرقة رضا فى ضيافة "هذا الصباح" على شاشة إكسترا نيوز    بمشاركة 2000 صغير.. ختام فعاليات اليوم العالمي للطفل بإيبارشية المنيا    «المنافق».. أول تعليق من الزمالك على تصريحات زيزو    لأصحاب الأمراض المزمنة.. استشاري يوضح أفضل طريقة لتناول البروتين في العيد    أستاذ رقابة على اللحوم يحذر من أجزاء في الذبيحة ممنوع تناولها    احذر من الإسراع في تخزين اللحوم النيئة داخل الثلاجة: أسلوب يهدد صحتك ب 5 أمراض    بعد غياب 5 سنوات، مفاجأة في لجنة تحكيم "ذا فيوس كيدز" الموسم الجديد    زيزو: جمهور الزمالك خذلني وتعرضت لحملات ممنهجة لتشويه سمعتي (فيديو)    حدث في منتصف ليلًا| أسعار تذاكر الأتوبيس الترددي على الدائري.. وموجة حارة بكافة الأنحاء    تفشي الحصبة ينحسر في أميركا.. وميشيغان وبنسلفانيا خاليتان رسميًا من المرض    رئيس الشئون الطبية ب التأمين الصحى يتفقد مستشفيى صيدناوي والمقطم خلال إجازة العيد    مع قرب انتهاء أول أيام عيد الأضحى.. الغرف التجارية: لا داع للقلق السلع متوفرة.. شعبة الخضروات: انخفاض ملحوظ في الأسعار.. المخابز: لا توجد إجازة لتلبية احتياجات المواطنين    أسعار الكتاكيت والبط اليوم الجمعة 6 يونيو 2025    وزير الأوقاف يشهد صلاة الجمعة بمسجد سيدنا الإمام الحسين بالقاهرة    حكم من فاتته صلاة عيد الأضحى.. دار الإفتاء توضح التفاصيل    سنن وآداب صلاة عيد الأضحى المبارك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تفسير الشعراوي للآية 54 من سورة آل عمران
نشر في الفجر يوم 18 - 10 - 2015

قال تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.. [آل عمران : 54].
إن الأشياء التي يدركها العقل هي مسميات ولها أسماء وتكون أولا بالحس؛ لأن الحس هو أول مصاحب للإنسان لإدراك الأشياء، وبعد ذلك تأتي المعاني عندما نكبر ونعرف الحقائق. إن البداية دائما تكون هي الأمور المحسة، ولذلك يقول الله عن المنهج الإيماني: إنه طريق مستقيم، أي أن نعرف الغاية والطريق الموصل إليها، وكلمة (الطريق المستقيم) من الأمور المحسة والتي يتعرف الناس عليها بالتطبيق لقواعد المنهج.
إن كلمة (مكر)، مأخوذة من الشجر، فساعة أن ترى الشجرة التي لا تلتف أغصانها على بعضها فإن الإنسان يستطيع أن يحكم أن ورقة ما، هي من فرع ما، ولكنْ هناك نوع من الأشجار تكون فروعه ملفوفة على بعضها بحيث لا يستطيع الإنسان أن يعرف أي ورقة من أي فرع هي، ومن هذا المعنى أخذنا كلمة (المكر) فالرجل الذي يلف ويدور، هو الذي يمكر، فالذي يلف على إنسان من أجل أن يستخلص منه حقيقة ما، والذي يحتال من أجل إبراز حقيقة، فإن كان ذلك بغير قصد الضرر نسميه حيلة، وإن كان بقصد الضرر فهذا هو المكر السيء. ولذلك فالحق يقول: {وَمَكْرَ السيىء وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأولين فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلاً}.. [فاطر: 43].
ومعنى ذلك أن هناك مكراً غير سيء، أي أن المكر الذي لا يقصد منه إيقاع الضرر بأحد، فإننا نسميه مكرَ خير، أما المكر الذي يقصد منه إيقاع الضرر فهو (المكر السيء). ولنا أن نسأل: ما الذي يدفع إنسانا ما إلى المكر؟ إن الذي يمكر يداري نواياه، فقد يظهر لك الحب بينما هو مبغض، ويريد أن يزين لك عملا ليمكر بك، فيحاول مثلا أن يصحبك إلى مكان بعيد غير مأهول بالناس ويريد أن يوقع بك أبلغ الضرر، وقد يكون القتل.
إذن، فمن أسس المكر التبييت، والتبييت يحتاج إلى حنكة وخبرة، لأن الذي يحاول التبييت قد يجد قبالته من يلتقط خبايا التبييت بالحدس والتخمين، وما دام المكر يحتاج إلى التبييت، فإن ذلك علامة على الضعف في البشر لأن القوي لا يمكر ولا يكيد ولكن يواجه.
إن القوي لحظة أن يمسك بخصم ضعيف، فمن الممكن أن يطلقه، لأن القوي مطمئن إلى أن قوته تستطيع أن تؤذي هذا الضعيف. لكن الضعيف حين يملك قويا، فإنه يعتبر الأمر فرصة لم تتكرر، ولذلك فالشاعر يقول:
وضعيفة فإذا أصابت فرصة قتلت *** كذلك قدرة الضعفاء
إن الضعيف هو الذي يمكر ويبيت. والذي يمكر قد يضع في اعتباره أن خصمه أقوى منه حيلة وأرجح عقلا، وقد ينكل به كثيرا، لذلك يخفى الماكر أمر مكره أو تبييته.
فإذا ما أراد خصوم المنهج الإيماني أن يمكروا، فعلى من يمكرون؟ إن الرسول لا يكون في المعركة بمفرده ولكن معه الله. {يُخَادِعُونَ الله والذين آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ}.. [البقرة: 9].
فالله يعلم ما يبيت أي إنسان، ولذلك فعندما يريد الله أن يبرز شيئا ويوجده فلن يستطيع أحد أن يواجه إرادة الله وأمره، إذن فمكر الله لا قبل لأحد لمواجهته.
{وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين}.. [آل عمران: 54].
وساعة تجد صفة تستبعد أن يوصف بها الله فاعلم أنما جاءت للمشاكلة فقط وليست من أسماء الله الحسنى، إن المؤمنين بإمكانهم أن يقولوا للكافرين: إنكم إن أردتم أن تبيتوا لنا، فإن الله قادر على أن يقلب المكر عليكم، أما أسماء الله وصفاته فهي توقيفية، نزل بها جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن إذا وجد فعل لله لا يصح أن نشتق نحن منه وصفا ونجعله اسما لله، {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين}، فليس من أسماء الله مخادع، أو ماكر، إياك أن تقول ذلك، لأن أسماء الله وصفاته توقيفية، وجاء القول هنا بمكر الله كمقابل لفعل من البشر، ليدلهم على أنهم لا يستطيعون أن يخدعوا الله، ولا يستطيعون أن يمكروا بالله، لأن الله إذا أراد أن يمكر بهم، فهم لا يستطيعون مواجهة ذلك. إن الحق يقول: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين}.
إذن فهناك (مكر خير).. وذلك دليل على أن هناك من يصنع المكر ليؤدي إلى الخير. ولماذا تأتي هذه الآية هنا؟ لأن هناك معركة سيدخلها عيسى ابن مريم عليه السلام، وعيسى عليه السلام لم يجيء ليقاتل بالسيف ليحمي العقيدة، إنما جاء واعظا ليدل الناس على العقيدة، إن النصرة لا تكون بالسيف فقط، ولكن بالحجة. ونحن نعرف أن السماء كانت لا تطلب من أي رسول أن يحارب في سبيل العقيدة لأن السماء هي التي كانت تتولى التأديب. {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.. [العنكبوت: 40].
ولم يجيء قتال إلا حينما طلب بنو إسرائيل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين}.. [البقرة: 246].
ولكن أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي التي أذن الله لها أن تحمل السيف لتؤدب به الذين يحولون دون بلوغ العقيدة الصحيحة للناس.
إن السيف لم يأت ليفرض العقيدة، إنما ليحمي الاختيار في النفس الإيمانية، فبدلا من أن يترك الناس مقهورين على اعتناق عقيدة خاطئة فالمسلمون يرفعون السيف في وجه الظالم القاهر لعباد الله. وعباد الله لهم أن يختاروا عقيدتهم.
ولذلك فعندما يقول اعداء الإسلام: (أن الإسلام انتشر بالسيف). نرد عليهم: إن الله قد بدأ الإسلام بضعف حتى يسقط هذا الاتهام، لقد كان المسلمون الأوائل ضعفاء لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، فيتجه بعضهم إلى الحبشة، ويهاجرون بحثا عن الحماية، فلو كان الإسلام قد انتشر بالسيف فلنا أن نسأل: من الذي حمل أول سيف ليكره أول مؤمن؟ إن المؤمنين رضوا الإسلام دينا وهم في غاية الضعف ومنتهاه. إن الإسلام قد بدأ واستمر وما زال يحيا بقوة الإيمان.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء في أمة أمية، ومن قبيلة لها شوكتها، وشاء الحق ألا ينصر الله دينه بإسلام أقوياء قريش أولا، بل آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم الضعفاء وخاض رسول الله صلى الله عليه وسلم رحلة الدعوة الإيمانية مدة ثلاثة عشر عاما، دعوة للإيمان بالله، ثم هاجر رسول الله إلى المدينة، إلى أن صار كل المسلمين وحدة إيمانية قوية، وارتفع السيف لا ليفرض العقيدة، ولكن ليحمي حرية اختيار الناس للعقيدة الصحيحة. ولو أن الإسلام انتشر بالسيف. فكيف نفسر وجود أبناء لديانات أخرى في البلاد المسلمة؟ لقد أتاح الإسلام فرصة اختيار العقيدة لكل إنسان.
إذن فكل مسلم يمثل وحدة إيمانية مستقلة، وواجب كل مسلم أن يعرف أن الإسلام قد انتشر بالأسوة الحسنة، وأنه كمؤمن بالله وبدين الله، قد اصطفاه الله ليطبق السلوك الإيماني، فقد مكن الله للإسلام في الأرض بالسلوك والقدوة.
إن كل مسلم عليه واجب ألا يترك في سلوكه ثغرة ينفذ منها خصوم الإسلام إلى الإسلام، ذلك أن اختلال توازن سلوك المسلم بالنسبة لمنهج الله هو ثغرة ينفذ منها خصوم الإسلام، ولذلك فالمفكرون في الأديان الأخرى حينما يذهبون إلى الإسلام، ويقتنعون به، إنما يقتنعون بالإسلام لأنه منهج حق. إنهم يمحصونه بالعقل، ويهتدون إليه بالفطرة الإيمانية. أما الذين يريدون الطعن في الإسلام، فهم ينظرون إلى سلوك بعض من المسلمين، فيجدون فيه من الثغرات ما يتهمون به الإسلام.
إن المفكرين المنصفين يفرقون دائما بين العقيدة، ومتبع العقيدة، ولذلك فأغلب المفكرين الذين يتبعون هذا الاتجاه، يلجأون إلى الإسلام ويؤمنون به. ولكن الذين يذهبون إلى الإسلام من جهة أتباعه، فإن صادفوا تابعا للإسلام ملتزما دعاهم ذلك إلى أن يؤمنوا بالإسلام، ولذلك كانت الجمهرة الكثيرة الوفيرة في البلاد الإسلامية المعاصرة في بلاد لم يدخلها فتح إسلامي، وإنما دخلتها الأسوة الإسلامية في أفراد تابعين ملتزمين، فراق الناس ما عليه هؤلاء المسلمون من حياة ورعة، ومن تصرفات مستقيمة جميلة، ومن أسلوب تعامل سمح أمين، نزيه، نظيف، كل ذلك لفت جمهرة الناس إلى الإسلام، وجعلهم يتساءلون: ما الذي جعلكم على هذا السلوك الطيب؟ قالوا: لأننا مسلمون.
وتساءل الناس في تلك المجتمعات: وما معنى الإسلام؟ وبدأ المسلمون يشرحون لهم الإسلام.
إذن، فالذي لفت إلى الإسلام هو السلوك المنهجي الملتزم، ولذلك فالحق سبحانه وتعالى حين يعرض منهج الدعوة الناجحة يقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المسلمين}.. [فصلت: 33].
والدعوة إلى الله تكون باللسان والعمل الصالح، ليدل المؤمن على أن ما يدعو إليه غيره قد وجده مفيدا فالتزمه هو، فالعمل الصالح هو شهادة للدعوة باللسان، ولا يكتفي المؤمن بذلك، إنما يعلن ويقول: {إِنَّنِي مِنَ المسلمين} يقول ذلك لمن؟ يقوله لمن يرونه على السلوك السمح الرضى الطيب. إنها لفتة من ذاته إلى دينه.
إن هذا يفسر لنا كيف انتشر الإسلام بوساطة جماعة من التجار الذين كانوا يذهبون إلى كثير من البلاد، وتعاملوا مع الناس بأدب الإسلام، وبوقار الإسلام، وبورع الإسلام، فصار سلوكهم الملتزم لافتا، وعندما يسألهم القوم عن السر في سلوكهم الملتزم، ويقول الإنسان منهم: أنا لم أجيء بذلك من عندي ولكن من اتباعي لدين الله الإسلام.
ومثال ذلك في السلوك الأسوة: المسلمون الأوائل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد كان صحابته رضوان الله عليهم يخافون عليه من خصومه، فكانوا يتناوبون حراسته، ومعنى تناوب الحراس أنهم أرادوا أن يكونوا المصد للأخطار يتداولون ذلك فيما بينهم. وأراد الحق سبحانه أن يهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة خفية، ونام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه مكان الرسول صلى الله عليه وسلم. لقد أراد علي- كرم الله وجهه- أن يكون هو المصد، فإذا جاء خطر فإنه هو الذي يصده.
لا شك أنه كان يفعل ذلك لأنه واثق أن بقاء الرسول صلى الله عليه وسلم خير للإسلام حتى ولو افتداه بروحه. هذا هو التسامى العالي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان الواحد منهم يحب الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الأسوة بالرسول واتباع دين الله إنّما يعود ذلك عليه بالخير العميم. وعندما يموت واحد منهم في سبيل المحافظة على من أرسله الله رسولا ليبلغ دعوته فقد نال الشهادة في سبيل الله.
هذا هو أبو بكر الصديق رضوان الله عليه مع رسول الله في الغار. ألم يجد الصديق شقوقا فيمزع من ثيابه ليسد الشقوق؟ ألم يضع قدمه في شق لأنه يخشى أن تجيء حشرة من الحشرات قد تؤذي حضرة النبي صلى الله عليه وسلم؟ لقد أراد أن يحافظ على الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ولو افتداه، وهذه شهادة بأن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنوا بأن بقاء الرسول خير لهم وللإيمان ولنفوسهم من بقائهم هم أنفسهم.
وهكذا أراد الله نصرة رسوله على الكفار، عندما مكروا وبيتوا أن يقتلوه قبل الهجرة، وهكذا أراد الله نصر رسوله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة عندما واجه أعداء الإسلام في القتال، لقد مكروا، ولكن الله خير الماكرين.
وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول بهذا النصر من الله: لن تستطيعوا أن تقاوموا محمدا لا بالمواجة ولا بالتبييت. وها هو ذا تابع من أتباعه صلى الله عليه وسلم هو سيدنا عمر رضي الله عنه يهاجر علنا، ويقول: من أراد أن تثكله أمه، أو ترمل زوجته، أو ييتم ولدُه، فليلقني وراء هذا الوادي. بينما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم خفية.
لماذا؟ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة للضعيف. إن القوى يستطيع حماية نفسه ويخرج إلى الهجرة مجاهرا. أما الضعيف فلابد أن يهاجر خفية؛ لذلك فالأسوة للضعيف كانت في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد مكر أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الله مكر بهم. {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال}.. [إبراهيم: 46].
إن مكرهم رغم عنفه وشدته والذي قد يؤدي إلى زوال الجبال، هذا المكر يبور عند مواجهته لمكر الله الذي يحمى رسله وعباده الصالحين. لقد جاء مكر بني إسرائيل وأنزل فيه الله قوله الحكيم: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين}. لأنهم أرادوا أن يتخلصوا من سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام. فقال الحق سبحانه: {إِذْ قَالَ الله ياعيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ...}.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.