لقد أسدل الستار على واحد من أهم الشخصيات الوطنية، النضالية، الزعامية، الإفريقية، الذي كافح ضد سياسات التمييز العنصري، لتتصدر ذكرى وفاته الأولى، العناوين الرئيسية، والنشرات الإخبارية، في دوائر الإعلام المسموعة، والمقروءة، والمرئية، على المستويات المحلية والدولية. عندما قررت القراءة عن مانديلا لأتعرف أكثر عن سيرته الذاتية، لم أجد أهم من الكتاب الذي كتبه بنفسه بعنوان: "Long Walk to Freedom" أو (الطريق الطويل إلى الحرية), كتبه في عقله صغيرا، بعد أن أدرك مبكرا، في طفولته، أن الأسود مهان، ومستهان، ومضطهد، فشهد عددا من الإهانات، والتعديات، والسوءات، والمسبات، والحكايات، والروايات، التي شكلت وعي، وفهم، مانديلا السياسي، والإجتماعي، فضبطت بوصلة نضاله، وإرتوت بؤرة قكره، وعقله، بعرق الأجداد، وندى الأحفاد، فبدأت بشائر الطريق الطويل تنهمر، وأمل الكتاب بدا يزدهر، فكتبه كبيرا بين جدران الزنزانة، في غيبابت السجون، في عتمة النهار، وغبطة الليل، وظلمة السيل، بعدما فاض الكيل، وغدر الدنيا، وتسفيه العليا، وحقارة الأعداء، وحقد الأغبياء، بعدا عن تعاليم الأنبياء، وغياب الأنقياء، وإختفاء الأصفياء. ورغم طبيعة التحديات التي واجهها هذا المغوار كسجين سياسي، علم نفسه كيفية البقاء على قيد الحياة، وزرع بزور الأمل في نفسه، والبعد عن اليأس، وتفويت الفرصة على السجان في كسر روحه وعزيمته، فكرس وقته، وعقله، في محبسه، للعلم والتعلم. فخرج هذا المؤلف الرائع، بعد 20 عاما من كتابته، بعد حقبة من الزمن، سطرته بقلم من نور، وسطور البنور، بحبر الأمل، والحس على العمل، وكلمات مخلوطة بالشجاعة، مكتوبة ببراعة، بعيدا عن السمع والطاعة، عبارات ليست فيها يأس، أو بأس، ولكن بالعكس، عبارات تمنحك قوة الإمساك بالفأس، فكتبه في عام 1974، وخرج للنور كتابا، عام 1994، وفيلما سينمائيا عام 2013. فكان مانديلا كاتبا مبدعا، وفارسا نبيلا حتى في حروبه مع خصومه، فتعلم وهو طفل صغير، كيف يحارب خصمه، دون أن يمتهن حقه، أو يحقر من شأنه. أنصح بقرائة هذا الكتاب، للتعرف على دهاليز هذا الأسد، وأفضل النسخة الإنجليزية الأصلية لمن يجيدها. كتاب (طريق طويل الى الحرية)، يبرهن أن الطريق الطويل، والكفاح الأصيل، أثبت أن صوت الحق، أبعدنا عن زمن الرق، وصوت الضمير، وإن بدا ضيئلا، ضعيفا، فهو لا محالة، يمهد الطريق، لرصف المستحيل، لتخفيف العبئ الثقيل، وطرد العميل، وتحقيق الحلم، وترميم السلم، إستجابة للعلم، حتى يظهر على جنبات هذا الطريق، أن المبادئ التي كانوا يقاتلون من أجلها في أوروبا، هي نفس المبادئ التي يدعو إليها المناضل مانديلا في أفريقيا، من أجل كرامة الإنسان، ودعم البنيان، لأصحاب العقول الثرية، تحقيقا للديمقراطية، لمواطنة حقيقية، وإلغاء التشريعات التمييزية، فنقل مانديلا الحراك الوطني إلى الشارع، كما نقل إيمانه بأن التحرر القومي من الأفارقة سوف يتحقق بواسطة الأفارقة أنفسهم، رغم أن مانديلا، على عقيدة، أن كل شيء، قد يبدو مستحيلا في أوله، ولكن مع التحدي، والعزيمة، والإصرار، تكون النتائج متوجة بتاج النجاح. الدليل على ذلك، أن كفاح المناضل مانديلا، ظل صامدا لسنوات طويلة، يقابله تعنت النظام، وإستخدامه للقمع والوحشية، لإنقاذ السياسة العنصرية، وفرض حالة الطوارئ، فتصاعدت فيه الضغوط الدولية، خضوعا للمطالب الشعبية، بيد أن أن سياسة الفصل العنصري قد حفرت جرحا عميقا، يحتاج أعواما وأجيالا، للتعافي من هذا البلاء والإبتلاء. من أجل ذلك تبنى البطل مانديلا في دعواته وسياساته، للتصدي لهذا النظام القهري، مبادئ البطل (غاندي) التي تقوم على السلم لا الحرب، فإستخدم سلاح (العصيان المدني)، فوصلت سياسة اللاعنف المانديلي، صداها أنحاء العالم، وبالفعل بدأت تجني ثمارها، بعد إندلاع الإحتجاجات، والإضرابات، شارك فيها المهنيون، والحرفيون، والدارسون، والمدرسون، هنودا وأفارقة، فأدركت الحكومة أن تكوين جبهة موحدة من مختلف الجماعات العرقية، يشكل تهديدا لأمن النظام، وسياسته العنصرية. كتاب طريق طويل الى الحرية، كان، ومازال، وسيظل، ملحمة مانديلا مع الحرية، والحق، والخير، والجمال، والكرامة الإنسانية، والعدالة الإجتماعية. هذا الكتاب العظيم لم يروي السيرة الذاتية لنيسلون مانديلا فقط، بل هي مسيرة تروي قصة كفاح شعب، عاني من أبشع صور القمع، والقهر، والذل، والمهانة، والإهانة، والإستهانة، حتي إستطاع أن ينتزع حريته من براثن الإرهاب والفساد والديكتاتورية. نقل مانديلا الكثير من خلال هذه الموسوعة النضالية، والحقيقة التاريخية، والمراجع التنويرية، والمصادر المنارية، فكان هذا المؤلف مسيرة من أهم المنابر التي يمكن من خلالها التعرف علي ملامح تجربته النقية، العفية، الفتية، الفذة، التي أسفرت بعد أكثر من نصف قرن عن إنتصار إرادة المضطهدين . يجعلك هذا الكتاب وأنت تعيش بين طيات صفحاته، وسطور عبقريته، تشعر وكأنك تعيش التجربة الإفريقية، التي قادها شعب مظلوم، مكلوم، عاش مغلوبا علي أمره لمئات السنين، مسلوب الإرادة، معدوم القيمة، مأخوذ القدرة، بلا حق وكيان، كالعريان، ضد نظام من أشرس الأنظمة، وأشدها قوة وغباء. ولكن.. وبفضل الله، ثم الإصرار، والتحدي، تمكنوا وهم الصفراء ضد الكبراء، والضعفاء ضد الأقوياء، والفقراء ضد الأغنياء، والمحتقرون ضد المعززون، فقاموا بزعزعة النظام وكسب ولاء جميع الشعوب، ومؤازرة الحكومات، ومساندة المنظمات. إن الميزة الرئيسية لشخصية نيلسون مانديلا، التي كانت أساسا في نجاح مسيرته، وإبداع كتابه، وخروجه من مخبأه، أنه كان رمزا لنضال شعب جنوب أفريقيا، علي إختلاف أعراقهم، فكانت رمزية مانديلا، نورا إلتفوا حوله جميعا، وكذلك صدق إيمانه، بحقوق أمته، وشعبه، وصلابته، وقسوته في التمسك بهذه المبادئ والحقوق، طوال طريقه الطويل الى الحرية، نحو مسيرته النضالية، بلا هوادة، أو مساومة، كذلك تميز البطل بسماحته، وتسامحه مع أعدائه، بعد إنهيار دعائم النظام العنصري اللعين، وقائده الملعون، وأذعن البيض إلي القبول بالعيش كغيرهم، مواطنين في ظل دولة المساواة والعدالة. المتحدث الرسمي بإسم النادي الدبلوماسي الدولي [email protected]