فرض هذا الموضوع نفسه على التقارير الاستراتيجية الغربية.. بدأ الغرب يتعامل مع وصول الإسلاميين إلى الحكم على أنه أمر واقع.. أو على أنه مسألة وقت.. لا تضيع العقلية الغربية وقتها فى الأمل.. ولا فى الأوهام.. ولا فى مطاردة أشباح الماضى.. أمامها مستقبل تعدو لتلحق به وتسعى فيه لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب.. قبل أن يتحرك غيرها. لذلك.. صدر تقرير عن مؤسسة «أكسكلوسيف أناليسيز» الأمريكية هذا الشهر.. حاولت فيه أن ترسم ملامح الاقتصاد المصرى لو جاءت حكومات إسلامية إلى الحكم.. وأن تفهم شكل التغييرات التى يمكن أن تؤثر فى مناخ الاستثمار الأجنبى فى مصر بعد زوال نظام مبارك.. ووصول حكومات، يفترض بها أنها تمثل الثورة إلى الحكم فى الفترة القادمة بعد انتخابات الرئاسة. يرى التقرير أن أغلب الظن أن أى حكومة ذات طابع إسلامى قد تأتى إلى الحكم فى مصر فى الفترة القادمة.. لن تحدث تغييرا جذريا فى التشريعات أو القوانين التى تحكم البلد.. أو مناخ الاستثمار فيها.. ولا أحد ينكر أن قطاعات مثل قطاعات البنوك والسياحة.. وهى القطاعات الأكثر خوفا وقلقا من وصول الإسلاميين إلى الحكم، هى قطاعات لها أهمية كبيرة فى الاقتصاد.. ولا يمكن أن تخاطر أى حكومة إسلامية بضرب هذه القطاعات، لأنها لن تتحمل تبعات أى تغييرات يمكن أن تؤدى لانهيار الاقتصاد من ناحية.. ومن ناحية أخرى، لأن هناك لاعبين آخرين على الساحة سوف يتدخلون لحماية أساس الدولة من أى عبث بها. فى تونس.. يمكن أن تلعب الأحزاب الليبرالية والعلمانية دور المراقب أو القوة المقيدة للتيار الإسلامى.. بينما فى مصر، لا أحد يمكنه أن يلعب هذا الدور أمام الإسلاميين إلا المؤسسة العسكرية. على أن التقارير الغربية تتوقع سمة عامة فى حكومات ما بعد الثورة.. أو ما بعد انتخاب الرئيس القادم لمصر.. سواء كانت هذه الحكومات إسلامية يشكلها حزب الأغلبية فى البرلمان.. أو ائتلافية تتوافق عليها كل القوى الليبرالية والدينية فى المجتمع.. هذه السمة هى التى تقلص حجم الفساد الذى كان يميز حكومات مبارك فى وزراء ما بعد الثورة.. لأن الشعب لا يمكن أن يسكت أبدا على ما ثار عليه من قبل. هذا الكلام ليس كلاما عاطفيا.. هذه المرة، يأتى الكلام من خبراء اقتصاد عالميين يرون أن الملعب الاقتصادى لن يكون ممهدا تماما أمام الشركات والمؤسسات الأجنبية العاملة فى مصر.. إن أحدا لن يمكنه أن يتوقع الشكل الذى ستكون عليه الساحة الاقتصادية المصرية فى فترة ما بعد مبارك.. تلك الفترة التى لا يعرف أحد بعد من الذى سيتحكم فيها.. أو يضع شروطها. إن الاقتصاد.. مثله مثل السياسة، لعبة تخضع لتوازنات القوى.. وتأثير التيارات الموجودة على الأرض.. وما يجرى فى مصر بعد الثورة هو أن هناك أعدادا كبيرة من هؤلاء اللاعبين دخلت على الساحة.. وكل منهم يحمل آراء وانتماءات مختلفة.. وكلهم سيؤثرون فى شكل القرار الاقتصادى.. والاستثمارات الأجنبية القادمة إلى مصر. يرى المراقبون الغربيون أن أكبر تغيير سيحدث للاقتصاد المصرى تحت حكم الإسلاميين.. وما سيميزه بشدة عما كان يجرى فى عهد مبارك، هو أن المستثمر الأجنبى سوف يلجأ إلى حماية «الجماعة».. بدلا من حماية الأفراد والعائلات الكبرى التى كانت تتحكم فى البيزنس فى زمن مبارك.. تلك العائلات التى كانت تحتفظ بصلات قوية مع الحزب الوطنى.. أو لجنة السياسات.. السابقة.. ويضمنون بذلك استمرار تعاقداتهم مع الحكومة المصرية.. وحماية مصالحهم الاقتصادية فى البلاد. سيتغير ذلك تحت حكم الإسلاميين.. سيسعى المستثمرون الأجانب إلى أن يضمنوا استثماراتهم بالتنسيق مع الاتحادات العمالية.. والنشطاء.. والتيارات السياسية المختلفة التى دخلت إلى البرلمان.. وتيارات الإسلام السياسى.. وجماعات الضغط الموجودة.. وعلى رأسها الثوار.. والمنطق الغربى يرى أن أهمية هذه التيارات يكمن فى قدرتها على التأثير فى الناس وتحريكهم على الأرض.. بما يمكن أن يقلب الموازين كلها ساعة الجد. على أن الخطر الأساسى الذى يخشى المستثمرون منه عند دخولهم إلى الساحة الاقتصادية المصرية مرة أخرى، هو شعورهم بأن الحكومات القادمة ستحسب حسابا لغضب الشعب أكثر من حرصها على الاستثمارات الأجنبية.. وهو مؤشر حرج.. فالمستثمر سيخشى أن تندلع أى مظاهرة شعبية ضد مصنعه واستثماره فتقوم الحكومة بإغلاقه أو وقفه إرضاء للشعور الشعبى.. وهى كارثة بالنسبة للاستثمار الأجنبى فى مصر. يضاف إلى تلك المخاوف، شعور المستثمرين بأن قوات الأمن المصرية لم تعد قادرة على فرض النظام.. ولا على إيقاف أى مظاهرة شعبية، أيا كان هدفها أو محركها.. وهو ما يثير مخاوف إضافية من أن يلجأ المنافسون التجاريون إلى تحريك المظاهرات والاعتصامات للتخلص من منافسيهم فى السوق.. مدركين أن قوات الأمن لن تجرؤ على استخدام القوة المفرطة ضدهم، حتى لا تتهم باستخدام أساليب القمع التى كانت سائدة أيام مبارك. وستكون النتيجة المنطقية والطبيعية لهذا الضغط هو أن الحكومات سوف تميل ضد المؤسسات والشركات والمصالح الأجنبية، وستجبرهم على الاستجابة لمطالب المتظاهرين حتى لا تواجه غضب النقابات العمالية، أو اتحادات العمال.. أو غيرهم. إن الواقع الذى تواجهه الاستثمارات الأجنبية فى مصر الآن هو أن عددا كبيرا من اللاعبين قد صارت له كلمة على الساحة لمصرية الآن.. بالتالى، فعلى كل صاحب مصلحة أن ينسق مع أكثر من طرف، وأكثر من جهة لضمان مصالحه.. وهو ما يفتح الباب أمام زيادة أعداد المتنافسين على السوق المصرى.. بعبارة أخرى، فإن عددا كبيرا من المستثمرين.. من مختلف الاتجاهات، سوف يتصارعون على كعكة الاقتصاد المصرى.. بكل قطاعاته. يقول التقرير صراحة إنه يتوقع مستويات أقل من الفساد فى الحكومات الجديدة.. ومستويات أعلى من الشفافية والرقابة الشعبية على أدائها.. ويتوقع أيضا، أن الوزراء فى الحكومات الجديدة سينتبهون جيدا لفكرة تعارض المصالح.. ولن يستطيعوا استغلال مناصبهم الرسمية لتحقيق مكاسب شخصية بنفس الجرأة التى كان يتمتع بها وزراء مبارك.. مما يقلل من مخاطر التعامل مع الفساد بالنسبة للشركات الأجنبية التى سترتبط بتعاقدات مع الحكومات المصرية لتنفيذ مشروعات مختلفة.. وهو أمر يرى التقرير أن مصر ستتميز به أمام الدول الخليجية، أو الملكيات التى لم تتخلص بعد من حكم الفرد.. وسيطرة العائلة أو الجماعة الواحدة على مقدرات الأمور فيها. لقد كان للدول العربية والخليجية.. مكان مهم فى التقرير الذى كان يهتم برصد المخاطر التى يمكن أن تهدد الاقتصاد فى الشرق الأوسط عموما وليس فى مصر فقط. تنبأ التقرير باندلاع حرب جديدة.. أكثر شراسة بين إسرائيل وحزب الله. ولا يمكن فصل الحرب القادمة الصيحة بين إسرائيل وحزب الله عن حرب أخرى باردة، وإن كانت أكثر سخونة من كل حروب المنطقة.. هى الحرب الباردة بين السعودية.. وإيران. هى حرب ستزداد حدتها فى الفترة القادمة.. خاصة لو أعلنت إيران عن اكتمال امتلاكها لترسانة نووية فى السنوات الخمس القادمة، وستكون السعودية هى أول دولة تطلق ترسانتها النووية ضد إيران من الدول الخليجية. تخشى السعودية من إيران نووية.. لكنها تخشى أكثر من تداعيات ثورات الربيع العربى عليها.. صارت أكثر عصبية.. وأكثر حدة فى التعامل مع التهديدات الخارجية.. مما يعنى اندلاع حرب باردة شديدة الوطأة بين السعودية وبين إيران.. وبالتالى بين حلفائهم فى دول المنطقة.. لتظل فى النهاية دولة واحدة لتلعب دور الوسيط.. وحلقة الوصل بين كل الأطراف.. وربما الفائز النهائى فى لعبة الشرق الأوسط كلها... هذه الدولة هى تركيا