بعد انتهاء فترة الطعون.. الهيئة الوطنية للانتخابات تعلن أسماء المرشحين غدا    بحضور مرشحى الحزب.. "العدل" يختتم استعداداته لانتخابات النواب    «طفولتها حقها».. حملة قومية لمواجهة زواج الأطفال    وزيرة التضامن تفتتح حضانة «برايت ستارز» بمدينة حدائق العاصمة الإدارية    «عبدالعاطي» في «ديبلوكاست»: حلمت بقيادة الخارجية المصرية منذ طفولتي    محمد الإتربي: التضخم عند رقم أحادي بحلول 2027.. ومؤشرات الاقتصاد بوضعية جيدة وتشهد تحسنا    إستمرار وقف تأسيس وترخيص نشاطي التمويل الإستهلاكي و المشروعات متناهية الصغر    وزير الإسكان: تخصيص 408 قطع أراضي بمنطقة الرابية بمدينة الشروق بعد توفيق أوضاع المواطنين    محافظ أسيوط: خطة متكاملة لتطوير الخدمات ودعم الاستثمار وتحسين بيئة العمل    وزير البترول: اكتشافات جديدة في الصحراء الغربية والدلتا تضيف 5 آلاف برميل بترول يومياً    وزير المالية: نتطلع لدور أكبر للبنوك التنموية متعددة الأطراف فى خفض تكاليف التمويل للدول الأعضاء والقطاع الخاص    مناطيد تعرقل حركة الطيران في مطار العاصمة الليتوانية    نتنياهو: علاقتنا مع واشنطن وترامب وثيقة.. وفانس: نعمل على عدم بقاء تهديد حماس    خبراء قانون دولي: تكلفة إعمار غزة يجب أن تتحملها إسرائيل    نائب ترامب: واشنطن تعمل على ضمان ألا تشكل حماس تهديدا مرة أخرى    القاهرة الإخبارية: استمرار تدفق المساعدات المصرية إلى قطاع غزة عبر معبر رفح    «أونروا»: إسرائيل تنفذ عمليات تدمير في شمال الضفة    دبلوماسي روسي سابق: النزاع مع أوكرانيا قائم على خلافات جوهرية    الاتحاد الأوروبي يلوح بعقوبة ضد ليفربول بسبب المؤتمر الصحفي قبل مواجهة فرانكفورت    تاريخ مواجهات ريال مدريد ويوفنتوس.. صدامات نارية بين عملاقي أوروبا    موعد مباراة بايرن ميونخ وكلوب بروج فى دوري الأبطال والقنوات الناقلة    جوائز كاف - بيراميدز ينافس صنداونز على أفضل ناد.. وغياب الأهلي والزمالك    جوائز كاف - مصر ومنتخبي المغرب ضمن المرشحين لجائزة أفضل منتخب في إفريقيا    هالاند يواصل التألق.. 11 مباراة تفصله عن معادلة رقم ميسي التاريخي    بتهمة تزوير محاضر إزالة تعديات.. إحالة موظفين في الإدارة الزراعية بالإسماعيلية للمحاكمة التأديبية    مصرع شخصين وإصابة 8 آخرين إثر حادث سيارتين في الشرقية    بني سويف تعلن بدء تلقي طلبات أعضاء الجمعيات الأهلية لأداء فريضة الحج 1447    خلال 24 ساعة.. ضبط قضايا اتجار في العملات الأجنبية بقيمة ما يزيد على 11 مليون جنيه    حملات مرورية .. رفع 34 سيارة ودراجة نارية متهالكة    جريمة بالذكاء الاصطناعي.. ماذا حدث في الدقهلية؟    «الداخلية»: ضبط 11 سيدة بتهمة ممارسة أعمال منافية للآداب عبر تطبيق «مساج» بالقاهرة    4 آلاف سائح شاهدوا ظاهرة تعامد الشمس على وجه الملك رمسيس الثاني بأبو سمبل    رئيس الوزراء يستعرض أبرز أنشطة قطاعات وزارة الثقافة خلال الفترة الأخيرة    مفتي الجمهورية: الله تولى بنفسه منصب الإفتاء وجعله من وظائف النبوة    وزير الأوقاف يهنئ القارئ الشيخ الطاروطي لاختياره أفضل شخصية قرآنية بموسكو    اتحاد الناشرين: المتحف المصري الكبير بوابة حضارية جديدة للدولة المصرية    «رويترز»: متحف اللوفر يفتح أبوابه للمرة الأولى بعد عملية السرقة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاربعاء 22-10-2025 في محافظة الأقصر    رئيس جامعة أسيوط يرأس اجتماع لجنة متابعة مشروع مستشفى الأورام الجامعي الجديد    هيئة الرعاية الصحية تطلق أول ورشة لتطبيق تقنية الصمغ الطبي لعلاج دوالي الساقين في بورسعيد    نائب وزير الصحة يتفقد مستشفى العريش وعيادات التأمين الصحي    «اللبّ السوري» كنز غذائي متكامل.. تعرف على الفوائد الصحية    حكم القيام بإثبات الحضور للزميل الغائب عن العمل.. الإفتاء تجيب    حبس الطالب المتهم بقتل زميله بمفك فى الرأس فى الدقهلية 4 أيام    مجلس الكنائس العالمي يشارك في احتفال الكنيسة المصلحة بمرور 150 عامًا على تأسيسها    حسن موسى يكشف سبب استبعاد بعض الأعضاء من التصويت ويوضح مستجدات ملعب الزمالك    بحضور المتحدث الرسمي للخارجية.. مناقشة "السياسة الخارجية والأزمات الإقليمية" بجامعة بنى سويف    تعليم المنوفية تكشف حقيقة غلق مدرسة الشهيد بيومي بالباجور بسبب حالات الجدري المائي "خاص"    حين يتأخر الجواب: لماذا لا يُستجاب الدعاء أحيانًا؟    فياريال ضد مان سيتى.. هالاند يقترب من معادلة رقمه القياسى    استقرار وانخفاض طفيف في أسعار الحديد بأسواق المنيا اليوم الاربعاء 22أكتوبر 2025    احتفال وطني بذكرى أكتوبر في كلية الحقوق جامعة المنصورة    سماء الفرج    موعد شهر رمضان المبارك 1447 هجريًا والأيام المتبقية    سعر الذهب اليوم الأربعاء 22-10-2025 بعد انخفاضه في الصاغة.. وعيار 21 الآن بالمصنعية    مهرجان القاهرة الدولي لموسيقى الجاز يهدي دورته ال17 ل زياد الرحباني    باريس سان جيرمان يكتسح ليفركوزن بسباعية في دوري الأبطال    رومانسي وحساس.. 4 أبراج بتحب بكل جوارحها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السيرة النبوية وصعوبة كتابتها
نشر في الفجر يوم 03 - 08 - 2015

السيرة النبوية .. إنها قصة رجل له مكانة مرموقة عند خالق الأرض والسماوات، وهذا ما يجعل كتابة قصته أمرًا عسيرًا صعبًا؛ لأن كل تحليل أو خبر لا بد أن يكون موافقًا لما أراده الله وأحبه؛ وإلا كان الخطأ كبيرًا، والذنب عظيمًا.
تفاصيل أحداث السيرة النبوية
وليس هذا فقط الذي يجعل كتابة السيرة أمرًا صعبًا؛ ولكن يزيد من صعوبته أمور أخرى كثيرة! أحد هذه الأمور أن أحداث قصة الرسول صلى الله عليه وسلم سُجِّلَتْ بعناية شديدة، وبتفاصيل دقيقة، وبطريقة فريدة لم تحدث مع أي إنسان قبله أو بعده؛ وذلك لأننا مطالبون بتقليده، واتباع طريقته وسُنَّتِه في كل صغيرة وكبيرة في حياته؛ قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]،
ولذلك سَخَّر الله عز وجل من ينقل لنا كل تفصيل مهما دقَّ في حياته صلى الله عليه وسلم، لقد كان أصحابه يُسَجِّلُون كلماته وأفعاله، ويلفتون النظر دومًا إلى ردود أفعاله، فهنا ظهر الارتياح عليه، وهنا ظهرت الكراهية في قسمات وجهه، وهنا ابتسم، وهنا غضب، كما سَجَّلُوا ما يحدث في حياته الطبيعية كإنسان، كيف كان يأكل، وماذا أكل، وكيف كان تعليقه على طعام وُجد في حضرته، أو سمع به، كيف كان يشرب، وكيف كان يلبس، وكيف كان يمشي، وكيف كان يقاتل .. إنه تصوير عجيب لكل دقائق حياته.
وإذا كانوا يفعلون ذلك مع عاديات حياته فكيف بهم مع أحاديثه ودروسه وخطبه وتعليقاته وأفكاره وأحلامه وطموحاته؛ إنهم نقلوا كل ذلك بدقة حتى صارت حياته مرسومة بكاملها لكل البشر، حتى الذين لم يعاصروه، أو وُجِدُوا بعد زمانه بقرون عديدة.
بل لعلِّي أقول: إن إحدى الحِكَم وراء زواجه من أكثر من امرأة أنها كانت فرصة لهذا العدد الكبير من النساء أن ينقلن واقع بيته الذي لا يراه الناس، فنقلت عائشة وحفصة وأم سلمة -وغيرهن من نساء النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهن أجمعين- ما خَفِيَ عن عيون الناس، فشرحن كيف كان يعاملهن، وكيف كان حاله في بيته وعلى فِراشه، وفي نومه واستيقاظه، وفي عبادته وذِكْرِه، وفي صمته وفِكْرِه، وفي حزنه وفرحه، وفي كل انفعالاته وردود أفعاله.
إنها قصة عجيبة للغاية تلك التي نعرف عنها كل هذه التفاصيل!
أن أحداثها العظيمة كثيرة للغاية
يزيد كذلك من صعوبة كتابة قصة الرسول صلى الله عليه وسلم أن أحداثها العظيمة كثيرة للغاية؛ فنحن نجد أحيانًا في تاريخ بعض الأمم أن حدثًا كبيرًا من أحداثها أخذ لُبَّ المفكرين هناك، فعاشوا القرون المتتالية يحلِّلون الحدث، ويستنبطون الفوائد منه والعبر .. هذا مع حدث واحد أو عدة أحداث على مدار عشرات السنين؛ بينما تجد أن معظم السنوات -باستثناء هذا الحدث- رتيبة تقليدية، ليس فيها جديد أو مثير، وهذا يجعل الكتابة في تاريخ مثل هذه الأمم أمرًا ميسورًا؛ لأنك من الممكن أن تُغْفِل عدة عشرات من السنين دون أن يتأثر السياق التاريخي في شيء؛ أما سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فأحداثها كلها عظيمة، ويمكن توضيح الصورة بضرب مثال واحد يوضِّح ما أرمي إليه.
لو اطَّلعنا على أحداث العام الثاني من الهجرة على سبيل المثال وجدنا فيه هذه الأحداث مجتمعة: غزوة الأبواء في صفر، وغزوة بواط في ربيع الأول، وغزوة سفوان في الشهر نفسه، وغزوة ذات العُشَيْرَة في جمادى الأولى، وسرية نخلة في رجب، ثم غزوة بدر الكبرى بكل أحداثها المجيدة في رمضان من السنة نفسها، ثم غزوة بني قينقاع في شوال.
هذه كلها معارك كبيرة تحتاج إلى تحليل ودراسة وتعليق، فإذا أضفت إلى هذه المعارك حدوث بعض الأمور الأخرى؛ مثل فرض القتال، وفرض الصيام، وفرض الزكاة، وتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، إذا أضفت هذه الأمور علمت أن كل واحد منها يحتاج إلى صفحات ومقالا كثيرة ليُنَاقَش فيها ويُدْرَس، وفوق كل ما سبق ظهر في العام الثاني من الهجرة النفاق، وذلك عندما دخل عبد الله بن أبي ابن سلول الإسلام ظاهرًا وهو يُبطن الكفر، وهذا أمر يحتاج إلى مجلدات لدراسة هذه الظاهرة وتبعاتها! وكل ما سبق ما هو إلا أمثلة لما حدث في العام الثاني من الهجرة، فما بالكم بالتدبُّر الكامل فيما حدث في حياته الشخصية صلى الله عليه وسلم، وفي حياة أصحابه، وحياة الأمة بشكل عام، بالإضافة إلى ما حدث في مكة أو العالم متزامنًا مع نشأة الدولة الإسلامية؟!
هذا مجرَّد مثال لضخامة الأحداث في السيرة النبوية، ولو تناولنا أي عام آخر فسنجد الأمر نفسه؛ وهذا يجعل محاولة احتواء السيرة كلها في كتاب واحد أو عدة مقالات أمرًا في غاية الصعوبة.
وليست الأحداث فقط هي التي يمكن أن تُوصَف بالعظمة؛ إنما الأشخاص الذين عاشوا في زمانه صلى الله عليه وسلم كانوا على الدرجة نفسها من العظمة!
إن الجيل العظيم الذي عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق أحداثًا عظيمة لا حصر لها؛ فزمنٌ شهد حياة العظماء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير رضي الله عنهم. زمنٌ يستحق أن يقف الإنسان مع كل لحظة من لحظاته؛ إنه زمن شهد المجاهدين أمثال: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وسعد بن أبي وقاص، والبراء بن مالك، وشهد المنفقين في سبيل الله كعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن عبادة، وأبي الدحداح، وشهد العُبَّاد الزهاد أمثال: أبي ذر، وأبي الدرداء، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وشهد العلماء القُرَّاء أمثال: عبد الله بن مسعود، وأُبَيِّ بن كعب، وأبي موسى الأشعري، وشهد الحُفَّاظ رواة الأحاديث أمثال: أبي هريرة، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس.
إنه زمن شهد أمهات المؤمنين أمثال: خديجة، وعائشة، وحفصة، وزينب، وشهد الصحابيات الجليلات أمثال: أسماء بنت أبي بكر، وأم عمارة، وأم حرام بنت ملحان. إنه زمن شهد المهاجرين والأنصار، وشهد الهجرتين إلى الحبشة والمدينة، وشهد الأطفال الذين ترعرعوا في حدائق الإيمان كعبد الله بن الزبير، وزيد بن أرقم، وأسامة بن زيد .. إنه زمن عجيب!
إن كُلَّ صحابي أو صحابية خلق عشرات ومئات بل وآلاف المواقف النادرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل هذه المواقف ما هي إلا صفحات من السيرة النبوية، ولو لم يكن هؤلاء عظماء ما خُلِقَت هذه المواقف، ولكنهم بإيجابيتهم وتضحياتهم ودقَّة أفهامهم، وحسن تصرفهم، وحميتهم للدين، وإخلاصهم لله عز وجل، وتجردهم لدعوتههم، تفاعلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تفاعلاً أثرى السيرة النبوية ثراءً لا مثيل له، ولن تجد نبيًّا من الأنبياء، أو مصلحًا من المصلحين، على مدار عمر البشرية كان له من الأصحاب مثلما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ".
التنوع الكبير الذي ميَّز حياة الرسول
وأخيرًا يزيد من صعوبة كتابة السيرة التنوع الكبير الذي ميَّز حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلها متفرِّدة ومختلفة عن حياة أي إنسان آخر. وعلى سبيل المثال فإن الفقير الذي عاش حياته كلها فقيرًا، أو الغني الذي عاش حياته كلها غنيًّا، يمكن أن تُلَخِّص حياته في يسر وسهولة، فتقول: عاش حياته مُعْدمًا، أو عاش حياته موفور المال. ولكن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن كذلك؛ إنما شملت كل المتنوعات التي يمكن أن تقابل المسلم في حياته.
لقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم جانبًا من حياته فقيرًا لا يجد ما يسد رمقه، ليس له من طعام إلا التمر والماء، أو كان يربط الحجر والحجرين على بطنه من الجوع؛ بينما عاش في فترة أخرى من فترات السيرة وقد أتته أموال العرب، وصار يعطي عطاءً لم يُعْرَف بين الناس، وبين هذا وذاك كانت هناك فترات أخرى يُوجَد فيها المال دون أن يكون وفيرًا.
عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم في فترة من فترات حياته مضطهدًا معذَّبًا طريدًا هو وأصحابه، وعاش فترة أخرى ممكَّنًا في الأرض قويًّا عزيزًا، يسمع العرب جميعًا لكلماته. عاش حاكمًا وعاش محكومًا، وعاش مسالمًا وعاش محاربًا، وعاش لحظات النصر وذاق مرارة المصيبة، عاهد اليهود والنصارى في جانب من السيرة وقاتلهما في جانب آخر، وراسل كسرى وقيصر في فترة من فترات حياته، وأعلن الحرب عليهما في فترة أخرى.
رأيناه شابًّا يطلب الزواج، ورأيناه متزوِّجًا من واحدة لا يجمع معها أخرى، ورأيناه متزوِّجًا من عدَّة نساء معًا، ورأيناه أرملاً بلا زوجة، ورأيناه مطلِّقًا لزوجة من زوجاته. رأيناه يقضي بين الناس، ويأخذ القرارات السياسية الكبيرة، ويشرِّع القوانين الاقتصادية والتجارية، ويتعامل بالدرهم والدينار، ويعطي الدروس والمواعظ، ويعلِّم الصغير والكبير.
وغير ذلك من التنوعات رأيناه!
لا شك عندي في أن كل أحداث الدنيا قد كُثِّفَت في حياته صلى الله عليه وسلم، فحَدَثَ له ولأصحابه كل ما يمكن أن يحدث لمسلم في حياته؛ حتى تقام الحُجَّة على كل مسلم ومسلمة، فلا يقتدي به فقير دون غني، ولا حاكم دون محكوم، ولا شاب دون شيخ، ولا عربي دون أعجمي؛ بل يُصبح قدوة صالحة للتطبيق يقتدي بها كل مَنْ قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
هذه هي السيرة النبوية! أليست قصةً صعبة التسجيل حقًّا؟!
لذلك صار من الصعب جدًّا على إنسان أن يتناول كل جوانب حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ومن ثَمَّ -فمن ناحية عملية- ينبغي لكل مَنْ أراد أن يُسَجِّل أحداث هذه السيرة العظيمة أن يختار جانبًا من الجوانب فيتناوله بالشرح والتفصيل، ويترك في الوقت نفسه -عامدًا- بقية الجوانب؛ وذلك حتى لا يتشعَّب به الحديث ويتفرَّع، ويُصبح غير قادر على إيصال مفهوم محدَّد لقرَّائه.
ولقد كنتُ مهتمًّا أثناء قراءتي لأحداث السيرة النبوية -وكذلك عند قراءتي لصفحات التاريخ الإسلامي أو الإنساني بشكل عام- بدراسة عوامل بناء الأمم أو سقوطها، وأحسب أن هذا منظورٌ نحتاجه بشكل خاص في زماننا؛ لكون الخلافة الإسلامية قد سقطت منذ ما يقرب من مائة عام حتى هذه اللحظة التي تُكتب فيها هذه المقالات، وغُيِّب الشرع عن حياة المسلمين، واحتاج المسلمون بشدة أن يعيدوا بناء أمتهم من جديد، وأرى أن البناء لن يكون قويًّا وصالحًا للاستمرار والبقاء إلا إذا كان على طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد رأيناه يبني أمته باقتدار، ويجعل لها مكانًا مرموقًا بين الأمم بطريقة فذَّة فريدة، وأدركت إدراكًا كاملاً أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
فعقدت العزم على كتابة هذه المقالات من هذا المنظور؛ أعني من منظور بناء الأمة الإسلامية، فحرصت على دراسة أسباب القوَّة في البناء، والعوائق التي اعترضت طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف تعامل معها وتغلَّب عليها؛ ومن ثَمَّ يتوفر عندنا ما يجعل من السيرة نورًا نرى به في ظلمات الدنيا، فنعرف اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم في مختلف الظروف التي مرت به: فهنا حارب، وهنا سَالَمَ، وهنا رضي، وهنا غضب، وهنا وافق على أمر، وهنا رفضه، فتُصبح عندها قراءة السيرة النبوية سببًا في تغيير قراراتنا إلى الأحكم والأصوب، وتُصبح -بحقٍّ- مخرجةً لنا من الظلمات على النور.
ولعلَّه لهذا السبب لم أُضَمِّن في مقالاتي الفترة الطويلة التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وهي فترة الأربعين سنة الأولى من عمره؛ وذلك مع العلم أنها فترة مهمَّة للغاية، وفيها من الدروس والعبر ما لا يُحصى، ولكنها قد تكون -نسبيًّا- خارجة عن منظور البناء الذي انتهجته في مقالاتي؛ ومع ذلك فأنا أعتزم -لو كان في العمر بقية وبركة- أن أُسَجِّل أحداث هذه الفترة الذهبية في عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب مستقلٍّ أو مقالات مستقلة تبين تفاصيل إعداده صلى الله عليه وسلم؛ من يوم مولده، وإلى يوم بعثته الشريفة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.