وزير الري يشارك في الاحتفال بمرور 50 عامًا على البرنامج الهيدرولوجي الدولي لليونسكو    محافظ الدقهلية يتابع نتائج لجان المرور على المنشآت الصحية بمركزي المطرية والمنزلة    وزير الري: لا مساس بنقطة مياه مصرية    دمياط: فصل المياه في بعض المناطق منتصف الليل حتى الثامنة صباحا    ننشر قائمة الدول المشاركة في قمة شرم الشيخ للسلام بحضور قادة أكثر من 20 دولة    كييف تعلن إسقاط 103 طائرات مسيرة روسية خلال الليل    باكستان تغلق نقاط عبور حدودية مع أفغانستان في ظل اشتباكات عنيفة    مصر تدين الهجوم على مركز لإيواء النازحين بمدينة الفاشر السودانية    طائرة نيجيريا تتعرض لحادث في ظروف غامضة    محمد صبحي يفوز ببرونزية وزن 88 كجم ببطولة العالم لرفع الأثقال البارالمبي بالعاصمة الإدارية    تقرير.. ليفاندوفسكي يغلق بابه أمام اللعب في الدوريات العربية    جاكبو يقود تشكيل منتخب هولندا ضد فنلندا في تصفيات كأس العالم 2026    ضبط شخص يروج لبيع أدوات تستخدم فى الأعمال المنافية للآداب عبر مواقع التواصل الاجتماعى    تأجيل محاكمة المتهمين بقتل تاجر الذهب في البحيرة لجلسة 10 نوفمبر    الخريف.. موسم الانتقال والحنين بين دفء الشمس وبرودة النسيم    تأجيل محاكمة 56 متهما بنشر أخبار كاذبة    تأجيل إستئناف المتهم الثاني ب " أحداث ميدان لبنان " ل 8 نوفمبر    مهرجان القاهرة السينمائي يكرم المخرجة المجرية إلديكو إنيدي بجائزة الهرم الذهبي في دورته ال46    على الصعيد المهنى والعاطفى.. حظك اليوم وتوقعات الأبراج الأحد 12 أكتوبر    فى أول زيارة منذ انتخابه مديرا عاما لليونسكو.. وزير الخارجية يستقبل خالد العناني    روبي تشعل باريس وتعلن نفاد تذاكر حفلها قبل إنطلاقه بساعات    قبل عرض أولى بطولاته.. أبرز أعمال أحمد صلاح حسني في السينما والتلفزيون    منذ الألفية الثانية قبل الميلاد.. إفلاطون بنار بتركيا يتحدى الجفاف    رئيس منطقة مطروح الأزهرية يكرم الطالبة هاجر إيهاب فهمي لتفوقها في القرآن والخريدة البهية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم 12-10-2025 في محافظة الأقصر    نائب وزير الصحة يحيل إدارة مستشفى الأحرار التعليمي بالشرقية للتحقيق ويوجه بإجراءات عاجلة    نائب وزير الصحة يترأس اجتماعا للإعداد للنسخة 3 من المؤتمر العالمي للسكان والصحة والتنمية البشرية    الخريف موسم الانتقال... وصراع المناعة مع الفيروسات الموسمية    رئيس جامعة بنها ووكيل الأزهر يفتتحان ندوة "الإيمان أولا"    بعد قرار الرئيس، هل يختلف نائب الشيوخ المنتخب عن المعين؟    قافلة دعوية برعاية «أوقاف مطروح» تجوب مدارس الحمام لتعزيز الانتماء ومحاربة التنمر والتعصب    ما حكم زيارة مقامات الأنبياء والأولياء والصالحين؟ الإفتاء تفسر    وزير الدفاع يشهد تخريج دفعات جديدة من الكليات العسكرية (صور)    شعبة القصابين: تراجع شراء اللحوم 20%.. والجزارون يتجهون لفتح مطاعم لبيع «الحواوشي»    «يونيفيل» تعلن إصابة أحد عناصرها بقنبلة إسرائيلية في جنوب لبنان    "إي آند مصر" تطلق مبادرة "صحة مدارسنا"    سويلم يلتقى نائب وزير البيئة والزراعة السعودى ضمن فعاليات أسبوع القاهرة الثامن للمياه    "سلامة الغذاء" تنفذ 51 مأمورية رقابية على السلاسل التجارية في أسبوع    آلاف المتظاهرين يخرجون إلى شوارع العواصم الأوروبية دعمًا للشعب الفلسطينى    رام الله: مستوطنون يقتحمون خربة سمرة بالأغوار الشمالية    إصابة 5 فى تصادم سيارة ملاكى وتوك توك وتروسكيل بطريق برج نور أجا بالدقهلية    هانى العتال عن تعيينه فى مجلس الشيوخ: شرف كبير أنال ثقة الرئيس السيسي    ختام جولة مشروع "المواجهة والتجوال" بمحافظة جنوب سيناء.. صور    الضرائب: الفاتورة الالكترونية والإيصال الإلكتروني شرط أساسي لإثبات التكاليف ورد ضريبة القيمة المضافة    محافظ المنوفية يدشن فعاليات المبادرة الرئاسية للكشف عن فيروس سي بمدرسة المساعي الجديدة بنات بشبين الكوم    تنفيذ ورش تدريبية مجانية لدعم الحرف اليدوية للمرأة في الأقصر    الرئيس السيسى يتابع مع شركة أباتشى الموقف الاستكشافى للمناطق الجديدة    الداخلية تضبط أكثر من 106 آلاف مخالفة مرورية في 24 ساعة    وزير الصحة يشهد حفل توزيع جائزة «فيركو» للصحة العامة في ألمانيا    رحيل فارس الحديث النبوى أحمد عمر هاشم.. مسيرة عطاء فى خدمة السنة النبوية    مدارس التكنولوجيا تعيد رسم خريطة التعليم الفنى    مصر تتسلم رئاسة المنظمة الدولية للتقييس "أيزو" لمدة 3 أعوام بعد فوز مشرف ومستحق    ترشيح هذه الفنانة للوقوف أمام محمد فراج في أب ولكن    سفارة قطر بالقاهرة تعرب عن بالغ حزنها لوفاة ثلاثة من منتسبي الديوان الأميري في حادث    تركيا تكتسح بلغاريا بسداسية مدوية وتواصل التألق في تصفيات كأس العالم الأوروبية    نجم الأهلي السابق: توروب سيعيد الانضباط للأحمر.. ومدافع الزمالك «جريء»    استبعاد معلمي الحصة من حافز ال 1000 جنيه يثير الجدل.. خبير تربوي يحذر من تداعيات القرار    خالد جلال: جون إدوارد ناجح مع الزمالك.. وتقييم فيريرا بعد الدور الأول    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في هجرة أبي بكر الصديق
نشر في الفجر يوم 13 - 10 - 2015

قصة هجرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه منفردًا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم قصة غريبة، وتحتاج إلى دراسةٍ وفِقْهٍ، ولنقرأ القصة أولاً كما روتها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ثم نذكر تفسير هذه الهجرة العجيبة، ونأخذ منها بعض الدروس والعبر.
قصة هجرة أبي بكر الصديق
تقول عائشة رضي الله عنها: "لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلاَّ يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَرَفَيِ النَّهَارِ، بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، فَلَمَّا ابْتُلِيَ المُسْلِمُونَ، خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ الحَبَشَةِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ، وَهُوَ سَيِّدُ القَارَةِ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي، فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الأَرْضِ، فَأَعْبُدَ رَبِّي. قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: إِنَّ مِثْلَكَ لاَ يَخْرُجُ وَلاَ يُخْرَجُ، فَإِنَّكَ تَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، وَأَنَا لَكَ جَارٌ، فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبِلاَدِكَ.
فَارْتَحَلَ ابْنُ الدَّغِنَةِ، فَرَجَعَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَطَافَ فِي أَشْرَافِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلاً يُكْسِبُ المَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ. فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةِ، وَآمَنُوا أَبَا بَكْرٍ، وَقَالُوا لاِبْنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ، فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَلْيُصَلِّ، وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ، وَلاَ يُؤْذِينَا بِذَلِكَ، وَلاَ يَسْتَعْلِنْ بِهِ، فَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا. قَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لأَبِي بَكْرٍ، فَطَفِقَ أَبُو بَكْرٍ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَلاَ يَسْتَعْلِنُ بِالصَّلاَةِ، وَلاَ القِرَاءَةِ فِي غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لأَبِي بَكْرٍ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَبَرَزَ، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَقْرَأُ القُرْآنَ، فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ المُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ، يَعْجَبُونَ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلاً بَكَّاءً، لاَ يَمْلِكُ دَمْعَهُ حِينَ يَقْرَأُ القُرْآنَ.
فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَإِنَّهُ جَاوَزَ ذَلِكَ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَأَعْلَنَ الصَّلاَةَ وَالقِرَاءَةَ، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، فَأْتِهِ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلاَّ أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ، فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ، فَإِنَّا كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ، وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لأَبِي بَكْرٍ الاِسْتِعْلاَنَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّ إِلَيَّ ذِمَّتِي، فَإِنِّي لاَ أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ العَرَبُ، أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ، وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللهِ. وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ".
إن محاولة الصديق رضي الله عنه الهجرة إلى الحبشة لمن الأمور العظام التي تحتاج منَّا إلى وقفة وتحليل؛ خاصة أنه يُهاجر منفردًا تاركًا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، وهذا موقف نادر حيث إننا نعرف ملازمة الصديق لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كل مواقف الإسلام تقريبًا من أول لحظات البعثة، وإلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولنا على هذا الموقف هذه التعليقات.
هجرة الصديق وقفات وتعليقات
أولاً: كانت هجرة الصديق رضي الله عنه قريبة من هجرة المسلمين إلى المدينة، وبعد زمن هجرة الحبشة الثانية، التي كانت في أوائل العام الحادي عشر من البعثة، وحيث إن وطأة الأذى في العام الحادي عشر من البعثة كانت قد رُفِعَت نسبيًّا عن المسلمين لوقوع القحط بمكة، فيُتَوَقَّع أن تكون محاولة الصديق رضي الله عنه للهجرة في العام الثاني عشر أو الثالث عشر من البعثة، عندما عاد المشركون إلى إيذاء المسلمين بعد نزول المطر، ورفع القحط؛ قال تعالى: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15].
ولقد رأينا في قصة هجرة الصديق رضي الله عنه إلى الحبشة أن جوار ابن الدغنة قد رُفِع بعد قليل من إعلان الصديق رضي الله عنه للصلاة؛ ومن ثَمَّ صار الصديق رضي الله عنه غير آمن مرَّة ثانية، ولا أتوقَّع أنه بقي بعد رفع الجوار مدَّة طويلة في مكة؛ لأننا لم نسمع عن مضايقات له؛ مما يجعل هجرته رضي الله عنه إلى المدينة قريبة من رفع جوار ابن الدغنة، وهذا كله يجعلني أميل إلى أن الصديق رضي الله عنه حاول الهجرة في أوائل العام الثالث عشر من البعثة، فأجاره ابن الدغنة عدَّة شهور، ثم بنى الصديق رضي الله عنه مسجده، وأعلن صلاته، فرفع ابن الدغنة جواره، فمكث أبو بكر رضي الله عنه قليلاً، ثم قرَّر في ذي القعدة من السنة نفسها الهجرة إلى المدينة، لولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم استبقاه أربعة أشهر ليُهاجر في صحبته غرة ربيع الأول من العام الرابع عشر من البعثة.
ثانيًا: محاولة الصديق رضي الله عنه الهجرة إلى الحبشة بمفرده دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مستغرب؛ لأننا لا نتصوَّر قبوله رضي الله عنه للحياة بعيدًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدَّة أيام، فضلاً عن الشهور والسنوات غير المعروفة؛ بل إن الرواية ذاتها تذكر فيها عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور أبا بكر مرَّتين كل يوم! مرَّة في الصباح ومرَّة في المساء، فهذا يدلُّ على شدَّة القرب، وقوَّة العلاقة، فما الذي دعا أبا بكر إلى الخروج وترك مكة، مع أن حمزة وعمر رضي الله عنهما وآخرين لم يهاجروا؟
الذي يبدو لي في هذه المسألة أن أبا بكر رضي الله عنه كان مُهدَّدًا بالقتل بشكل حقيقي وصريح؛ وذلك لأنه من أقدر المسلمين على دعوة الآخرين للإسلام، وإنتاجه في الدعوة معروف، وهو رجل رقيق المشاعر، وحافظ للقرآن، وعالم بالإسلام، فهذا كله يجعل كلماته تصل إلى قلوب الناس أسرع، كما أنه الداعم الأول والأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد المشركون أن يلجئوا إلى حلول حاسمة لمقاومة هذا الدين الجديد، وكان من هذه الحلول قتل الدِّعامات الرئيسية له، وبالتالي تجفيف المنابع الأصلية للإسلام، وقد كان قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم صعبًا لإجارة المطعم بن عدي له.
ولكون الصدام مع بني هاشم غير مأمونٍ، حتى لو ظهر من بني هاشم أنها تخلَّت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان قتل الصديق رضي الله عنه حلاًّ متوسطًا؛ حيث إنه سيوصل رسالة قوية للمسلمين ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الوقت نفسه لن يُؤَدِّيَ إلى أزمة كبيرة في مكة؛ لأن بني تيم قبيلة الصديق رضي الله عنه قبيلة ضعيفة نسبيًّا، ولن تقوى على مجابهة مكة بكاملها، فكان التلويح أو التصريح بقتل الصديق رضي الله عنه، الذي يُؤَكِّد ذلك أن ابن الدَّغِنَة عندما أجار الصديق رضي الله عنه طاف على كفار قريش يُعلمهم بجواره، فتقول عائشة رضي الله عنها: "وَآمَنُوا أَبَا بَكْرٍ". فمعنى هذا أنه لم يكن آمنًا على نفسه قبل هذا الجوار، ويُؤَكِّد هذا -أيضًا- أن الكفار سيُحاولون قتل كلٍّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه عند سعيهما إلى الهجرة إلى المدينة.
ومن هنا فخروج أبي بكر للحبشة كان حتميًّا لحمايته من القتل، وللحفاظ على هذا الكنز الدعوي الكبير، ولعله من المحتمل أن يكون اختيار أبي بكر للحبشة كي يُهاجر إليها، وعدم اختياره ليثرب كما فعل أبو سلمة رضي الله عنه راجعٌ إلى أن توافر عوامل الآمان لحماية الصديق رضي الله عنه في الحبشة سيكون أكبر بكثير من توافرها له في يثرب؛ حيث إنه في الحبشة سيكون في حماية ملكها العادل النجاشي؛ خاصة أن العلاقات المتأزِّمة بين مكة والحبشة ستمنع مشركي مكة من محاولة التفاوض مع النجاشي لإيذاء أبي بكر رضي الله عنه أو التعرُّض له؛ ولكن الأمر في يثرب ما زال محفوفًا بالمخاطر؛ لسهولة تواصل زعماء مكة المشركين مع مشركي يثرب؛ مما يجعل حياة الصديق رضي الله عنه بها غير آمنة؛ وذلك على الأقل في هذه المرحلة، حيث ما زالت شوكة المسلمين ضعيفة.
وعلى كل حال فالصديق رضي الله عنه لن يستكين في الحبشة؛ بل سيقضي وقته في تعليم الصحابة الدين، وقد يقوم -بما له من ملكات- بدعوة أهل الحبشة للإسلام، فكانت هجرته ضرورية في هذا التوقيت، ولعلَّ هذه التضحية بترك الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة لمن أكبر التضحيات في حياة الصديق رضي الله عنه؛ فإنَّه ما أحبَّ أحدًا في حياته قدر حُبِّه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثالثًا: من أعظم مناقب الصديق رضي الله عنه قاطبة أنه وُصِف بأوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الصورة العجيبة التي رأيناها؛ فقد وصف ابنُ الدَّغِنَة أبا بكر رضي الله عنه بالأوصاف نفسها التي وصفت بها خديجة رضي الله عنها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك على غير اتفاق بينهما، ولم يوصف بهذه الصفات مجتمعة أحد غيرهما حتى نقول. إنَّ هذه الصفات كانت تُجْمَع للأشراف الكرماء. إنما كان اجتماع هذه الصفات في شخص واحد أمرًا فريدًا في هذا المجتمع، ولعلَّ هذا الذي يُفَسِّر لنا الدرجة العالية التي وصل إليها الصديق رضي الله عنه في ميزان الإسلام؛ فالرجل كان يُقَدِّم ما لا يُقَدِّمه غيره، ويفعل ما لا يستطيع أحدٌ أن يُنافسه فيه.
رابعًا: يُؤَكِّد قبول الصديق رضي الله عنه لجوار ابن الدَّغِنَة أنه ليس هناك مانع من قبول حماية المشرك ما دام أن هذا لا يصحبه تنازل في الدين؛ ومع ذلك فالمسلم قد يردُّ هذه الإجارة إذا شعر أنها تُضَيِّق عليه فرص العمل لله تعالى وتُضَيِّع عليه بعض الفرص التي قد تُحَقِّق مكتسبات للإسلام، وفي هذا الموقف يبدو أن الصديق رضي الله عنه قد شعر بشيء من الهدوء النسبي في مكة يسمح له بالدعوة دون أن يتعرَّض لأذى، أو أن احتمال وقوع الأذى بعيدٌ، ولهذا ردَّ جوار ابن الدغنة بعد أن رأى الثمار الإيجابية لقراءته للقرآن في مسجده، وأنا أعتقد أنه لو كان الصديق رضي الله عنه يشعر بإمكانية حدوث الأذى الشديد له في هذه المرحلة ما ردَّ جوار ابن الدغنة، ولا قَبِل له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغامر بنفسه؛ خاصة أنه كان منذ شهور ينوي ترك الساحة بأكملها والهجرة إلى الحبشة.
خامسًا: وضَّح لنا هذا الموقف طريقة تفكير المشركين والصادِّين عن دين الله بشكل عامٍّ؛ فهم لا يُمانعون أن تعبد ما تُريد بعيدًا عن أعين الناس؛ ولكنهم لا يُريدون مطلقًا للدعاة أن "يستعلنوا" بدعوتهم هذه وسط العامَّة؛ لأنهم يُدركون على وجه اليقين أن حجَّة الله بالغة، وأن الإسلام دين الفطرة، وأن الذي يسمع عنه بذهن صافٍ سيقبله؛ بل وسيصير من أشدِّ المدافعين عنه، وهذا يُثبت -بما لا يدع مجالاً للشكِّ- أن أعداء الإسلام يُدركون أن منطقهم في حرب الإسلام غير مقبول عندهم أنفسهم، وأنهم يعلمون ضعف موقفهم، وقوَّة موقف أهل الإسلام؛ بل إنهم يخافون ويرتعبون عند سماع مسلم يتكلم عن الإسلام وشريعته.
وما أبلغ الوصف الذي ذكرته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي تشرح حالة المشركين عند معرفتهم بقراءة أبي بكر رضي الله عنه للقرآن في فناء داره؛ قالت عائشة رضي الله عنها: "فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ المُشْرِكِينَ"! إلى هذه الدرجة تبلغ قوَّة كلمات الله، وإلى هذه الدرجة يبلغ ضعف الظالمين! وهذا البون الشاسع بين الفريقين من المفترض أن يُطمئِن قلوب الدعاة، ويُثَبِّت أقدامهم، وكما قال الله عز وجل واصفًا نفسيات الصادِّين عن سبيل الله: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].
سادسًا: في هذا الموقف رأينا ابتكار الداعية للوسائل التي يمكن أن يصل بها إلى الناس، ورأينا الرجل الذي يعيش لأُمَّتِه ودينه كيف تكون صورته وهيئته؛ فالصديق رضي الله عنه في هذه القصة كان عند رجوعه إلى مكة يقرأ القرآن في بيته، ومع أن الخشوع الذي يُريده كان يتحقَّق، ومع أن الحسنات التي يتمنَّاها من الله تعالى كان يحصل عليها، فإنه لم يكن راضيًا تمام الرضا! لماذا؟ لأنه كان بمعزل عن الناس!
والناسُ حيارى يحتاجون إلى مَنْ يأخذ بأيديهم، وهو لا يطيق أن يستمتع بمفرده بهذه الآيات الكريمات من القرآن الكريم؛ ففكَّر في حيلة تُوصِل دعوته إلى الناس، فبنى مسجدًّا في فناء بيته، والمقصود بالمسجد هنا هو أنه نظف ورتَّب مكانًا معينًا للصلاة، يُصَلِّي فيه خارج إطار البيت، وليس المقصود أنه مكان جامع، فلم يكن يأتي أحد للصلاة معه في هذا المكان؛ لكنه كان يقف فيه وحيدًا، يرفع صوته بالقرآن الكريم، خاشعًا باكيًا متذللاً لله عز وجل،فكان صوته العذب يجذب النساء والشباب، فيجتمعون متدافعين عليه، متعجِّبين من جمال ما يقول، ومن حلاوة قراءته وطريقته، وكما تقول الرواية: "فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ المُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ، يَعْجَبُونَ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ". فكانت هذه وسيلة جديدة للدعوة، أشعرتنا بشدَّة الضيق الذي كان يُعاني منه الصديق رضي الله عنه عندما كان يتلو القرآن بعيدًا عن الناس، وقد مُنِع من دعوته، أما الآن فقد رُدَّت له الحياة عندما مارس هذه الدعوة من جديد، وهو لم يخالف ما اتَّفق عليه مع ابن الدَّغِنَة؛ إذ إنه ما زال داخل حدود داره، ولم يخرج إلى شوارع مكة أو أنديتها.
سابعًا: أقرب القلوب إلى الدعوات الصالحة هي القلوب الرقيقة؛ لأن الإسلام دين يُخاطب الفطرة السوية، وهو دين الأخلاق الحميدة، والخصال الكريمة، ودين التلطُّف والجمال والأدب والرقَّة؛ ولذلك تجد أن النساء يتأثَّرْنَ كثيرًا بخطابه، وكذلك الشباب في مقتبل العمر، فهم -على الأغلب- لم يتلوَّثوا بعدُ بمصالح الدنيا التي تُقَسِّي القلوب؛ بل تُميتها أحيانًا، وهي رسالة إلى الدعاة أن يصرفوا الجانب الأكبر من دعوتهم في هذا الاتجاه، وليس معنى هذا ترك الشيوخ دون دعوة؛ ولكنه الحديث عن الأعمِّ والأشمل.
كانت هذه قصَّة هجرة الصديق رضي الله عنه، وبعض ما فيها من دروس وعِبَر، ولقد عَلِم الله سبحانه ما في قلب الصديق رضي الله عنه من حُبٍّ لرسول لله صلى الله عليه وسلم فلم يُرِدْ أن يفجعه بفراقٍ طويل له، فكانت هذه القصَّة، وعاد اللقاء متجدِّدًا بين الصديقين العظيمين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.