يعيش في فرنسا نحو ثمانية ملايين مسلم، ما يجعل من الإسلام الدين الثاني بعد المسيحية في هذا البلد. أكثرهم جاءوا من البلدان المغاربية وشمال أفريقيا سنوات الستينات والسبعينات، حيث كانت فرنسا تبحث عن اليد العاملة لمصانعها ومزارعها ومرحلة بناء طرقها ومؤسساتها.. لكن البعض يرى أنّهم يعانون أزمتي هوية واندماج تجعلهم لقمة سائغة للتطرف. ووفق تقديرات أخيرة، فإن نحو 30 في المئة من مسلمي فرنسا فقط يمارسون شعائرهم الدينية في المجتمع الفرنسي الذي يعيشون فيه، ورغم ذلك فإن الإسلام هو الدين الأكثر إثارة للجدل بفرنسا والمسلمون هم الأكثر عرضة للإثارة والتمييز لارتباطهم بشبح الإرهاب والحركات الجهادية التي طرقت أبواب فرنسا وصارت تهدد أمن واستقرار أجمل بلد في العالم وأكثره زيارة، حيث يجيئه سنويا نحو 30 مليون شخص من مختلف أنحاء العالم. والهجمات الإرهابية التي ضربت فرنسا الأسبوع قبل الماضي والتي نفذها ثلاثة مسلمين، من الجيل الثاني أو الثالث من المغتربين الذين جاء آباؤهم للعمل في فرنسا، اثنان منهم من أصول جزائرية والثالث من أصول أفريقية. ورغم تغير الخطاب السياسي الفرنسي هذه المرة وكيفية تعامله مع الهجمات الإرهابية لأسبوعية «شارلي إيبدو» والمتجر اليهودي، حيث صار يفرق بين الإرهاب والإسلام، في ظل حكم اليسار الفرنسي، إلا أن انتشار الفكر الجهادي المتطرف في أوساط المهاجرين والفرنسيين ذوي الأصول العربية وقيامهم بعمليات إرهابية على التراب الفرنسي، أعاد للسطح تساؤلات عدة خاصة لدى اليمين المتطرف، مثل: ما مدى الخطورة التي صار يشكلها المهاجرون المسلمون لأمن واستقرار فرنسا؟ هل للإسلام والمسلمين مكانة في فرنسا؟ هل يمكن للمسلمين العيش في ظل قوانين العلمانية التي تعد عملة فرنسا الأساسية؟ ما الحل أمام الانتشار السريع للأفكار الجهادية وسط أبناء المهاجرين الذين ولدوا وكبروا وتعلموا في المدارس الفرنسية رغم عدم شعورهم بالانتماء للبلد الأم (فرنسا). انتشار الفكر المتطرف ويقول خبير في مركز الوقاية من الانحرافات الدينية والأيديولوجية في باريس جمال مصراوي إنّ فكر المتطرف منتشر لدى الكثير من المهاجرين. ويتابع نصراوي الذي احتك بحكم عمله كخبير في مركز الوقاية من الانحرافات الدينية والأيديولوجية بالكثير من أبناء المهاجرين والفرنسيين ذوي الأصول العربية: «لا شك بوجود فكر جهادي متطرف اليوم في فرنسا بين المغتربين والفرنسيين من أصول عربية، وما حدث خلال هذا الأسبوع دليل على ذلك، فالصفحة الجديدة التي فتحتها فرنسا في تاريخها مع العمليات الإرهابية الأخيرة تؤكد كذلك.. أفكار متطرفة تجعل هذا الشباب يعيش في قطيعة مع المجتمع الفرنسي الذي يعيش فيه وتجعله لا يتقبل الآخر بل أكثر من ذلك يريد تصفيته أحياناً». ويربط نصراوي انتشار هذه الأفكار المتطرفة والجهادية بين أبناء المغتربين بتاريخ ومراحل الهجرة بفرنسا، حيث يعتبر أن الراديكالية الإسلامية كانت موجودة في البداية في البلدان العربية والإسلامية وانتقلت بعدها إلى المغتربين والمسلمين الذين يعيشون في فرنسا عبر عوامل عدة، آخرها كان عبر الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، وأولها ولعل أهمها هو عبر الهجرة والكيفية التي مرت بفضلها. فالجيل الأول من المغتربين في فرنسا، كانت سنوات الستينات، جيل ذاب داخل المجتمع الفرنسي الذي جاء يبحث فيه عن لقمة العيش وجمع المال للعودة بعدها إلى وطنه الأم، لا يعبر عن اهتمامه الديني ولا تقاليده، يعيش في انكماش وانغلاق، في غياب إتقان للغة وجهل للثقافة الغربية. فلا المغترب المسلم حاول الانفتاح على المجتمع الفرنسي الذي احتضنه ولا هذا المجتمع قبله وجعله واحدا من أفراده لأنه بالنسبة إليه يبقى أجنبيا يستفيد من يده العاملة وسيعود يوما إلى بلاده. أما الجيل الثاني من المغتربين فجاء خلال سنوات نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي، حيث بدأ يقرأ ويحاول أن يفهم هويته حقيقية، هل هو فرنسي أم عربي، الأمور الدينية بدأت تطرح بالنسبة إليه كذلك، والدين صار يشكل بالنسبة إليهم مشكلا اجتماعيا. وللهروب من حالات عدم الاستقرار والتساؤلات الكثيرة التي لم تكن لديه إجابات عليها في غالب الأحيان، اتجه أكثر نحو الدين الذي صار بالنسبة إليهم كملجأ. أما الجيل الثالث وهو الجيل الحالي الذي ينتمي إليه الأخوان الجهاديان كواشي وقبلهما محمد مراح وشباب آخرون نفذوا عمليات إرهابية على التراب الفرنسي، الدين بالنسبة إليهم صار أكثر من أي وقت مضى الملجأ والحل. وهذ الجيل يعاني من مشكلة هوية جوهرية، فكثير من أبناء هذا الجيل لا ركائز أسرية لديه، وعانى مشاكل عائلية كثيرة، وفقد معاني المواطنة والتعايش مع بقية فئات المجتمع لأنه يعتبر بأن هذا المجتمع ظلمه وظلم قبله والديه لذلك يجب الثأر منه، عن طريق تجسيد أفكار متطرفة وجهادية. عوامل التأزيم وساهمت عوامل كثيرة في تأزيم هذا الفكر المتطرف عند المهاجرين وتحوله إلى عمليات جهادية كالمساجد التي تتحكم في البعض منها تنظيمات راديكالية ذات فكر جهادي، أو ذهاب البعض لتعلم الدين في بلدان عربية صارت معقلا للحركات الجهادية كذلك كسورياوالعراق واليمن. كما لعبت وسائل الإعلام دورا جوهريا في تأزيم الوضع بسبب خلطها بين إسلام الفرنسي المهاجر البسيط داخل المجتمع الفرنسي مع الإسلام الجيوسياسي الذي يرتبط بتنظيمات إرهابية كالقاعدة وداعش وبوكو حرام. وما زاد من تعقيد الأمور هو غياب جمعيات محلية وممثلين للجالية المسلمة يقومون بدورهم من أجل إنقاذ هؤلاء الشباب المغرر بهم، وإبعادهم من مخالب الفكر الجهادي. طلب مساعدة من جانبه، يقول عميد مسجد باريس ورئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية دليل بوبكر إنّ «على الدول الإسلامية مساعدتنا لوقف انتشار الأفكار الجهادية بين المسلمين في فرنسا». ويرى د. بوبكر، وهو من الشخصيات المسلمة الأولى التي التقت الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند مباشرة بعد وقوع الهجومين الإرهابيين في فرنسا قبل ثمانية أيام، أن فرنسا تواجه حربا مفتوحة على الأفكار الجهادية المتطرفة من جهة لدى الشباب الفرنسي المسلم، والأفكار العنصرية المناهضة للمسلمين لدى بعض الفرنسيين من جهة أخرى، لذلك يجب الإسراع في إغلاق أبوابها وتكتيف جهود جميع الفرنسيين من أجل الخروج منها منتصرين. ويستشهد دليل بوبكر، وهو إمام مسجد باريس الكبير الذي يعتبر إحدى الجمعيات المسلمة الثلاث الكبيرة في فرنسا، بعدد الاعتداءات والهجومات العنصرية الكثيرة التي تعرضت لها الجالية المسلمة والمهاجرة بفرنسا غداة الهجمات الإرهابية للأسبوعية الفرنسية والمتجر اليهودي. ويرى دليل بوبكر بأن فرنسا اليوم بحاجة ماسة اليوم إلى تكاتف جهود السياسيين ورجال الدين معا من أجل إنقاذ هؤلاء الشباب المغرر بهم ووقف زحف الأفكار الجهادية المتشددة التي تحارب قيم المجتمع الفرنسي الذي يعيشون فيه من جهة. الجهل مفتاح التطرف بدورها، ترى رئيسة معهد الدراسات الجيوسياسية في باريس ومؤلفة كتاب «الإسلام والمرأة» د. زينة الطيبي أن التطرف الديني موجود في جميع الديانات السماوية، عند المسيحيين واليهود والمسلمين. ولكن لحسن الحظ أن هؤلاء المتطرفين قلائل، وغالبا ما يزداد عددهم وينتمون في ظل جهلهم لركائز الدين الحقيقية، يفضلون القيام بردود أفعال بخصوص مسائل سياسية لا علاقة لها بالدين، كالصراع في الشرق الأوسط والأزمة الفلسطينية. لذلك يجب على بلدان معروفة بوزنها على المستوى العربي والدولي ومتمسكة بأصول الدين الإسلامي كالإمارات العربية والمغرب لعب دور كبير في تهدئة هذه الأفكار الدينية المتطرفة. أما في ما يخص مدى انتشار هذه الأفكار في فرنسا وسط المهاجرين والعرب فتقول زينة الطيبي بأن فرنسا «كانت دائما أرضا مرحبة ومنفتحة على الغير، وبعد استقلال العديد من دول شمال أفريقيا ووسطها، فتحت فرنسا ذراعيها للذين كانوا يبحثون عن عمل». وتقول الطيبي إنّ التطرف الديني في فرنسا يؤثر على طبقات قليلة منفردة وفي كثير من الأحيان هامشية، وتعرب عن اعتقادها أنّ «المشكلة تكمن في التوجيه الديني السليم وتلقين المعلومات الصحيحة عن الدين». أزمة هوية؟ وفي رد على سؤال ل«البيان» عن عيش الشباب المهاجر أزمة هوية تدفعه نحو الأفكار المتطرفة تقول د. الطيبي: «لا»، وترى في المقابل أنّ المسألة في المجتمع الفرنسي هي أزمة اقتصادية تمر بها البلاد في الفترة الراهنة أكثر ما هي أزمة هوية لبعض أفرادها، بالإضافة إلى غياب عوامل الاندماج داخل المجتمع. وتضيف: «إن كانت هنالك أزمة هوية، فمن المفترض أن تصيب الجميع بسبب عجز الدولة والجماعات النخبوية من إعطاء معنى للشعور بالمواطنة الفرنسية». محللون: شمال إفريقيا ضمن أي مشروع أوروبي لمواجهة الإرهاب
ينتظر أن تخصص القمة الأوروبية المرتقبة في 12 فبراير في بروكسل لمكافحة الإرهاب بعد الاعتداء الدموي على صحيفة شارلي إيبدو حيث بات الإرهاب يمثّل التحدي الأكبر للدول الإوروبية.
وأعلن رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر عزمه على اقتراح برنامج جديد لمكافحة الإرهاب على الدول الأعضاء وقال: «سنقدم برنامجاً جديداً لمكافحة الإرهاب في الأسابيع المقبلة»، موضحاً أنه «من المبكر جداً إعلان التفاصيل لكننا سندرس مسارات عدة» غير أن مراقبين يعتقدون أن الحكومات الأوروبية ستتجه نحو محاصرة المد الإرهابي ماليا واقتصاديا وإعلاميا ومعلوماتيا، وسيصبح على المسافر على الطائرات الاستظهار بهويته قبل 24 ساعة من الرحلة للتأكد من سوابقه وميولاته وما إذا كانت له علاقات بالجماعات المتطرفة. كما تتجه الدول الغربية للاتفاق حول محاصرة المواقع الإرهابية على شبكة الإنترنيت والى التمحيص في الموارد المالية للجماعات والمنظمات الدينية إضافة الى تحديد موقف حاسم من المقاتلين الأوروبيين في بؤر القتال وخاصة سورياوالعراق وسحب الجنسيات ممن يعود أصولهم الى دول أخرى حيث ستطرح مسألة تعزيز الدفاعات الأوروبية خصوصاً لمواجهة المشاكل التي يطرحها الشبان الأوروبيون الذين يجندون للقتال في سورياوالعراق على جدول أعمال الاجتماع الذي يعقده وزراء الخارجية الأوروبيون في بروكسل في 19 يناير. تيقّن متأخّر ويقول المحلل السياسي التونسي عبدالحميد بن مصباح إن عواصم الغرب أيقنت أخيرا أنها ليست بمعزل عن خطر الإرهاب وأن عليها أن تتجاوز ماضيها الذي كانت فيه عواصمها مفتوحة للمتشددين ممن كانت ترى فيهم معارضين إسلاميين لأنظمة استبدادية في بلدانهم. ويضيف بن مصباح أن جيلاً جديداً من الإرهابيين ظهر للوجود متشبعا بفكر وجد طريقه إليهم عبر خطاب ديني متشنج ومن خلال الكتاب والفيديو ووسائل الاتصال الحديثة والمناشير، وقال بن مصباح: إن هناك خطاباً دينياً متطرفاً تم تصنيعه في المخابر لمواجهة أعداء الغرب غير أنه أفلت من تلك المخابر وتجاوز الحدود وبات اليوم يهدد الحضارة الغربية، ولم يعد أمام أوروبا إلا أن تستمع بجدية الى العواصم العربية وتبحث معها عن مسارات مشتركة لمواجهة الأخطار المحدقة بالجميع. ويقول القيادي في حركة نداء تونس والخبير في شؤون الجماعات الإسلامية د. ناجي جلول إن أوروبا ستتجه الى مرحلة جديدة في تعاملها من الإرهاب من خلال التضييق على الجماعات الدينية في الداخل والخارج حيث لم يعد مقبولاً بالنسبة للأوروبيين استمرار الوضع على ما هوعليه سواء في العراق أو سوريا أو ليبيا، كما أن العواصم الأوروبية أدركت أن مشروع العولمة جرّ وراءه عولمة الإرهاب الأمر الذي يتطلب وعياً كاملاً بدور وسائل الاتصال الحديثة في خدمة الإرهابيين. ويضيف جلول أن على الأوروبيين أن يدركوا أن هناك المسلم العادي وهناك الإسلامي الذي يستغل الدين لأهداف سياسية، وهو واحد في جميع الحالات سواء كان إخوانياً أو سلفياً جهادياً أومن «داعش» أو من «القاعدة». إرهاب بلا وطن ومن جهته، يؤكد أستاذ الإعلام في الجامعات الليبية والمحلل السياسي د. عبدالكريم العجمي أن أوروبا أدركت أخيراً أن الإرهاب ليس له وطن وهو يتمدد في كل مكان وأن الإرهاب وحش يضرب حيث يجد الفرصة المناسبة، مشيرا الى الوضع الليبي الخاضع للجماعات المتطرفة والذي يمثّل خطرا على أوروبا ورغم ذلك فإن العواصمالغربية تبدو غير عابئة به وكأنه يدور في كوكب آخر. ويضيف العجمي أن منطقة شمال إفريقيا وخاصة المنطقة المغاربية ستكون معنية مباشرة بأي إجراءات أوروبية جديدة في إطار مكافحة الأرهاب وأن أوروبا لن تنجح في مواجهة المد الإرهابي دون تنسيق كامل مع الدول العربية التي تواجه مخاطر التطرف وتدفع دماء أبنائها في سبيل مقاومته والحد دون انتشاره. رغبة وتحفّظ تريد المفوضية الأوروبية تعزيز جمع وتبادل المعلومات داخل الاتحاد الأوروبي لكنها تصطدم بتحفظات الدول والنواب الأوروبيين. وبحسب الرئيس النمساوي هاينز فيشر فإن طريق الإرهاب ومفاهيمه وأفكاره تصل دوماً إلى طريق مسدود مما يتطلب إجراء دراسة تمنع الشبان المغرر بهم من الانسياق وراء دعوات الإرهابيين. نقلا عن البيان الإماراتية