بسبب استمرار تجدد النيران في سنترال رمسيس.. شعبة المخابز: احتمالية تعطل الشبكة وإجراءات بديلة لصرف الخبز    اتحاد بنوك مصر: البنوك ستعمل بشكل طبيعي اليوم الثلاثاء رغم التأثر بحريق سنترال رمسيس    وزير العمل: صرف نحو 23 مليون جنيه كتعويضات للعمالة غير المنتظمة في 2024    على خلفية حريق سنترال رمسيس.. غرفة عمليات ب «صحة قنا» لمتابعة تداعيات انقطاع شبكات الاتصالات    حذر وتأثير نفسي، توقعات محتملة لأداء السوق اليوم في ظل أزمة حريق سنترال رمسيس    سعر الفراخ البيضاء والساسو وكرتونة البيض الأبيض والأحمر بالأسواق اليوم الثلاثاء 8 يوليو 2025    انخفض 20 جنيهًا.. سعر عيار 21 الآن بعد آخر تراجع في سعر الذهب اليوم الثلاثاء 8 يوليو 2025؟    سعر الدولار الآن امام الجنيه والعملات العربية والأجنبية قبل بداية تعاملات الثلاثاء 8 يوليو 2025    ترامب: سنفرض رسوم جمركية بنسبة 25% على الواردات من كوريا الجنوبية واليابان    إعلام عبري: مقتل 5 جنود إسرائيليين وإصابة 20 آخرين بهجوم في بيت حانون    استشهاد 16 فلسطينيا في غارات الاحتلال على النصيرات وغزة    أهم الأخبار العربية والعالمية حتى منتصف الليل.. الكرملين ردا على ترامب: التعاون داخل البريكس ليس موجها ضد أطراف ثالثة.. إيران: طهران قادرة على إطلاق الصواريخ لعامين بلا توقف.. إسرائيل تجري مناورات بالجولان    معادلات أمريكية جديدة في البحر الأحمر.. بين الأخطار والتداعيات    سنرددها ألف مرة.. المفتي: «المسجد الأقصى حقٌّ إسلاميٌّ خالص لا يقبل القسمة ولا المساومة»    قوات الاحتلال تضرم النيران في منزل داخل مخيم نور شمس شرق طولكرم    المجلس الوطني الفلسطيني: هدم الاحتلال للمنازل في طولكرم جريمة تطهير عرقي    أرقام لويس دياز مع ليفربول بعد صراع برشلونة وبايرن ميونخ لضمه    صفقة تبادلية تدور في الأفق بين الزمالك وسموحة    الجهاز الفني لمنتخب مصر تحت 16 سنة يُقيم أداء 36 محترفًا    موعد مباراة تشيلسي اليوم أمام فلومينينسي في نصف نهائي كأس العالم للأندية والقنوات الناقلة    «درجة تانية».. سيف زاهر يكشف رحيل نجم الزمالك للدوري السعودي    وليد صلاح: بقاء عبد الله السعيد في الزمالك ضروري.. ولا أؤيد اعتزال شيكابالا    محترف الزمالك يرغب في الرحيل عن النادي.. الغندور يكشف التفاصيل    في حريق سنترال رمسيس.. وجميع الحالات مستقرة    لقطات جديدة ترصد آخر تطورات محاولات إطفاء حريق سنترال رمسيس (صور)    احذروا الشبورة.. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الثلاثاء 8 يوليو 2025    إجراءات استباقية من البورصة بعد حريق سنترال رمسيس وخبير يكشف التأثير    «إسعاف البحر الأحمر» يخصص أرقامًا بديلة لتلقي البلاغات بعد حريق سنترال رمسيس    الأقصر تعلن عن خطوط بديلة لتعطل الخط الساخن 123    مصدر حكومي: إنستا باي يعمل بكفاءة.. وتأثر بعض خدمات البنوك بسبب حريق سنترال رمسيس    إصابة شقيقين فى حادث تصادم جرار زراعى وسيارة ملاكى بالغربية    انطلاق فعاليات معرض مكتبة الإسكندرية الدولي للكتاب في دورته ال 20.. المعرض بمشاركة 79 دار نشر مصرية وعربية.. 215 فعالية ثقافية على هامش المهرجان ل 800 محضر.. خصومات تصل إلى 30%.. فيديو وصور    محمد على رزق: «اكتسبت وزنًا من أجل منعم في فات الميعاد»    تساؤلات داخلية وخوف من الوحدة.. توقعات برج الحمل اليوم 8 يوليو    بعض التحديات في الأمور المادية والمهنية.. حظ برج الجدي اليوم 8 يوليو    جمال عبد الحميد: دخلت السينما وسط تهافت المنتجين.. واعتزلت فجأة بعد خطبة جمعة    عماد الدين حسين: العلاقات المصرية الصومالية تاريخية وجرى ترفيعها لآفاق الشراكة الاستراتيجية    عمرو أديب عن أزمة مها الصغير: سرقة غبية.. ومش عاوز حد يبررلها اللي حصل    أهم طرق علاج دوالي الساقين في المنزل    الدكتورة لمياء عبد القادر مديرًا لمستشفى 6 أكتوبر المركزي (تفاصيل)    لعلاج الألم وتخفيف الالتهاب.. أهم الأطعمة المفيدة لمرضى التهاب المفاصل    عاجل- المصرية للاتصالات تخرج عن صمتها: حريق سنترال رمسيس فصل الخدمة عن الملايين.. وقطع الكهرباء كان ضروريًا    السعيد غنيم : مشاركتنا في القائمة الوطنية تأكيد على دعم الدولة ومؤسساتها الدستورية    رتوش أخيرة تفصل الزمالك عن ضم مهاجم فاركو وحارس الاتحاد    أطعمة قدميها لأسرتك لحمايتهم من الجفاف في الصيف    مدارس البترول 2025.. الشروط والأوراق المطلوبة للتقديم    انطلاق مهرجان جرش 23 يوليو بمشاركة كبيرة لنجوم الغناء    مسؤول ب«الأمومة والطفولة»: نزع الطفل من أسرته لحمايته والردع مستمر فى مواجهة العنف الأسر    أول سيدة تتقدم للترشح على مقعد الشيوخ بالفيوم في ثالث أيام فتح باب التقديم    رئيس جامعة كفر الشيخ يشهد حفل تخريج الدفعة 55 بكلية الزراعة    تعليم الوادي الجديد تعتمد جدول امتحانات الدور الثاني للصف السادس الابتدائي    "جبالي": الحكومة تسحب مشروع قانون تنظيم المراكز الطبية المتخصصة    وفقا للحسابات الفلكية.. تعرف على موعد المولد النبوي الشريف    نجاح إجراء جراحة معقدة لإصلاح تشوه نادر بالعمود الفقري لطفلة 12عاما بزايد التخصصي    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : الفساد صناعة ?!    (( أصل السياسة))… بقلم : د / عمر عبد الجواد عبد العزيز    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : حالة شكر.""؟!    نشرة التوك شو| الحكومة تعلق على نظام البكالوريا وخبير يكشف أسباب الأمطار المفاجئة صيفًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في هجرة أبي بكر الصديق
نشر في الفجر يوم 13 - 10 - 2015

قصة هجرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه منفردًا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم قصة غريبة، وتحتاج إلى دراسةٍ وفِقْهٍ، ولنقرأ القصة أولاً كما روتها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ثم نذكر تفسير هذه الهجرة العجيبة، ونأخذ منها بعض الدروس والعبر.
قصة هجرة أبي بكر الصديق
تقول عائشة رضي الله عنها: "لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلاَّ يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَرَفَيِ النَّهَارِ، بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، فَلَمَّا ابْتُلِيَ المُسْلِمُونَ، خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ الحَبَشَةِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ، وَهُوَ سَيِّدُ القَارَةِ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي، فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الأَرْضِ، فَأَعْبُدَ رَبِّي. قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: إِنَّ مِثْلَكَ لاَ يَخْرُجُ وَلاَ يُخْرَجُ، فَإِنَّكَ تَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، وَأَنَا لَكَ جَارٌ، فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبِلاَدِكَ.
فَارْتَحَلَ ابْنُ الدَّغِنَةِ، فَرَجَعَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَطَافَ فِي أَشْرَافِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلاً يُكْسِبُ المَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ. فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةِ، وَآمَنُوا أَبَا بَكْرٍ، وَقَالُوا لاِبْنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ، فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَلْيُصَلِّ، وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ، وَلاَ يُؤْذِينَا بِذَلِكَ، وَلاَ يَسْتَعْلِنْ بِهِ، فَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا. قَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لأَبِي بَكْرٍ، فَطَفِقَ أَبُو بَكْرٍ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَلاَ يَسْتَعْلِنُ بِالصَّلاَةِ، وَلاَ القِرَاءَةِ فِي غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لأَبِي بَكْرٍ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَبَرَزَ، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَقْرَأُ القُرْآنَ، فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ المُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ، يَعْجَبُونَ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلاً بَكَّاءً، لاَ يَمْلِكُ دَمْعَهُ حِينَ يَقْرَأُ القُرْآنَ.
فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَإِنَّهُ جَاوَزَ ذَلِكَ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَأَعْلَنَ الصَّلاَةَ وَالقِرَاءَةَ، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، فَأْتِهِ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلاَّ أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ، فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ، فَإِنَّا كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ، وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لأَبِي بَكْرٍ الاِسْتِعْلاَنَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّ إِلَيَّ ذِمَّتِي، فَإِنِّي لاَ أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ العَرَبُ، أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ، وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللهِ. وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ".
إن محاولة الصديق رضي الله عنه الهجرة إلى الحبشة لمن الأمور العظام التي تحتاج منَّا إلى وقفة وتحليل؛ خاصة أنه يُهاجر منفردًا تاركًا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، وهذا موقف نادر حيث إننا نعرف ملازمة الصديق لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كل مواقف الإسلام تقريبًا من أول لحظات البعثة، وإلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولنا على هذا الموقف هذه التعليقات.
هجرة الصديق وقفات وتعليقات
أولاً: كانت هجرة الصديق رضي الله عنه قريبة من هجرة المسلمين إلى المدينة، وبعد زمن هجرة الحبشة الثانية، التي كانت في أوائل العام الحادي عشر من البعثة، وحيث إن وطأة الأذى في العام الحادي عشر من البعثة كانت قد رُفِعَت نسبيًّا عن المسلمين لوقوع القحط بمكة، فيُتَوَقَّع أن تكون محاولة الصديق رضي الله عنه للهجرة في العام الثاني عشر أو الثالث عشر من البعثة، عندما عاد المشركون إلى إيذاء المسلمين بعد نزول المطر، ورفع القحط؛ قال تعالى: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15].
ولقد رأينا في قصة هجرة الصديق رضي الله عنه إلى الحبشة أن جوار ابن الدغنة قد رُفِع بعد قليل من إعلان الصديق رضي الله عنه للصلاة؛ ومن ثَمَّ صار الصديق رضي الله عنه غير آمن مرَّة ثانية، ولا أتوقَّع أنه بقي بعد رفع الجوار مدَّة طويلة في مكة؛ لأننا لم نسمع عن مضايقات له؛ مما يجعل هجرته رضي الله عنه إلى المدينة قريبة من رفع جوار ابن الدغنة، وهذا كله يجعلني أميل إلى أن الصديق رضي الله عنه حاول الهجرة في أوائل العام الثالث عشر من البعثة، فأجاره ابن الدغنة عدَّة شهور، ثم بنى الصديق رضي الله عنه مسجده، وأعلن صلاته، فرفع ابن الدغنة جواره، فمكث أبو بكر رضي الله عنه قليلاً، ثم قرَّر في ذي القعدة من السنة نفسها الهجرة إلى المدينة، لولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم استبقاه أربعة أشهر ليُهاجر في صحبته غرة ربيع الأول من العام الرابع عشر من البعثة.
ثانيًا: محاولة الصديق رضي الله عنه الهجرة إلى الحبشة بمفرده دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مستغرب؛ لأننا لا نتصوَّر قبوله رضي الله عنه للحياة بعيدًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدَّة أيام، فضلاً عن الشهور والسنوات غير المعروفة؛ بل إن الرواية ذاتها تذكر فيها عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور أبا بكر مرَّتين كل يوم! مرَّة في الصباح ومرَّة في المساء، فهذا يدلُّ على شدَّة القرب، وقوَّة العلاقة، فما الذي دعا أبا بكر إلى الخروج وترك مكة، مع أن حمزة وعمر رضي الله عنهما وآخرين لم يهاجروا؟
الذي يبدو لي في هذه المسألة أن أبا بكر رضي الله عنه كان مُهدَّدًا بالقتل بشكل حقيقي وصريح؛ وذلك لأنه من أقدر المسلمين على دعوة الآخرين للإسلام، وإنتاجه في الدعوة معروف، وهو رجل رقيق المشاعر، وحافظ للقرآن، وعالم بالإسلام، فهذا كله يجعل كلماته تصل إلى قلوب الناس أسرع، كما أنه الداعم الأول والأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد المشركون أن يلجئوا إلى حلول حاسمة لمقاومة هذا الدين الجديد، وكان من هذه الحلول قتل الدِّعامات الرئيسية له، وبالتالي تجفيف المنابع الأصلية للإسلام، وقد كان قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم صعبًا لإجارة المطعم بن عدي له.
ولكون الصدام مع بني هاشم غير مأمونٍ، حتى لو ظهر من بني هاشم أنها تخلَّت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان قتل الصديق رضي الله عنه حلاًّ متوسطًا؛ حيث إنه سيوصل رسالة قوية للمسلمين ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الوقت نفسه لن يُؤَدِّيَ إلى أزمة كبيرة في مكة؛ لأن بني تيم قبيلة الصديق رضي الله عنه قبيلة ضعيفة نسبيًّا، ولن تقوى على مجابهة مكة بكاملها، فكان التلويح أو التصريح بقتل الصديق رضي الله عنه، الذي يُؤَكِّد ذلك أن ابن الدَّغِنَة عندما أجار الصديق رضي الله عنه طاف على كفار قريش يُعلمهم بجواره، فتقول عائشة رضي الله عنها: "وَآمَنُوا أَبَا بَكْرٍ". فمعنى هذا أنه لم يكن آمنًا على نفسه قبل هذا الجوار، ويُؤَكِّد هذا -أيضًا- أن الكفار سيُحاولون قتل كلٍّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه عند سعيهما إلى الهجرة إلى المدينة.
ومن هنا فخروج أبي بكر للحبشة كان حتميًّا لحمايته من القتل، وللحفاظ على هذا الكنز الدعوي الكبير، ولعله من المحتمل أن يكون اختيار أبي بكر للحبشة كي يُهاجر إليها، وعدم اختياره ليثرب كما فعل أبو سلمة رضي الله عنه راجعٌ إلى أن توافر عوامل الآمان لحماية الصديق رضي الله عنه في الحبشة سيكون أكبر بكثير من توافرها له في يثرب؛ حيث إنه في الحبشة سيكون في حماية ملكها العادل النجاشي؛ خاصة أن العلاقات المتأزِّمة بين مكة والحبشة ستمنع مشركي مكة من محاولة التفاوض مع النجاشي لإيذاء أبي بكر رضي الله عنه أو التعرُّض له؛ ولكن الأمر في يثرب ما زال محفوفًا بالمخاطر؛ لسهولة تواصل زعماء مكة المشركين مع مشركي يثرب؛ مما يجعل حياة الصديق رضي الله عنه بها غير آمنة؛ وذلك على الأقل في هذه المرحلة، حيث ما زالت شوكة المسلمين ضعيفة.
وعلى كل حال فالصديق رضي الله عنه لن يستكين في الحبشة؛ بل سيقضي وقته في تعليم الصحابة الدين، وقد يقوم -بما له من ملكات- بدعوة أهل الحبشة للإسلام، فكانت هجرته ضرورية في هذا التوقيت، ولعلَّ هذه التضحية بترك الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة لمن أكبر التضحيات في حياة الصديق رضي الله عنه؛ فإنَّه ما أحبَّ أحدًا في حياته قدر حُبِّه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثالثًا: من أعظم مناقب الصديق رضي الله عنه قاطبة أنه وُصِف بأوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الصورة العجيبة التي رأيناها؛ فقد وصف ابنُ الدَّغِنَة أبا بكر رضي الله عنه بالأوصاف نفسها التي وصفت بها خديجة رضي الله عنها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك على غير اتفاق بينهما، ولم يوصف بهذه الصفات مجتمعة أحد غيرهما حتى نقول. إنَّ هذه الصفات كانت تُجْمَع للأشراف الكرماء. إنما كان اجتماع هذه الصفات في شخص واحد أمرًا فريدًا في هذا المجتمع، ولعلَّ هذا الذي يُفَسِّر لنا الدرجة العالية التي وصل إليها الصديق رضي الله عنه في ميزان الإسلام؛ فالرجل كان يُقَدِّم ما لا يُقَدِّمه غيره، ويفعل ما لا يستطيع أحدٌ أن يُنافسه فيه.
رابعًا: يُؤَكِّد قبول الصديق رضي الله عنه لجوار ابن الدَّغِنَة أنه ليس هناك مانع من قبول حماية المشرك ما دام أن هذا لا يصحبه تنازل في الدين؛ ومع ذلك فالمسلم قد يردُّ هذه الإجارة إذا شعر أنها تُضَيِّق عليه فرص العمل لله تعالى وتُضَيِّع عليه بعض الفرص التي قد تُحَقِّق مكتسبات للإسلام، وفي هذا الموقف يبدو أن الصديق رضي الله عنه قد شعر بشيء من الهدوء النسبي في مكة يسمح له بالدعوة دون أن يتعرَّض لأذى، أو أن احتمال وقوع الأذى بعيدٌ، ولهذا ردَّ جوار ابن الدغنة بعد أن رأى الثمار الإيجابية لقراءته للقرآن في مسجده، وأنا أعتقد أنه لو كان الصديق رضي الله عنه يشعر بإمكانية حدوث الأذى الشديد له في هذه المرحلة ما ردَّ جوار ابن الدغنة، ولا قَبِل له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغامر بنفسه؛ خاصة أنه كان منذ شهور ينوي ترك الساحة بأكملها والهجرة إلى الحبشة.
خامسًا: وضَّح لنا هذا الموقف طريقة تفكير المشركين والصادِّين عن دين الله بشكل عامٍّ؛ فهم لا يُمانعون أن تعبد ما تُريد بعيدًا عن أعين الناس؛ ولكنهم لا يُريدون مطلقًا للدعاة أن "يستعلنوا" بدعوتهم هذه وسط العامَّة؛ لأنهم يُدركون على وجه اليقين أن حجَّة الله بالغة، وأن الإسلام دين الفطرة، وأن الذي يسمع عنه بذهن صافٍ سيقبله؛ بل وسيصير من أشدِّ المدافعين عنه، وهذا يُثبت -بما لا يدع مجالاً للشكِّ- أن أعداء الإسلام يُدركون أن منطقهم في حرب الإسلام غير مقبول عندهم أنفسهم، وأنهم يعلمون ضعف موقفهم، وقوَّة موقف أهل الإسلام؛ بل إنهم يخافون ويرتعبون عند سماع مسلم يتكلم عن الإسلام وشريعته.
وما أبلغ الوصف الذي ذكرته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي تشرح حالة المشركين عند معرفتهم بقراءة أبي بكر رضي الله عنه للقرآن في فناء داره؛ قالت عائشة رضي الله عنها: "فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ المُشْرِكِينَ"! إلى هذه الدرجة تبلغ قوَّة كلمات الله، وإلى هذه الدرجة يبلغ ضعف الظالمين! وهذا البون الشاسع بين الفريقين من المفترض أن يُطمئِن قلوب الدعاة، ويُثَبِّت أقدامهم، وكما قال الله عز وجل واصفًا نفسيات الصادِّين عن سبيل الله: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].
سادسًا: في هذا الموقف رأينا ابتكار الداعية للوسائل التي يمكن أن يصل بها إلى الناس، ورأينا الرجل الذي يعيش لأُمَّتِه ودينه كيف تكون صورته وهيئته؛ فالصديق رضي الله عنه في هذه القصة كان عند رجوعه إلى مكة يقرأ القرآن في بيته، ومع أن الخشوع الذي يُريده كان يتحقَّق، ومع أن الحسنات التي يتمنَّاها من الله تعالى كان يحصل عليها، فإنه لم يكن راضيًا تمام الرضا! لماذا؟ لأنه كان بمعزل عن الناس!
والناسُ حيارى يحتاجون إلى مَنْ يأخذ بأيديهم، وهو لا يطيق أن يستمتع بمفرده بهذه الآيات الكريمات من القرآن الكريم؛ ففكَّر في حيلة تُوصِل دعوته إلى الناس، فبنى مسجدًّا في فناء بيته، والمقصود بالمسجد هنا هو أنه نظف ورتَّب مكانًا معينًا للصلاة، يُصَلِّي فيه خارج إطار البيت، وليس المقصود أنه مكان جامع، فلم يكن يأتي أحد للصلاة معه في هذا المكان؛ لكنه كان يقف فيه وحيدًا، يرفع صوته بالقرآن الكريم، خاشعًا باكيًا متذللاً لله عز وجل،فكان صوته العذب يجذب النساء والشباب، فيجتمعون متدافعين عليه، متعجِّبين من جمال ما يقول، ومن حلاوة قراءته وطريقته، وكما تقول الرواية: "فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ المُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ، يَعْجَبُونَ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ". فكانت هذه وسيلة جديدة للدعوة، أشعرتنا بشدَّة الضيق الذي كان يُعاني منه الصديق رضي الله عنه عندما كان يتلو القرآن بعيدًا عن الناس، وقد مُنِع من دعوته، أما الآن فقد رُدَّت له الحياة عندما مارس هذه الدعوة من جديد، وهو لم يخالف ما اتَّفق عليه مع ابن الدَّغِنَة؛ إذ إنه ما زال داخل حدود داره، ولم يخرج إلى شوارع مكة أو أنديتها.
سابعًا: أقرب القلوب إلى الدعوات الصالحة هي القلوب الرقيقة؛ لأن الإسلام دين يُخاطب الفطرة السوية، وهو دين الأخلاق الحميدة، والخصال الكريمة، ودين التلطُّف والجمال والأدب والرقَّة؛ ولذلك تجد أن النساء يتأثَّرْنَ كثيرًا بخطابه، وكذلك الشباب في مقتبل العمر، فهم -على الأغلب- لم يتلوَّثوا بعدُ بمصالح الدنيا التي تُقَسِّي القلوب؛ بل تُميتها أحيانًا، وهي رسالة إلى الدعاة أن يصرفوا الجانب الأكبر من دعوتهم في هذا الاتجاه، وليس معنى هذا ترك الشيوخ دون دعوة؛ ولكنه الحديث عن الأعمِّ والأشمل.
كانت هذه قصَّة هجرة الصديق رضي الله عنه، وبعض ما فيها من دروس وعِبَر، ولقد عَلِم الله سبحانه ما في قلب الصديق رضي الله عنه من حُبٍّ لرسول لله صلى الله عليه وسلم فلم يُرِدْ أن يفجعه بفراقٍ طويل له، فكانت هذه القصَّة، وعاد اللقاء متجدِّدًا بين الصديقين العظيمين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.