لعبة أصحاب المصالح والنفوذ لبث الروح لنظام لفظه الشعب ■ اختيار توقيت حوارات وتسريبات للرئيس المخلوع فى نصر أكتوبر محاولة لجلب التعاطف معه ■ رجال النظام الأسبق يسعون للعودة مرة أخرى للحياة العامة بتجميل مبارك والتحرك على الأرض بهدف السيطرة على البرلمان
قبل أن ننتهى من هؤلاء المغفلين ب«وهم» عودة مرسى، خرج علينا الطامعون إلى إعادة الحياة لنظام مبارك، عبر عمليات «غسيل سمعة» مستفزة ومتبجحة، استخدم فيها حوارات صحفية وتليفزيونية، لمبارك نفسه أو من يدافعون عنه.
وتسعى عملية غسيل السمعة لهذا النظام أن تزيل حقائق محفورة فى عقول المصريين، لا تحتاج لمن يذكرهم بها.. لأنهم عاشوا مآسيها على مدار 30 عاماً.. ومازالوا يعانون من تبعاتها حتى هذه اللحظة، بعدما أصاب البلد فى عهده الممتد من عملية تجريف، آثارها ظاهرة على حياة المصريين وصحتهم واقتصادهم وشوارعهم وثقافتهم.. تحتاج لسنوات كى نرمم ما حدث.
يبدو أن الطريقة التى ظهر مبارك فى أول حوار صحفى له، بعد أن تم خلعه فى 11 فبراير 2011، أن أركان نظامه المتداعى، تتطلع لقبلة الحياة مرة أخرى، تريد أن تجرى عملية غسيل سمعة لرمزها «حسنى مبارك»، بغية أن يعود نفوذهم ومصالحهم كما كانت فى العهد السابق.
ولكن رعونة «الجراحين» المستخدمين فى إعادة التلميع لوجه نظام مهترئ، فضحت ولم تستر!! ربما لم يدركوا أنهم يريدون تجميل جثة تحولت ل«جيفة»، لن تنفع فيها عمليات الشد والسنفرة، أو استعمال الدهانات. و ظهر ذكاء نظام مبارك فى اختيار توقيت حملة «غسيل السمعة» الذى اقترن بالمجد الشخصى لمبارك ودوره فى حرب السادس من أكتوبر، وهى النقطة التى استمد منها نظام مبارك شرعيته لمدة 30 عاماً، بعد أن صورت آلة نظامه الإعلامية أن صاحب «الضربة الجوية» له الفضل الأول فى الانتصار، بعد أن أغفل دور آلاف الشهداء، وقادة وجنود عظام شاركوا فى المعركة، لدرجة أن صور البعض انتزعت من غرفة عمليات الحرب، لتتصدر صور مركبة تبرز دور مبارك وتخفى من اختلف معه.
والغريب أن الحجة التى سعى نظام مبارك أن يعيد من خلالها تلميع نفسه، هى ورقة «المظلومية»، بأن احتفالات أكتوبر هذا العام، تغافلت دور مبارك وضربته الجوية، وكأن الثلاثين عاماً التى «أمم» فيها نظام مبارك النصر لزعيمه، لم تكن كافية لإعطائه حقه وزيادة، بعد أن تجاهل على مدار ثلاثة عقود الجميع لصالحه، ولم يتساءل هؤلاء: ألم يظلم نظام مبارك أبطال أكتوبر على مدار تاريخه، عندما تجاهل دور قادة آخرين، بداية من الفريق عبدالغنى الجمسى وسعد الدين الشاذلى.. وصولاً لجنود عبروا وضحوا، تم تجاهلهم، بعد أن اختصر النصر فى اسم صاحب الضربة فقط، وليس كل سلاح الطيران. نعود لحوار مبارك الأول، الذى لا نعرف مدى قانونية إجرائه، لشخص رهن الحبس، ولا ينفى وجوده فى مستشفى للعلاج، إنه مدان فى قضية فساد القصور الرئاسية وينتظر الحكم عليه فى قضية قتل المتظاهرين فى الوقت الذين يحرم فيه محبوسون آخرون من مجرد حقهم فى الحصول على العلاج.
وكان الحوار مع مبارك، محاولة منه لإعادة غسيل سمعة نظامه، ولذا سعى الوسطاء أن يمرروه لعدة صحف، لأنه يشبه لحد كبير ما يعرف فى لغة الصحافة باسم «الإعلانات التنشيطية» التى يلجأ لها المعلنون فى إبراز دور شركاتهم والدفاع عنها فى شكل قالب صحفى، تطرح فيه الشركة- عبر إجابات يعدها موظفو علاقاتها العامة- ما تريده من أفكاره، دون مقاطعة أو مواجهة مع طرف المحاور. بذات صيغة الموضوعات التنشيطية، ظهر حوار مبارك، بدون صورة تجمع بين المحاور والمتحاور، تضفى مصداقية على الحوار، الأسئلة معدة مسبقاً لا تمثل إحراجاً أو مواجهة للمتحاورة معه، طريقة الإجابة تدل على أن الذى كتبها موظف علاقات عامة، راعى فيها أن تتسم كل الإجابة بالحيطة والحذر، وألا تغضب أحداً، فكل شيء معد بشكل مسبق، المهم أن يظهر مبارك بدور المظلوم، ينفى عنه كل التهم، لدرجة أنه ادعى أن ابنه لم يسع لتوريث الحكم من بعده!
فجأة ظهر مبارك فى شكل آخر، يتحدث عن أنه تعرض للظلم والمؤامرة والافتراء! وأن أخطاءه فى الحكم كانت عادية مثل كل البشر يخطئ ويصيب. ظهر مبارك فى دور المضحى والبرىء المفترى عليه، لا يريد أن يؤذى أحداً بل ويتسامح مع من ظلمه!
تدل كلمات مبارك والمشهد الذى خرج به، على أن المقصود ليس التسامح مع الرجل بقدر ما هو محاولة غسيل لسمعة نظامه بأكمله، لأن الحملة لم تتوقف عند مجرد الحوار معه فقط، بل امتدت لتسريبات عن لقاء جمعه بوزير الدفاع الأسبق حسين طنطاوى الذى زاره فى المستشفى، طبقا للتسريبات ليطلب منه السماح لأنه ظلمه وتحامل عليه وترك الجميع يشوه صورته.
وظهر المدافعون عن مبارك فى فضائيات أخرى، لم يكتفوا بمجرد الدفاع عنه هذه المرة، بل راحوا يهاجمون ثورة 25 يناير وأنها كانت مؤامرة كونية حيكت ضد الرجل ونظامه.. وراحوا يسردون أساطير عن عشرات العملاء الذين أسقطوا مبارك ونظامه. إذاً عملية غسيل السمعة التى يسعى نظام مبارك لها، لا تستهدف مجرد تبييض وجه مبارك فقط، بل تهدف لإعادة الاعتبار لنظامه كله وشخوصه، بداية من حبيب العادلى وزكريا عزمى وصفوت الشريف وأحمد عز وجمال مبارك وحاشيته، وصولاً لرجال أعمال يسعون إلى أن يعيدوا مكتسباتهم ومصالحهم مرة أخرى والتى حصلوا عليهم نتيجة قربهم وعلاقاتهم بمبارك.
وربما شعر هؤلاء بأن مصالح تتهدد الآن مع نظام جديد فى طور الإنشاء، ربما لن يوفر لهم مساحتهم القديمة، ولذلك راح أصحاب المصالح يحاولون بث الحياة فى نظامهم القديم بغسيل سمعة رمزهم مبارك، وبدءوا يتحركون على الأرض بغية السيطرة على البرلمان المقبل، وهو الحصان الذى يعتقدون أنه وسيلتهم للحفاظ على مكتسباتهم، ومحاولة المقارنة بينهم ونظام الإخوان، رغم أن الشعب الذى أسقط الإخوان، هو ذاته من أسقط نظام مبارك.
وكأن الجماهير التى خرجت فى 25 يناير، بل الملايين التى ملأت شوارع مصر شمالاً وجنوبا فى 11 فبراير 2011، فرحاً وابتهاجاً بقرار تخلى مبارك عن الحكم، كانت مجرد «فوتوشوب»، أو أنها كانت فقط تستهدف إزاحة مبارك عن الحكم وتترك باقى النظام. بل الجماهير التى خرجت ضد نظام مبارك فى يناير، كانت بسبب نظامه الذى حول البلد لعزبة تدار لصالح نفر من المحاسيب ورجال الأعمال جنوا من ورائه ثروات ونفوذاً.
وتحول البلد على يدهم ل«خرابة» لغالبية من يعيش فيها، فلن ينفع معها عشرات بيوت الخبرة أو المكاتب الاستشارية أنه تغسل سمعتهم أو تنسى الناس ما عاشوه فى عصرهم ومازالوا يعانون منه حتى الآن. ولم يستغل نظام مبارك فى سنوات حكمه حالة الاستقرار التى لم تشهد مصر مثلها على مدار تاريخها، فى أن يدفع بالتنمية الحقيقية ويعيد بناء مؤسساتها بعد أن كانت الفرصة مهيأة لهذا النظام بعد حالة الاستقرار السياسى أن يظهر مردود ذلك على الشعب.
بل العكس ما حدث شهدت مصر أكبر عملية «تجريف» فى تاريخها سواء اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، بيع القطاع العام وذهبت خيرات البلد لصالح مجموعة من رجال الأعمال والمحاسيب، ولا يجد أحد فرصة للحياة إلا أن يعيش فى كنفهم، أو أن يترك البلد بحثاً عن فرصة للعمل والحياة. وتم تأميم السياسة لصالح المحظوظين من رجاله الذين احتكروا النفوذ، وهو ما تسبب فى كارثة ظهرت نتائجها بعد ثورة 25 يناير عندما خلت الساحة من كوادر سياسية وطنية تتحمل المسئولية وتركت البلد للإخوان وأعوانهم ليسيطروا على المجال العام.
عملية تجريف مصر فى عهد مبارك لم تتوقف عند السياسة والاقتصاد، بل ضاع أهم ما يميز مصر بثقافتها وفنونها، والبيئة التى مهدت لخروج روائع الفن فى السينما والطرب العربى، على يد سيد درويش لأم كلثوم لعبدالوهاب وعبدالحليم، وعشرات غيرهم ليصل الحال بها فى نظام مبارك ل«شعبولا» وأفلام السبكى.
ربما يستطيع نظام مبارك أن يشوه الثورة التى أسقطته، لكنه لن يستطيع أبداً أن يصلح ما بينهم وبين المصريين، نتيجة الخراب الذى جلبه لها، وعمليات النهب المنظم لخيراتها وضياع الفرص التى كانت كفيلة بأن تعيد بلدهم إلى همته، بعد أن حولوا هذه الفرص لمغانم لصالحهم فقط وتركوا باقى الشعب نصفهم يعانى بأمراضه وفيروساته والنصف الآخر يعيش غربته ومآسى مع حياتهم اليومية، بعد أن أهملت بنية البلاد التحتية من تعليم وصحة وليس مرافق فقط.
لذلك ما بين المصريين ونظام مبارك، لن تنفع عمليات غسيل السمعة المدفوعة أن تمحوه، بعد أن قطعت 25 يناير شريانه، كما قطعت 30 يونيو ما بينه وبين نظام الإخوان.. فنظام مبارك لن تغسل سمعته مهما شوهوا.. مثلما مرسى وإخوانه لن يعودوا مهما فجروا.. مصر فى حاجة لعهد جديد يصلح ما دمره الاثنان.