هذه الدموع ملأت عينى فى ذكرى رحيل يوسف إدريس عندما قمت بإعادة إذاعة بعض الشرائط التى سجلتها يوماً عن مكتبة، الرجل الموهبة، والإبداع المصرى الخالد، ملك القصة القصيرة والمسرحية وأستاذ الكلمة الفريدة فى نوعها وتراكيبها اللغوية، دموعى تسبقنى على «كروفر» الزمان وغياب الرجال ولكنها سنة الحياة، ويسترجع خيالى صورة د. يوسف إدريس الكاتب والمثقف فى ذلك اللقاء السنوى الذى كنا ندعا إليه فى مناسبة افتتاح معرض الكتاب لمناقشة رئيس الجمهورية وقتها الرئيس حسنى مبارك، لقد وقف يوسف إدريس وسأل الرئيس عن سر عدم تعيين نائب لرئيس الجمهورية، وعندما جاءت الإجابة: قوللى انت.. مين؟! وكانت نظرة المفكر والأديب د. يوسف إدريس تعليقاً بليغاً على الرد الرئاسى، أرجو أن نتذكر تلك الواقعة عندما نقرأ يوسف إدريس من جديد، وأرجو أن تسمحوا لى ببعض التأملات وبعض ما دار فى خيالى وأنا أستمع إلى وصف الرجل لمكتبته وفلسفته فى القراءة وغيرها من الموضوعات التى تناولها الحديث معه وقتها. أولاً: قلت لنفسى: كم أنا محظوظة بمخالطة ومعاصرة هؤلاء العظماء المتفردين فى الموهبة، وكم أيقنت أن شبابنا فاته الكثير عندما لم يعايش هؤلاء المبدعين ولم يكن له حظ الاقتراب منهم، وبالطبع يستطيع من يريد من الشباب أن يبحث عن أعمال هؤلاء العظماء ليقرأها وتتواصل الأجيال وتتفتح المواهب آخذة من الأصالة حتى تصل إلى المعاصرة.. ولكن «ولكن» فى هذه المرة تؤلمنى كثيراً لأن الشباب فى معظمه اليوم يحيا حياة إلكترونية افتراضية، يمكنه أن يقرأ من خلالها عن يوسف إدريس وغيره، ولكن ليس من قرأ الكترونياً كمن أمسك بالكتاب واشتم رائحته وقلّب صفحاته.. فأنت فى الشبكة الإلكترونية تحصل على تواصل بارد.. ولا يمكنك معانقة الكتاب والمبدع كما يحدث إذا قلبت كتابًا وقرأته على فترات مثلاً، تروح وتيجى وكأن كاتبه معك، تسأله وتجىء.. تحييه، وربما تهاجمه وتعاتبه، ولك الحق فى التعليق على ما تقرأ.. المهم.. الفرق كبير، ولذلك تمنيت أن ينتبه الشباب إلى ذلك وألا يبتعدوا كثيراً عن عبق الكتاب الورقى، وألا ينسوا هذه الأسماء المحفورة فى سجل المبدعين.
ثانيا: قفز شعار يوسف إدريس الذى أطلقه فى بعض مقالاته بعنوان: «أهمية أن نتثقف يا ناس» وأخذ جزءاً كبيراً من تفكيرى رغم أهمية جميع أعماله مثل «الفرافير- النداهة- حادثة شرف- أرخص ليالى.. وغيرها».
والآن.. يمكن أن نأخذ مقاله «أهمية أن نتثقف يا ناس» شعاراً لهذه المرحلة التى نعيشها بين جهل وردة إلى الخلف باسم الدين والدين منها براء طبعاً، ولكن قلة التعليم والثقافة تأخذ هؤلاء الناس إلى التخلف والجهالة.. والحل ليس إلا بالتثقيف حتى تستنير العقول، وإذا كان الشىء بالشىء يذكر.. فهذا الشعار يذكرنى بشعار آخر للدكتور يوسف إدريس يشرح فيه «فقر الفكر وفكر الفقر»، وهى مقابلة لغوية يهدف من ورائها إلى تبيان أهمية الرخاء فى حياة الشعوب حتى يرتقى الفكر.. فالفقر يؤثر فى الفكر وكذلك يؤثر الفكر فى الفقر.. المهم يريد د.يوسف إدريس أن يقول إن التنوير هو الحل حتى لا نقع فى فقر الفكر وفكر الفقر.
ثالثاً: د.يوسف إدريس يقول لك لا تجعل القراءة واجباً علينا تنفيذه.. لأنها يجب أن تكون متعة، ويشبهها لنا قائلاً: القراءة مثل «قصر التيه».. تتوه فيه من كتاب إلى كتاب ثم كتاب كما لو كنت فى قصر تذهب من حجرة إلى حجرة دون أن تكون هناك حجرة محظور عليك دخولها كما فى قصر التيه، فالقراءة نهر وفيضان لا يتوقف.
رابعاً: قال لى يوسف إدريس: لم يعد عنوان الكتاب دالاً على عنوانه كما كان فى سالف الزمان عندما كانوا يقولون: ذخائر كذا فى كذا.. فتعرف أن هذا الكتاب يتحدث عن كذا وكذا، ولكن العنوان الآن أصبح «تجاريا».. ولذلك لم يعد الكتاب يبان من عنوانه كما كنا نقول، وضرب مثلاً على ذلك بعنوان كتابه: «حادثة شرف» فقد حرص على أن يكون عنواناً مثيراً يدعو للبحث عن هذه الحادثة وهذا الشرف، وهكذا اختلف الزمان ولكن الإبداع والأصالة واحدة بل وتبقى مع الأيام.
خامساً: لم ينس يوسف إدريس أنه طبيب، وظل إيمانه بالجديد والإبداع حتى آمن بنظرية جديدة يقول صاحبها «لا يوجد مرض» وأساس هذه النظرية نفسى وتحليلى.. ويعتبرها د. يوسف إدريس نوعًا جديدًا من الطب أسماه بالطب الاستراتيجى لأنه اعتبر الطب التقليدى طباً تكتيكياً.
والآن.. وأخيراً وليس آخراً: هذه لمحة تذكرتها وأنا أقلب فى شريط ذكريات مكتبة د. يوسف إدريس ولابد أن أعيد اعترافى بحسن حظى على معاصرة هذه النخبة من المبدعين، وفى ذات الوقت تفاءلت لأن مصر قادرة على التواصل وتقديم المواهب والتنقيب عنها ولكن بشرط الابتعاد عن التشاؤم والأنانية التى يحاول البعض أن يملأ بها نفسه ونفوس من حوله من الشباب خاصة، ولم يبق لى إلا أن أقول للشباب ودموعى تسبقني: اقرأوا يوسف إدريس.. وافقوه أو ارفضوه ولكن تذكروا واحفظوا مقولته وعلى الأصح معتقده: «أهمية أن نتثقف يا ناس».. فهذا هو المهم بل هو الأهم والأبقى.