روى الإمام البخاري (رحمه الله) في صحيحه عن أنس يرفعه: «إن الله يقول لأهون أهل النار عذابًا: لو أن لك ما في الأرض من شيء كنت تفتدي به؟ قال: نعم، قال: فقد سألتك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم، أن لا تشرك بي فأبيت إلا الشرك» (البخاري رقم 3334)أنس) هو أنس بن مالك خادم رسول الله (صلى الله عليه وسلم). (يرفعه) كلمة يستعملها المحدثون في موضع: (قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم). (لأهون) أي أقل أهل النار عذابا. (ما في الأرض من شيء) أي جميع ما في الأرض . فبعد أن يحكم الله (سبحانه وتعالى) بين عباده يوم الحساب، ويذهب إلى الجنة أصحابها، ويذهب إلى النار أصحابها، تدور حوارات بين الفريقين، يحكيها لنا القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [سورة الأعراف آية : 44]، وتكون مشاهد يكلم فيها الله (سبحانه وتعالى) أهل الجنة وأهل النار، ولكن شتان ما بين الفريقين.. ويصور لنا هذا الحديث مشهدا من تلك المشاهد، حيث يسأل الله (سبحانه وتعالى) رجل من أي أقل أهل النار عذابا، قيل: هو أبو طالب عم الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فعن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) أنه سمع النبي (صلى الله عليه وسلم) وذُكر عنده عمه، فقال: «لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه» (البخاري رقم 3596)، والضحضاح هو الحفرة من الماء تبلع الكعبين. يسأل الله (سبحانه وتعالى) أهون أهل النار عذابًا سؤالا على سبيل الاستخبار لا الاستفهام؛ لأن مثل هذا لا يليق بالله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ).. يقول (سبحانه وتعالى): لو كنت تملك جميع ما في الأرض من ذهب ومعادن، ومزارع وأنعام ، وملك وسلطان وبحار وأنهار، هل كنت تفتدي نفسك به من ذلك العذاب الهين عند الله (سبحانه وتعالى)، العظيم بمقاييس البشر؟ فيجيبه بالإيجاب، وفي هذا دلاله على عظم ما يلاقيه في ذلك اليوم المهيب، وهذا ندم يوم لا ينفع فيه الندم، فالله (سبحانه وتعالى) لم يطلب منه أن يتخلى عما يملك على زهده وقلته وحقارته، ولكنه طلب منه ألا يشرك به (سبحانه وتعالى).. فللمرء أن يتمتع بكل ما يملك، ولكن وهو مؤمن، وبمقاييس وضوابط وحدود الله (سبحانه وتعالى). وتشير عبارة (وأنت في صلب آدم) إلى الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم وهم في صلب آدم، وهو مراد (قوله تعالى): (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) [سورة الأعراف آية : 172 وقد روى البخاري عن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترةٌ وغبرةٌ، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب، إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد، فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين، ثم يقال: يا إبراهيم، ما تحت رجليك؟ فينظر، فإذا هو بذيخ ملتطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار» (البخاري رقم : 31019). (قترة وغبرة) الغبرة الغبار من التراب، والقترة السواد الكائن عن الكآبة. (لا تعصني) أي لا تتبع شيطانك وتخالف ما جئت به من الحق. (الخزي) هو الهوان والذل. (الأبعد) أي من رحمة الله بكفره وشركه وفسقه. (ذيخ) الضبع. (متلطخ) متقلب في مادة نتنة. وهذا الحديث يسير في نسق الحديث السابق، فعم الرسول (صلى الله عليه وسلم) في النار؛ لأنه مات على الكفر، وأبو إبراهيم أيضا في النار؛ لأنه أصر على الكفر والعناد، ولم يتبع ابنه فيما جاء به من هدي رب السماء، فيصف لنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مشهدا من مشاهد الآخرة بتفاصيله الدقيقة.. إنه مشهد لقاء سيدنا إبراهيم (عليه السلام) بأبيه يوم القيامة، وتظهر عليه علامات الخزيان والذل، والكأبة، وصدق الله العظيم: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ) [سورة عبس آية : 40- 41]، وينقل الرسول لنا (صلى الله عليه وسلم) الحديث الذي دار بين سيدنا إبراهيم وأبيه، حيث يتوجه إليه بحرص وشفقة البنوة، معاتبا له عدم الإيمان بالله وعدم تصديقه فيما جاء به من خير من عند الله (عز وجل)، فيجيب الأب بما لا ينفعه: اليوم لا أعصيك.. لكن فات أوان العمل .. إنه وقت الحساب والجزاء، قال تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ) [سورة السجدة آية : 12]، وقال تعالى: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [سورة فاطر آية : 37]. هنا يتذكر سيدنا إبراهيم (عليه السلام) وعد الله له ألا يخزيه يوم القيامة، وهو الذي يحكيه القرآن الكريم لنا في قوله تعالى: (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) [سورة الشعراء آية :86 - 87]، ومعلوم أن خزي الوالد خزي الولد ,أبوه من أصحاب النار، قال تعالى: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) [سورة آل عمران آية : 192]، ولذلك يمسخه الله (سبحانه وتعالى) على صورة ضبع في صوره نتنة، حيث تزول الصورة التي هي سبب هذا الخزي، وهذا تطيب لخاطر إبراهيم، وقيل: حتى تنفر نفس إبراهيم منه، ولئلا يبقى في النار على صورته، فيكون فيه غضاضة على إبراهيم (راجع فتح الباري). وصدق الله العظيم حيث يقول: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [سورة التوبة آية : 113- 114] فالله (سبحانه وتعالى) قد قضى ألا يغفر لمشرك، ولذلك لا ينبغي لأحد من خلقه وإن كان نبيا أن يسأل ربه أن يفعل ما قد علم أنه لا يفعله.عاقبة ،الشرك ،البخارى ،أهل النار ،الأرض ،الجنة