تقيم مؤسسة الأهرام يوم الأربعاء القادم حفل تكريم للشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي بمناسبة صدور ديوانه المربعات عن الهيئة العامة للكتاب، وأيضاً بمناسبة عيد ميلاد الخال، الذي يحل يوم 11 إبريل. وستكون هذه هي المرة الأولي للأبنودي منذ 7 سنوات يحضر فيها إلى القاهرة حيث يعيش في عزلة إجبارية بريف الإسماعيلية، بنصيحة الأطباء. الخال لم يعد يتحمل تلوث القاهرة على الإطلاق، وقد حكي أنه حاول المجىء إلى القاهرة منذ شهور، وحينما أصبح في مدخلها شعر بالتعب الشديد، وهكذا عاد فوراً إلى الإسماعيلية. وقد كتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل مقدمة ديوانه الجديد، وهنا ننشرها كاملة. هيكل : لا يحتاج عبد الرحمن الأبنودي -بالطبع- إلى من يقدمه للناس، لأنه حاضر أمامهم طلعةً وطلةً، وصوتًا هادرًا، وجاذبية مغناطيس يشد ما حوله. ولا يحتاج عبد الرحمن الأبنودي إلى من يحلل الإنسان فيه، فالخلاصة في شأن الأبنودي أنه شراع على النيل جاء من صعيد مصر مرتحلاً إلى الشمال، حاملًا معه خصب النهر العظيم ينثره حيث يصل، ويحول الطمي بالفن إلى زهر وورد، وإلى شوك أحيانًا. وأخيرا لا يحتاج عبد الرحمن الأبنودي إلى من يمهد لعمله، فذلك العمل أغنية تتردد صوتًا وصدًي في أرجاء الوطن. وحين سألني عبد الرحمن الأبنودي إذا كنت أستطيع تقديم مربعاته عندما تُنشر على شكل كتاب، فإن طلبه أسعدني ليس فقط لأنني كنت أتمني لهذه المربعات أن تظهر كاملة على شكل كتاب، وإنما سعادتي أن طلبه جاء فرصة متجددة أقرأ فيها المجموعة موصولة ببعضها. بعد أن تابعتها يوما بيوم تنشر منقطعة على صفحات جريدة يومية. وتصورت في كل الأحوال أن قراءة المخطوطة في صورتها الأصلية وقبل أن تدور بها المطبعة فرصة حميمة بين المربعات وبينى، تتيح لي قراءتها مكثفة مركزة!! تحمست -إذن- لكتابة مقدمة للمربعات دون أن يخطر ببإلى لحظتها أن الأمر أصعب مما تصورت، وأعقد مما قدرت!! عندما قرأت هذه المربعات من جديد مرة واحدة، وباهتمام غير منقطع، تجلت أمامي مربعات الأبنودي على صورة مختلفة. تذكرت المقولة الشهيرة التي سمعناها قبل أربعة قرون من فلاسفة جامعة «فرايبورج» -وهي من أوائل جامعات زمن النهضة- أن كل الأنهار تتسابق إلى البحر، إشارة إلى وحدة المعرفة مع كثرة المنابع!! في القراءة المتقطعة الأولي فإن المربعات كل يوم بدت لي نوافذ على فضاء لا يصل إليه النظر، وعند القراءة الثانية الموصولة سياقًا واحدًا بدت لي المربعات أفقًا غير محدود، ساحة بحر واسع، لكنه خضم حافل بكل فصول الطبيعة في الوقت نفسه، في اللحظة ذاتها. صامت هادئ في موقع، غاضب هائج في موقع آخر. نائم حالم قرب صخرة، ثائر جامح يضرب نفس الصخرة بقوة إعصار. ساءلت نفسي طويلا كيف يمكن وصف هذا المشهد غير الطبيعي على لوحة الطبيعة ذاتها: ساحة واحدة، ومناخ تتباين ظواهره من صيف إلى شتاء، ومن ربيع إلى خريف، وشراع مرفوع دخل إلى البحر قادمًا من النهر. سر مربعات الأبنودي يتجلي عند القراءة الموصولة. هو محاولة جديدة وتلقائية ما بين الأدب والسياسة، بين الفكر والتاريخ، بين الفن والثورة. هو شاعر عاش وسط الجماهير وهي تحاول بالثورة أن تصنع مستقبلًا، وهو لا يغني لهذا المستقبل من بعيد، وإنما ينشد من وسط الجموع وبلغتها، وهي تتدافع بالزحف أحيانًا، وبالتراجع أحيانًا أخرى، خطوة بالأمل وخطوة بالألم. وهي أحيانا صيحة بالفرح تهلل، وفي أحيان أخري جرح بالوجع مفتوح!! والثائر الشاعر في قلب المعمعان، هو الثائر يومًا، وهو الشاعر في اليوم التالى، هو الفعل في الصبح، وهو الضمير في المساء. ما يدعو للتأمل أن عبد الرحمن الأبنودي واصل كتابة مربعاته سنة كاملة، يومًا بعد يوم، وصباحًا بعد صباح، لا يسكت ولا يهدأ ولا يكل ولا يمل. يصيح بالقلق على السياسة أن تتماسك لتصنع تاريخًا، ويصرخ بالنذير حتي يمنع النسيم أن يتحول إلى عاصفة، ويمسك بالجمع لا ينفك إلى شراذم، ولا يتفرق إلى هباء!! يريد للتاريخ أن يتحول إلى نبوءة، ولا يريد للسياسة أن تتحول إلى لعنة. وهو يواصل المحاولة لعام كامل، مربع إلى جانب مربع، نافذة بعد نافذة، ثم تتجمع النوافذ وتنفتح على بعضها، فإذا هي بحر متلاطم، وأفق بعيد، والقراءة الموصولة للمربعات هي وحدها التي تكشف وتبين!! ساءلت نفسي بعد القراءة الثانية الموصولة للمربعات، بعد سنة كاملة واصل فيها عبد الرحمن الأبنودي كتابة مربعاته، ثم أغلق دفترها ونحي القلم. هل استراح واطمأن، ورأي أن يعطي نفسه لحظة هدوء وصفاء بعيدا عن صخب البحر وموجه العاتي وصخره؟! أم أن القلق استبد به خشية أن يضيع صوته في اللا محدود يطغي عليه هدير البحر ويغطي نشيده؟! هل أرهقه الإيقاع المنتظم كل صباح وحسبه قيدًا على الشاعر، لأن الشراع لا يطيق قيدًا أو رباطًا، ولا خطًّا ملاحيًّا يحدد مسار حركته مسبقًا من النهر إلى البحر؟! لا أعرف جوابًا قاطعًا، لكني أعرف أن الشراع القادم على النيل من صعيد مصر إلى شمالها ما زال يصارع في أعإلى البحار، والريح ما زالت تملأ ذلك الشراع، وهو يواصل رحلته إلى أفق لم يظهر بعد شاطئه.