عندما تمّ الإعلان عن وفاة العاهل السعودي، الملك عبدالله بن عبدالعزيز، تحدّث بعض الخبراء عن إمكانية تأثّر السياسة الخارجية السعودية. وركّز الخبراء بالأساس على العلاقة بين الرياض وواشنطن، على مستوى العلاقات الدولية، وبين الرياضوالقاهرة، على مستوى العلاقات الإقليمية العربية، وتعالت أصوات مشككة من هنا وهناك تقول إن إمكانية تواصل العلاقات السعودية المصرية المتميزة أضحت مستبعدة، غير أنّ الواقع والمبادئ التي تسير وفقها دبلوماسية المملكة منذ عقود يفيدان عكس ذلك، خاصة أنّ الملك سلمان بن عبدالعزيز أشار منذ اعتلائه سدّة الحكم إلى أن السياسة السعودية لن تحيد عن ثوابتها. إثر وفاة العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبدالعزيز، ومبايعة الملك سلمان بن عبدالعزيز ملكا للسعودية، حازت العلاقة بين الرياضوالقاهرة، مؤخرا، على الجانب الأكبر من الاهتمام، مقارنة بعلاقة السعودية ببقية الدول، لأسباب عديدة لا تنفصل عن الأحداث الجارية في المنطقة. وتحدّث بعض المحللين عن إمكانية تراجع العلاقات المصرية السعودية، على مستوى الدعم السعودي المالي لمصر، على الأقل.
وكانت بعض الدوائر الإعلامية استغلت تأخر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي عن حضور مراسم جنازة الملك عبدالله بن عبدالعزيز، حيث كان يحضر منتدى دافوس الاقتصادي، ولم يتمكن من الذهاب إلى الرياض مباشرة، نتيجة سوء الأحوال الجوية، للتحدث عن بوادر أزمة بين الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، والعاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز.
ونفت مصادر مطّلعة هذه التكهّنات، مؤكّدة ل"العرب اللندنية" أن سياسة الرياض لا تتغير بسهولة، وأن الملك سلمان بن عبدالعزيز كان منخرطا في إدارة الحكم إلى جوار شقيقه الراحل، وعلى علم بتفاصيل جميع القضايا، بل كان في الأشهر الأخيرة، بعد اشتداد المرض على الملك عبدالله، المتحكم الفعلي في دفة أمور كثيرة.
وشدّدت المصادر على أن السياسة السعودية تجاه مصر لن تتغير، وربما تشهد تعاونا أكبر، فما يجمع الرياضوالقاهرة، إلى جانب العلاقات التاريخية والعلاقة الخاصة بين الملك سلمان ومصر، ملفّات هامة تتعلّق بالأمن القومي لكلا البلدين وبالمنطقة العربية عموما، والتي لا يمكن البتّ فيها بمعزل عن تواصل وتنسيق مصريين سعوديين.
التعاون في الملف الأمني المشترك يديره الأمير محمد بن نايف الذي يعي أن دحر الإرهاب في مصر يضمن تأمين السعودية ضد هذا الخطر
بمجرّد الإعلان عن وفاة الملك عبدالله، وفي خضم الانشغال بترتيب الوضع الداخلي في السعودية، ومتابعة العالم لما يجري في الرياض، تسرّبت تقارير عن إمكانية نسف المصالحة القطرية المصرية بعد وفاة عرّابها. واستغلّ مسرّبو هذه التقارير تزامن التغيير في السعودية مع ذكرى ثورة 25 يناير في مصر، حيث عادت الوجوه الإخوانية إلى الظهور، مستغلة ترسانتها الإعلامية، من صحف وفضائيات ومواقع إلكترونية، وبالأساس منبرها الأول فضائية الجزيرة.
وقد لاحظ المتابعون الحضور المكثّف لعدد من عناصر الإخوان وحلفائهم والتقارير المشحونة التي بثتها قناة الجزيرة، بمناسبة الذكرى الرابعة لثورة 25 يناير المصرية، وهو ما اعتبر تصعيدا جديدا ضد مصر بعد فترة هدوء نسبي شهدتها تغطية القناة وتقاريرها عن الشأن المصري.
هذا التغيير في سياسة الجزيرة وعودة الخطاب التحريضي، أوحيا لكثيرين بأن الدوحة أصبحت في حل من اتفاقها المعلن مع الرياض بخصوص المصالحة مع القاهرة، واستغلّ مروّجو هذه التكهّنات انشغال القيادة السعودية الجديدة بترتيب شؤونها الداخلية والإشراف على مراسم العزاء في وفاة الملك عبدالله، بالإضافة إلى تأخر زيارة السيسي في تقديم واجب العزاء في وفاة الملك عبدالله.
ووصفت مصادر رسمية مصرية محاولات التشكيك بأن غايتها ترسيخ انطباع بأن القاهرة فقدت أهم سند لها، وإشعال فتنة سياسية يصعب احتواؤها في المستقبل، وستؤثّر بالتأكيد على مجريات الأحداث في المنطقة، خاصة وأنها صدرت عن جهات تسعى إلى الانتقام ممن تصدّوا لطموحات الإخوان ونسفوا أحلامهم بالسيطرة على المنطقة.
وتؤكد المصادر أن وقوف السعودية مع الشعب المصري إبان ثورة 30 يونيو وثورة 25 يناير كان من أقوى المواقف التي دعمت مصر دوليا، وكان الملك عبدالله حليفا قويا ضد انتشار نفوذ جماعات التطرف الإسلامي وتناميه، وكان أول رئيس دولة يزور القاهرة بعد فوز الرئيس عبدالفتاح السيسي في الانتخابات الرئاسية.
والرياض ساهمت في رفد الاقتصاد المصري المتدهور بمليارات الدولارات وأيضا بمبادرة مؤتمر للدول المانحة وأصدقاء مصر لانتشالها من عثرتها الاقتصادية، وجمع ما لا يقل عن 60 مليار دولار للاستثمار في مصر. وهناك مشاركة متوقعة من نحو ألف شركة ومستثمر سعودي، في مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي في مارس المقبل، في قطاعات متباينة.
في المقابل أكّد الرئيس المصري عبدالفتّاح السيسي، في أكثر من مناسبة أن أمن مصر من أمن السعودية ودول الخليج العربي، وهو موقف لا ينفصل عن مواقف كثيرة جمعت البلدين منذ عهود سابقة وتعكس بوضوح متانة العلاقات المصرية السعودية التي يتوقع متابعون أنها ستستمر في تميزها في عهد القيادة السعودية الجديدة.
تاريخ العلاقات المصرية السعودية بدأ منذ تأسيس المملكة العربية السعودية عام 1932، وككل العلاقات مرّت بفترات شدّ وجذب، وتعرّضت لمطبات وعراقيل وأزمات مختلفة، كان أشدّها خلال فترة الستينات من القرن الماضي، عندما تدخل الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر في اليمن عسكريا. وهو الأمر الذي أقلق الرياض ودخلت حينها مع القاهرة في مناوشات متبادلة.
لكن، أيضا شهدت العلاقات بين مصر والسعودية، تدخّلات حاسمة ومواقف أخويّة، خاصة في حرب أكتوبر 1973، حيث كان الملك فيصل بن عبدالعزيز واحدا من بين ثلاثة، رفقة الرئيس المصري الراحل أنور السادات، والرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، على علم بموعد الحرب التي شنتها مصر وسوريا على إسرائيل. وكان قرار الرياض بوقف ضخ البترول للغرب قرارا سياديا مهما في ذلك الوقت.
وأكدت مصادر رسمية مصرية ل "العرب" أن القادة الجدد في السعودية يرتبطون بعلاقة وطيدة مع مصر، عسكريا واقتصاديا واستراتيجيا، وعلى رأسهم الملك سلمان بن عبدالعزيز، الذي يتمتع بتاريخ عروبي، يتصدّره اشتراكه شخصيا، في شبابه، في المقاومة الشعبية إلى جوار شقيقه الأكبر الملك فهد، خلال العدوان الثلاثي (بريطانيا وفرنسا وإسرائيل) على مصر عام 1956، إضافة إلى دوره المحوري المستمر كممثل للدعم السعودي لمصر، عقب ثورة 30 يونيو.
وخلال الأعوام القليلة الماضية وصلت العلاقات بين البلدين، إلى مستوى التحالف الاستراتيجي المتكامل، الذي يمثل قاعدة لتحالف عربي من المتوقع أن تقوده المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية مع مصر، وهو تحالف يبدو أنه يراهن على الجيش المصري في مواجهة التهديدات الأمنية الإرهابية التي تحيط بالمنطقة العربية وصد طموحات إيران الإقليمية.
وكانت صحيفة "العرب" نقلت في عدد سابق، (نُشر في 23 /01 /2015، العدد: 9806، ص7)، عن مصادر عسكرية مصرية، أن هناك تنسيقا أمنيا بين القاهرةوالرياض وقوى إقليمية عربية لمنع انفلات زمام الأمور عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر.
وأشارت المصادر إلى أن ما يجري في هذه المنطقة الاستراتيجية، جس نبض من قبل إيران، الغرض منه قياس رد الفعل المصري والسعودي، واختبار مدى صلابة موقفهما وتعاونهما، أمام مواجهة بؤرة التوتر الجديدة، والتي يمكن أن تشغل قوات التحالف العربية عن مد بصرها إلى كل من العراقوسوريا والخليج العربي.
أكّد عمرو الشوبكي، الخبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية أنه من المرجح أن تظل السياسات الخارجية للمملكة دون تغيير، نظرا إلى حساسية الملفات المعنية بها، على غرار تهديد الدولة الإسلامية وصعود الحوثيين إلى السلطة في اليمن والانقلاب على المبادرة الخليجية ونوايا طهران في المنطقة، فضلا عن الصراعات في سورياوالعراق وما يجري في لبنان.
واتفق معه في الرأي، طارق فهمي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، قائلا إن سياسة السعودية تجاه مصر، في عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز، ستظل ثابتة لدعم استقرار المنطقة. والثبات والاستقرار هذان تشارك في ترسيخهما مجموعة من الأفراد في مراكز قيادية في البلدين، وقد لفتت المصادر، في هذا السياق، إلى الأهمية التي تنظر بها مصر إلى الدور الذي سوف يلعبه الأمير محمد بن سلمان، وزير الدفاع ورئيس الديوان الملكي، الذي يعد من أبرز القادة الجدد في المملكة، وهو من أصحاب التوجه القومي العربي.
وأشارت المصادر إلى الاتصال الذي تلقّاه الأمير محمد بن سلمان، عقب توليه حقيبة الدفاع، من وزير الدفاع المصري الفريق أول صدقي صبحي، وجرى خلاله تبادل الرؤى، والتأكيد على استمرار التعاون المشترك لمواجهة التهديدات الإقليمية، خاصة بعد الأحداث المتصاعدة التي شهدها اليمن مؤخرا، علاوة على تزايد تهديدات تنظيم "داعش" على مناطق شمال السعودية، والأطماع الإيرانية شرق المملكة.
في ظلّ هذه الأوضاع، يرى الخبراء، أن استمرار التعاون العسكري الاستراتيجي بين البلدين يحتل أهمية قصوى لدى قيادتيهما السياسية، وشددوا على أن اليمن الذي كان أحد أسباب الفراق بين القاهرةوالرياض من قبل، سيكون من أهم أسباب التلاقي حاليا. وهذه الأزمة كفيلة بإذابة أي جليد يمكن أن يتراكم على السطح، إذا حدث تباين في الأولويات، فهي أزمة تمس صميم الأمن القومي للبلدين، واللقاء على قاعدتها يتفوق على أي خلاف هامشي قد يظهر فجأة، وربما يكون التنسيق الحالي بين الأجهزة الأمنية في كل من القاهرةوالرياض دليلا قويا، لدحض الشكوك التي راودت البعض، وسعى آخرون إلى ترويجها عمدا.
وذكر خبراء أمنيون ل "العرب" أن ملف مكافحة الإرهاب، الضلع الأساسي الثاني، في مثلث العلاقة الذي يتكون من اليمن ومكافحة الإرهاب والدعم الاقتصادي، والذي سيتم مواصلة البناء عليه لتمتين العلاقات بين البلدين، ويؤكد أن التحالف بينهما يصعب تعرضه لهزات مفاجئة، لأن المصالح التي تحكمه قوية، ولا علاقة لها بأهواء أو رغبات جهة ما، فمصالح الدول الكبيرة تحكمها استراتيجيات يصعب أن تتغير بتغير الأشخاص.
هنا أشارت مصادر مطلعة أخرى ل "العرب" إلى أن التعاون في الملف الأمني المشترك، يديره الآن الأمير محمد بن نايف، صاحب الخبرة في مواجهة تنظيم القاعدة، والذي تعرض لمحاولة اغتيال من جانب التنظيم الإرهابي، قبل أن يكسر شوكته، ويحمي المملكة من الوقوع في براثن الإرهاب، وهو وسطي المنهج ومن أوائل الرافضين للتطرف، فكرا وتنظيما، ويعرف تماما أن دحر الإرهاب في مصر، يضمن تأمين المملكة العربية السعودية، والمنطقة من الإرهاب الذي يستهدف دولا عديدة فيها.
أما الضلع الأخير في المثلث الذي يتحكم في مرتكزات العلاقة المشتركة بين البلدين، فهو ملف الدعم الاقتصادي، ولدى القيادة المصرية مؤشرات ودلائل قوية، تؤكد أن المملكة العربية السعودية ستكون حريصة على الالتزام، بوصية الملك عبدالله بن عبدالعزيز، بدعم مصر اقتصاديا رغم الأحاديث التي تدور حول انخفاض الدعم السعودي المادي لمصر بصورة اضطرارية، بسبب تراجع أسعار النفط، الأمر الذي يمكن أن يحدث هزة في الاقتصاد المصري.
وأكد ذلك وزير الاقتصاد والتخطيط السعودي محمد الجاسر، حيث صرح خلال أشغال منتدى التنافسية الدولي الثامن الذي يعقد في مدينة الرياض، بأن الرياض ستستمر في تبني السياسات التي انتهجتها في عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز.
ملفات هامة تتعلق بالأمن القومي تجمع الرياضوالقاهرة وستدعم العلاقة بينهما أكثر لحماية المنطقة من الأطماع الإيرانية والتهديدات الإرهابية وتوقع ماهر هاشم، الخبير الاقتصادي، ألا تؤثر وفاة الملك عبدالله، على مصر اقتصاديا، حيث سيكمل المسيرة من بعده الملك سلمان، الذي يتميز بسعة الأفق والمرونة ويعي تماما دور مصر الإقليمي. كما توقع زيادة التماسك بين القاهرةوالرياض، خاصة وأن هناك العديد من الاتفاقيات المبرمة، من أبرزها مشروعات الطاقة والنفط وتمويل مشروعات في قطاع الكهرباء وتمويل استيراد مشتقات بترولية وإنشاء مصانع لمواد البناء بقناة السويس باستثمارات تصل إلى 500 مليون جنيه.
وفي ذات السياق، قال جمال البيومى، رئيس اتحاد المستثمرين العرب، في تصريحات صحفية سابقة، إن المساعدات السعودية والخليجية إلى مصر تأتي في إطار الأمن القومى العربي. كما يرى مراقبون أنّ الحفاظ على التوازن الاقتصادي المصري يُعتبر مسألة هامة وجوهرية بالنسبة إلى السياسة السعودية التي تعول كثيرا على تقوية جيرانها وحلفائها العرب من أجل مجابهة الأخطار الإرهابية التي تتهدد المنطقة.
بدورها شدّدت مصادر مطلعة ل "العرب" على أن الدعم السعودي في صورته الاقتصادية دعم استراتيجي، يصعب انقطاعه أو تراجعه بشكل كبير، قبل أن يتماسك الاقتصاد المصري، ولدى الرياض فوائض مالية كبيرة، لن تتأثر بمساعداتها للقاهرة.
وتحسبا لمأزق من هذا النوع تشجع السعودية شركاتها ومستثمريها، على دخول السوق المصرية بكثافة، لأن هذه المساهمة لها فوائد سياسية وأمنية أيضا، وبالتالي لا مجال للحديث عن إمكانية تغيير سلبي في العلاقة بين مصر والسعودية، بل بالعكس، من المنتظر أن تتدعّم هذه العلاقة أكثر في عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز في ظل التحديات الإقليمية الكبيرة.