القاهرة الإخبارية: عائلات سورية غادرت بلدة بيت جن بعد الهجمات الإسرائيلية    جوارديولا يكشف موقفه من التجديد لبرناردو سيلفا    سعر الخضروات مساء اليوم الجمعة الموافق 28 نوفمبر 2025    جامعة القاهرة تُكرّم نقيب الإعلاميين تقديرا لدوره البارز فى دعم شباب الجامعات    جامعة حلوان تنظم حفل استقبال الطلاب الوافدين الجدد.. وتكريم المتفوقين والخريجين    إعلام سوري: قوة إسرائيلية توغلت في حوض اليرموك بريف درعا    حزب الله ينفي حقيقة اكتشاف نفق فى جنوب لبنان يحتوى على 176 سبيكة ذهب    مفوضة أوروبية تلتقي المصابين الفلسطينيين في مستشفي العريش العام    أكاديمية الشرطة تستقبل عدد من طلبة وطالبات المرحلة الثانوية    الفوز الأول من نوعه.. المصري يضرب زيسكو بثلاثية وينفرد بصدارة مجموعته في الكونفدرالية    وفاة شاب إثر صعق كهربائي بقنا    كيف تحولت أركان مدرسة دولية إلى مصيدة للأطفال مع ممرات بلا كاميرات    محافظة الجيزة: السيطرة على حريق داخل موقع تصوير بستوديو مصر دون خسائر بشرية    الأرصاد: طقس الغد معتدل على أغلب الأنحاء والعظمى بالقاهرة الكبرى 26 درجة    سقوط عصابة سرقة الحسابات وانتحال الهوية عبر لينكات خبيثة    إخماد حريق داخل «أستوديو مصر» دون إصابات.. ومحافظ الجيزة يطمئن الجميع    الدفاع المدني السوري: عمليات البحث والإنقاذ لا تزال جارية في بلدة بيت جن    فحص 20 مليون و168 ألف شخص ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض المزمنة    انعقاد 8 لجان وزارية وعليا بين مصر والجزائر والأردن ولبنان وتونس وسويسرا والعراق وأذربيجان والمجر    ما حكم إخراج الزكاة بناء على التقويم الميلادى وبيان كيفية ذلك؟ دار الإفتاء تجيب    بعثة بيراميدز تساند المصري أمام زيسكو يونايتد    خلال لقاء ودي بالنمسا.. البابا تواضروس يدعو رئيس أساقفة فيينا للكنيسة الكاثوليكية لزيارة مصر    بمشاركة 23 فنانًا مصريا.. افتتاح معرض "لوحة في كل بيت" بأتيليه جدة الأحد    المصري يتحرك نحو ملعب مواجهة زيسكو الزامبي في الكونفدرالية    كامل الوزير يتفق مع شركات بريطانية على إنشاء عدة مصانع جديدة وضخ استثمارات بمصر    حزب الجبهة الوطنية بالجيزة يستعد بخطة لدعم مرشحيه في جولة الإعادة بانتخابات النواب    تجهيزات خاصة وأجواء فاخرة لحفل زفاف الفنانة أروى جودة    حريق ديكور تصوير مسلسل باستوديو مصر في المريوطية    ضبط 3618 قضية سرقة تيار كهربائي خلال 24 ساعة    لتغيبهما عن العمل.. إحالة طبيبين للشؤون القانونية بقنا    عاطف الشيتاني: مبادرة فحص المقبلين على الزواج ضرورة لحماية الأجيال القادمة    تحقيق عاجل بعد انتشار فيديو استغاثة معلمة داخل فصل بمدرسة عبد السلام المحجوب    في الجمعة المباركة.. تعرف على الأدعية المستحبة وساعات الاستجابة    محافظة الجيزة تعلن غلق كلى ل شارع الهرم لمدة 3 أشهر لهذا السبب    اسعار الاسمنت اليوم الجمعه 28 نوفمبر 2025 فى المنيا    شادية.. أيقونة السينما المصرية الخالدة التي أسرت القلوب صوتاً وتمثيلاً    مشاركة مصرية بارزة في أعمال مؤتمر جودة الرعاية الصحية بالأردن    جدول مباريات اليوم الجمعة 28 نوفمبر 2025 والقنوات الناقلة    وزير الخارجية يبحث مع نظيره الأردني تطورات الأوضاع في غزة    استعدادات مكثفة في مساجد المنيا لاستقبال المصلين لصلاة الجمعة اليوم 28نوفمبر 2025 فى المنيا    خشوع وسكينة.. أجواء روحانية تملأ المساجد في صباح الجمعة    «الصحة» تعلن تقديم خدمات مبادرة الكشف المبكر عن الأورام السرطانية ل15 مليون مواطن    وزارة العمل: 1450 فرصة عمل برواتب تبدأ من 10 آلاف جنيه بمشروع الضبعة النووية    سريلانكا تنشر قواتها العسكرية للمشاركة في عمليات الإغاثة في ظل ارتفاع حصيلة ضحايا الفيضانات    رئيس كوريا الجنوبية يعزي في ضحايا حريق المجمع السكني في هونج كونج    سعر كرتونه البيض الأبيض والأحمر اليوم الجمعه 28نوفمبر 2025 فى المنيا    الزراعة تصدر أكثر من 800 ترخيص تشغيل لأنشطة الإنتاج الحيواني والداجني    صديقة الإعلامية هبة الزياد: الراحلة كانت مثقفة وحافظة لكتاب الله    صلاة الجنازة على 4 من أبناء الفيوم ضحايا حادث مروري بالسعودية قبل نقلهم إلى مصر    45 دقيقة تأخير على خط «طنطا - دمياط».. الجمعة 28 نوفمبر 2025    بيونج يانج: تدريبات سول وواشنطن العسكرية تستهدف ردع كوريا الشمالية    رسائل حاسمة من الرئيس السيسي تناولت أولويات الدولة في المرحلة المقبلة    محمد الدماطي يحتفي بذكرى التتويج التاريخي للأهلي بالنجمة التاسعة ويؤكد: لن تتكرر فرحة "القاضية ممكن"    رمضان صبحي بين اتهامات المنشطات والتزوير.. وبيراميدز يعلن دعمه للاعب    عبير نعمة تختم حفل مهرجان «صدى الأهرامات» ب«اسلمي يا مصر»    دار الإفتاء توضح حكم إخراج الزكاة للأقارب.. اعرف قالت إيه    سيناريست "كارثة طبيعية" يثير الوعي بمشكلة المسلسل في تعليق    أبوريدة: بيراميدز ليس له ذنب في غياب لاعبيه عن كأس العرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تأملات في آيات الصيام
نشر في الفجر يوم 19 - 06 - 2015

إن عبادة الصيام هي عبادة امتناعية وليست عبادةً عملية، فكل العبادات يجب فيها أن نفعل إلا الصوم فهو العبادة الوحيدة التي يجب فيها ألا نفعل.
وهذه العبادة الامتناعية هي عبادة متصلة من الفجر إلى المغرب، وفي هذا إشارة عظيمة هي أننا إن كنا عادةً نخشع لله في الصلاة مدة الصلاة ثم ينشغل كل منا بحاله، فإننا في حال الصيام يجب أن نخشع لله كل مدة العبادة، وهو خشوع ذو أمد نتدرب فيه على مراقبة الله والاتصال به في كل حياتنا.
والمميز جدًا في عبادة الصيام هي أنها العبادة الوحيدة التي تمتزج بعملنا اليومي في إعمار الأرض لأنها عبادة امتناعية لا تتعارض أن تحدث في نفس وقت العمل! ليس هذا فحسب بل أنها في الوقت ذاته تعلمنا كيف يكون إعمارنا الأرض خاشعًا لله بخشوع الصيام.
وهذا الإعمار الخاشع لله يشير لأمرين:
1- أن الدنيا ليست منفصلة عن الدين كما هو مذهب العلمانية الباطل.
2- أن العكس هو الصحيح فالدين يحوي الدنيا ويمتزج بها وإلا لما كان ديناً، فخشوع الصوم يؤدي إلى إتقان العمل لأنه يحدث في الوقت ذاته، والتفرغ من الطعام والشراب والشهوة يؤدي إلى التفرغ للعمل دون أي شاغل يشتت الذهن، فالصوم إذًا هو عامل محفز للمسلم على إحسان عمله وإتقانه.

قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 183 - 185].

يجِب قبل الشُّروع في عبادةٍ ما، أن يتأمَّل المسلم الآياتِ التي شرَع الله تعالى فيها هذه العبادة، فإنَّ في تدبر الألفاظ والمعاني موجِّهات للإيمان يجِب الأخذُ بها، فلكلِّ عبادة حِكَمٌ ومقاصدُ، وقِيمٌ وفوائد.

وفي هذه السطور نحاول الوقوفَ عندَ اللفظ القرآني لنستجليَ ما حُشِدَ به من معانٍ وأحكام.

أولاً: الفرق بين نداءات القرآن الكريم:
أوَّل ما يطالعنا في الآية نِداءُ القرآن: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾، ونداءات القرآن الكريم تتنوَّع بحسب القضية التي تلي النداء، فإذا قال: ﴿ يَا أَيُّها النَّاسُ ﴾ فهو غير ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾.

وعامَّة ما وقفتُ عليه مِن نداء الناس وجدتُه أحدَ ثلاث قضايا: قضية دعويَّة، أو إرشاديَّة، أو تحذيريَّة.

فالدعوية كقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ﴾ [البقرة: 21]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ [النساء: 170]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ [النساء: 174]، ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [الأعراف: 158].

والتوجيهيَّة: كقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ [البقرة: 168].

وأمَّا التحذيريَّة: ﴿ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ ﴾ [النساء: 133].

وعامَّة ما وقفتُ عليه مِن نداء المؤمنين وجدتُه يتعلَّق بالقضايا السابقة ويَزيد عليها القضايا التشريعيَّة:
فالدعوية: كقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [البقرة: 208]، وكقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

وأمَّا التوجيهيَّة: فقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا ﴾ [البقرة: 104]، وكقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153]، وكقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ﴾ [البقرة: 264]، وكقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200].

وأمَّا التحذيريَّة: فقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 100]، وكقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 118].

وأمَّا التشريعيَّة: فكقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾ [البقرة: 178]، وكقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ﴾ [البقرة: 183]، وكقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 254]، وكقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ﴾ [النساء: 19]، وكقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ﴾ [النساء: 43]، وكقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 278].

أمر لافت للنظَر:
أنَّ النداء في القضايا التشريعيَّة أتَى بوصف الإيمان وليس بوصف الإسلام، فلماذا؟

إنَّ الإيمان يشمَل في معناه الخاص العقائد، والإسلام يشمَل في معناه الخاص العبادات، ولكن لا يُمكن لأحدهما أن يفترِق عن الآخَر في التصوُّر العام للإسلام، فإذا أُفْرد أحدهما بالذِّكر دلَّ على الآخر، كما قال ابنُ تيمية: "إذا افترقَا اجتمعَا، وإذا اجتمعَا افترقَا" [مجموع الفتاوى: 1]، يقصد إذا افترقَا في اللفظ اجتمعَا في المعنى العام للإسلام، وإذا اجتمعَا في اللفظ افترقَا في المعنى الخاص.

ولكن لَمَّا كان الإيمانُ أسبقَ مِن الإسلام في التصوُّر، فالمرء يؤمِن، ثم يُسلِم نفسه لأوامر مَن آمَن به، جاء النِّداء بوصف الإيمان، كأنَّه يقول: يا أيها الذين آمنوا، إن كنتم آمنتم فأطيعوني فيما آمرُكم بكذا أو فيما أنهاكم عنْ كذا.

ثم إنَّ الإيمان هو المميِّز للعمل الصالح مِن العمل الباطل، فذكر الوصْف الحاكِم على العَملِ بالإخلاص الدَّاعي للقَبول.

ثانيًا: لفظ الفرضية:
قال تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ ﴾، ولم يقلْ: فُرِض، والاختيار دليلُ الحِكمة، والحِكمة هي في اختيار لفظ [كُتِب]؛ أنَّ الصيام عبادةٌ شاقة، فهي امتناعٌ عن أمور محبوبة وضروريَّة للبدن، والنَّفْس في فِطرتها تنفر مِن المنع إلى الإباحة، فكان المقام أن تُذكَر الفرضية بلفظ "كتب"؛ لأنَّ الكتابة في معنَى التكليف أوْثَق وأقوى مِن لفظ "فرض"، ألاَ ترَى أنَّ مديرًا ما لو كَلَّف موظفًا عندَه بأمر ما شفهيًّا، فإنَّ ذلك سيكون أقل حتميةً مِن أن يكتُب له التكليف رسميًّا؟ والكتابة في اللُّغة بمعنى الجمْع والتثبيت؛ قال ابن فارس: "الكاف والتاء والباء: أصلٌ صحيح واحد يدلُّ على جمْع شيءٍ إلى شيءٍ"؛ [مقاييس اللغة].

ثالثًا: ﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِين مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾:
الحِكمة مِن ذِكر أنَّ الصيام شُرِع لمن قبلنا ظاهِرة.

فالصيام لما كان شاقًّا يسَّر الله أمْرَ تكليفه وهوَّنه بذِكر هذه الحقيقة، فالمرء يتثبت بأخيه ويتمثَّل به في مواجهةِ كلِّ شديد؛ أي: لستم وحدَكم مَن خُصصتم بهذه العبادة الشاقَّة، هذا وجه.

ووجه آخَر أنَّنا أمَّة يتنافس بعضُها مع بعض في مرضاةِ الله تعالى، وكذلك يجِب علينا أن نُرِي الله من أنفسنا خيرًا فيما شرَع لنا وننافس مَن قبلنا في ذلك، حتى نحسنَ ونُتقن ونُخلص أكثرَ ممَّا كان أتقياؤهم يَفْعلون، فهي عبارةٌ مذكورة للحثِّ.

رابعًا: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾:
الحِكمة العُليا من فرْض الصيام تحقيقُ مقام إيماني عالٍ.
إنَّه التقوى.

وانظر إلى هذا المعنَى العظيم: لما حرَمناالله تعالى في الصِّيام من الزاد المادي أعْطانا زادًا خيرًا منه: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ [البقرة: 197].

ويَكفي أن لا إله إلا الله هي "كلمة التقْوى".

إنَّ التقيَّ لن يَظلم ولن يَكذب، ولن يَنظر لحرام، ولن يسبَّ ولن يؤذي، حتى ولو كان كلُّ ذلك في صغير هيِّن.

فالتقوى زاد المؤمنين في حياتِهم الآخرة كما أنَّ الطعام زادُ حياتهم الدنيا، والتقوى التي يحقِّقها الصيام هي ميزانُ معادن الناس عندَ الله تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13].

ولكن كيف يُحقِّق الصيام مقامَ التقوى؟
إنَّ الصيام له خَصيصة تخصُّه دون سائر العبادات، فكلها عبادات فِعلية، أمَّا الصيام فهو عبادة تركيَّة، والناس مطَّلعون على الفعليَّات وليسوا بمطَّلعين على التركيَّات، فمراقبة الله تعالى على الوجهِ الأمْثل هي في الصيام الذي لا يَطَّلع عليه إلا الله، والعبادة التي لا دخْلَ فيها للرِّياء هي صوم رمضان، فليس بتطوُّع يستكثر المرء به ويباهي، ولكن فَرْض يلزمه أداؤه.

فمَن يَحسُّ هذه المعاني في الصيام يظلُّ طولَ وقته مراقبًا لله تعالى الذي يعلم أنَّه الواحد الأحَد الذي يطَّلع على صومه الخفيِّ، فلو اختلَى فأكَل فأنَّى لأحد أن يعلم ذلك؛ لذا لا يستطيع أن يُقدِم على فِعل حرام وهو يستحضر مراقبةَ الله تعالى له.

فالتقوى نتاجُ الإحساس بمراقبة الله تعالى للعبْد، وبُعْد العبدِ عن الرِّياء والعُجْب.

وفي الصيام عِلل أُخرى وأحْكام، ولكن ذكَرْنا أظهرَها على حسب اللفظ القرآني، ولنا في بقيَّة المقاصِد مقالٌ خاص - إن شاء الله تعالى.

خامسًا: ﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ﴾:
مِن التسهيل والتهوين ذِكْر هذا الأمر.

وأظهر التفاسير على أنَّ المقصود بالأيَّام المعدودات شهر رمضان، وليس الأيام التي كانت تُصام قبلَ فرْضه، فهو أيَّام معدودات، وللطاهِر بن عاشور تفريقٌ حسَن بين معدودات ومعدودة؛ إذ ذكَر أنَّ العرب إذا وصفتْ جمعًا لغير عاقل وأوَّلته بمعنى جماعة قالوا مثلاً: معدودة، وإذا زاد قليلاً فأوَّلوه بمعنى جماعات قالوا: معدودات، فقوله تعالى: ﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَات ﴾ أكثر مِن قوله ﴿ أَيَّامًا مَعْدُودة ﴾؛ وذلك لأنَّ الشهر ثلاثون يومًا.

ومنه يتَّضح أنَّ اليهود حين قالوا: ﴿ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ﴾ [البقرة: 80]، كانوا يَرَوْنها أيَّامًا قليلة جدًّا، وكذلك قوله تعالى: ﴿ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ﴾ [يوسف: 20].

سادسًا: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُم مَريضًا... فِدْيةٌ طَعَامُ مِسْكِين ﴾:
مِن ملامح التسهيل التدرُّج في التكليف.

فمِن يُسْر الله تعالى أن تدرّج في تكليف عبادِه بالأمور التي تشقُّ عليهم، فكما تدرّج في تحريم الرِّبا والخمر تدرّج كذلك في تشريع الصِّيام.

وكان التدرُّج على وجهين:
الأول: أنْ شرَع الصيام مفرقًا، فكان ثلاثة أيَّام مِن كل شهر، ثم بعدَ أن تمكَّن الصيام فيهم شرَع شهرًا كاملاً.
الثاني: لما شرَع الشهر كاملاً كان فيه للصحيح القادِر على الصيام جوازُ الصوم وجواز الإفطار، وله إنْ أفطر أن يُطعِم كلَّ يوم مسكينًا، ثم لما تمكَّن الأمر أكثرَ نسخ هذا الحُكم وأصبح صومُ رمضان عزيمةً على القادر، وبقِي ذوو الأعذار؛ مَن كان مريضًا أو مسافرًا أفطر وقضَى، ومَن كان طاعنًا في السنِّ أفْطر وأطعم.

وأمْر آخَر يقتضيه ذِكر التيسير، يذكره هذا الحديث:
عن البراء - رضي الله عنه - قال: كانَ أصحابُ محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا كان الرَّجلُ صائمًا فحضر الإفطار فنام قبْلَ أن يُفطِر لم يأكلْ ليلتَه ولا يومَه حتى يُمسي، وإنَّ قيس بن صرمة الأنصاري كان صائمًا فلمَّا حضَر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندَكِ طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطَلِق فأطلب لك، وكان يومَه يعمل فغلبتْه عيناه، فجاءتْه امرأتُه فلمَّا رأته قالت: خيبة لك، فلمَّا انتصف النهار غُشِي عليه فذكر ذلك للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فنزلت هذه الآية: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ [البقرة: 187]، ففرِحوا بها فرحًا شديدًا، ونزلت: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ﴾ [البقرة: 187].

ما بالكم لو لم يَحدُث هذا التيسير، هل كنتم ستمتنِعون عن عبادةِ الصيام؟!
كان لا محالةَ ستفعلون، وتتكيَّفون، ولكن كنتم ستتعبون أشدَّ التعب ويشقُّ عليكم أشدَّ المشقَّة.

إذا تأملتَ أنَّكَ لم يكن لديك خيار الرفض ستذوق طعمَ التيسير الإلهي في تشريعه هذا.

سابعًا: ﴿ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ﴾:
الحثُّ الإلهي داخلٌ في إطار التدرُّج التشريعي، فقبل الفرْض يأتي الحثُّ والتشجيع، كما يأتي التكريهُ قبل التحريم، كما كان في تحريمِ الخمْر.

وما بالكم بصحابي كريم يقال له: ﴿ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ﴾؟ إنَّه لا محالة لا بدَّ أن يأخذ بما هو خيرٌ له، حتى يصيرَ ذلك هينًا عليه بالاعتياد، فتأتي مرحلةُ الفرضية وهم لها مهيَّؤون أشدَّ التهيئة.

ولكن لماذا كان الصيامُ خيرًا لنا من عدمه ؟؟
إجابة هذا السؤال تتناول جوانبَ الخيريَّة في الصيام للأفراد والأمَّة كلها، وهو مضمونُ المقال التالي - بإذن الله تعالى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.