الدكتورة نزيهة الدليمي 1923 - 2007 استدعاها عبد الكريم قاسم الى وزارة الدفاع ليبلغها بقرار اختيارها وزيرة للبلديات، عام 1959 ، وذلك حين اتصل بها، في ذلك الصيف البغدادي القائظ، مرافق الزعيم طالباً منها الحضور الى وزارة الدفاع، لم تكن الطبيبة الشيوعية تملك ثمن التاكسي. لقد فتحت عيادتها للفقراء مجاناً وكانت تشتغل بالسياسة أكثر من عملها في الطب. لذلك ركبت الباص رقم 4 الذاهب الى الباب المعظم، حيث تقع وزارة الدفاع، ثم نزلت وسارت مسافة طويلة تحت الشمس الحارقة، من البوابة الخارجية حتى بلغت مكتب قاسم، وهي تتساءل عن السبب الذي دفعه لاستدعائها. لم يكن المنصب يخطر ببالها. فلما قال لها الزعيم إنه بصدد استحداث وزارة جديدة للبلديات ويريد منها أن تقترح هيكلاً لها وتكون وزيرتها، نظرت اليه بدهشة وقالت له: «أنا مواطنة بسيطة وطبيبة لا تفهم شيئاً في الوزارات». لكنه ضحك وشجعها قائلاً إنه يثق بها وبقدرات النساء على المشاركة في بناء البلد..صارت نزيهة الدليمي وزيرة. وكانت أول وزيرة، لا في العراق فحسب بل في كل البلاد العربية. ولما أُعلن خبر تعيينها نزل رفاقها الشيوعيون الى الشارع وأطلقوا الهتاف الذي ارتبط باسمها في أذهان أجيال سابقة من العراقيين: «نزيهة صارت بالحكم موتوا يا بعثية». تروي الدكتورة نزيهة حكايتها مع الحزب الشيوعي وهي جالسة في مطبخها الصغير مثل أي جدّة لم يسعدها الزمان بزوج ولا ولد أو حفيد. وقالت إنها تأثرت في المدرسة الابتدائية بمعلمتها سعدية سليم التي تزوجت، فيما بعد، من حسين الرحال، وكان مؤسس الحلقات الماركسية وصاحب جريدة «الصحيفة». ولما انتقلت الى المدرسة الثانوية لم يتوقف فضولها في متابعة أحداث البلد، فقد كانت منبهرة بجدتها، تلك الفلاحة الأُمية القادمة من عشيرة من عشائر الدليم، في ريف المحمودية، والتي وهبتها الطبيعة ذكاء فطرياً بحيث كانت تتردد على نساء العائلات البغدادية القديمة وتتوسط المجالس وتحكم بينهن في منازعاتهن وتقول رأيها في سياسة الحكومة وفي قرارات نوري السعيد، أشهر رؤساء الوزارات في تاريخ العراق. كان البلد يغلي بالأحداث السياسية. فقد وقعت حركة رشيد عالي الكيلاني قبل أن تنهي نزيهة الدراسة الثانوية ببضعة أسابيع، وهرب الوصي على العرش من العاصمة، وتصوّر الناس أنها نهاية النفوذ البريطاني. وفي تلك الأيام نزلت الطالبة نزيهة الى ساحة المدرسة لتهتف ضد الاستعمار. لكن المديرة استدعتها ونصحتها بالابتعاد عن السياسة «لأنها تقضي على من يشتغل بها». وكانت المديرة، صبيحة ياسين الهاشمي، تعرف ما تقول، فهي ابنة رئيس الوزراء الذي اغتيل في وقت سابق. لكن الطالبة المندفعة لم تكن تفهم معنى كلمة سياسة ولا تدري أن الهتاف ضد الانكليز سياسة. وهي قد تخرجت من الثانوية بمعدل عال، الأمر الذي أتاح لها دخول كلية الطب التي لم تكن تقبل، قبل تلك السنة، سوى أبناء الأطباء والعائلات الميسورة. في الكلية تعرفت نزيهة الى جمعية نسائية لمقاومة الصهيونية والفاشية وانضمت الى صفوفها بدعوة من رفيقتها طالبة الحقوق فكتوريا نعمان. وهي الجمعية التي تحول اسمها، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، الى رابطة المرأة العراقية. وكانت أثناء دراستها الطب تنخرط في حلقات النقاش السياسي بين الطلبة، فالكلية كانت بؤرة تعكس ما كان يدور من صراع بين الحركة الوطنية في البلد وبين أهل الحكم. حتى إذا أنهت الدراسة، كان رأيها قد استقر على أن تدخل حزب «التحرر». وهو حزب كان يلقى هوى في نفوس طائفة من الطلبة. وتقول إنها حضرت اجتماعاً واحداً لذلك الحزب وأخبرهم المسؤول أن وزارة الداخلية لم تجزه وترك لهم حرية الانتماء الى الحزب الشيوعي الذي كان سرياً أيضاً. وهكذا كان. وأصبحت نزيهة الدليمي، مع أواخر الأربعينات، عضوةً في الحزب الذي ستعطيه كل حياتها وسيعطيها مقعداً في لجنته المركزية ومنصباً وزارياً وسنوات طوالاً في المنافي. لم يكن أحد من أُسرتها يعرف بنشاطها. لكن إلقاء القبض على أحد رفاقها وإدلاءه بأسماء الناشطين في الحزب ترتب عليه استدعاؤها للتحقيق أمام بهجت العطية، مدير الأمن آنذاك. ولم يكن أمامها مفرّ من أن تخبر والدها بالأمر، وتقول إنها قرأت على وجهه الخوف للمرة الأُولى، ولم يتركها تذهب وحدها بل رافقها الى دائرة الأمن «لأن بنات العائلات لا يدخلن تلك الأماكن بمفردهن». حين قامت ثورة 14 تموز (يوليو) 1958، كانت نزيهة في بغداد، تنام فوق سطح بيتهم في شارع المغرب مثل كل العراقيين في أشهر الصيف. ومن هناك سمعت صوت الراديو يلعلع بالبيانات في بيوت الجيران وشاهدت المظاهرات تنطلق من الأعظمية وتتجه نحو الباب المعظم وبعضها يحمل صورة جمال عبد الناصر. ووسط الجموع شاهدت سكرتير الحزب الشيوعي، سلام عادل، وكانت تراه لأول مرة غير متنّكر، وقال لها إنه قادم من دائرة بريد الأعظمية بعد أن أرسل برقية تأييد للثورة باسم اللجنة المركزية للحزب. وهي تشرح لي أن تلك البرقية كانت علامة لخروج الحزب من العمل السري الى العلني، كما أنها كانت اشارة عن موقف الحزب موجهة الى الجهات الخارجية. صارت رابطة المرأة العراقية جمعية علنية تضم 40 ألف فتاة وسيدة. وعقد أول مؤتمر لها في ربيع العام التالي للثورة، وانتُخبت نزيهة الدليمي رئيسة لها. ولم يشهد أبوها ولا جدّتها تلك المناسبة لأنهما كانا قد فارقا الحياة، لكن والدتها ذهبت الى المؤتمر وجلست بعباءتها سعيدة بين الصفوف. في عمر الخامسة والثلاثين تسلمت نزيهة الدليمي مديرية البلديات العامة لتجعل منها وزارة تتبعها كافة المؤسسات المتخصصة في الخدمات البلدية. ولم تكن المهمة سهلة، فقد كانت الوزيرة تجوب العراق وتعقد الاجتماعات مع كل رؤساء البلديات. كما جاءت بهيئة قانونية لوضع مسودة قانون ينظم انتخاب أعضاء المجالس البلدية باعتبارها مستقلة عن الحكومة. لكن عبد الكريم قاسم لم يسمح بذلك المشروع، في حين وافق على مشروع آخر تقدمت به رابطة المرأة لقانون جديد للأحوال الشخصية، الهدف منه إصدار تشريع مدني موحد لكل الأديان والطوائف، ينظم قضايا الزواج والطلاق والنفقة والإرث وحضانة الأبناء وغيرها. أواسط ستينات القرن الماضي، بعد انقلاب عبد السلام عارف على البعثيين، بدأ الحزب الشيوعي بإعادة كوادره الموجودة خارج العراق، وكان اسم نزيهة في آخر القائمة، فعادت بشكل سرّي في بداية 1968 وفوجئت بعزاء مقام في بيت الأُسرة. لقد توفي أخوها بسكتة قلبية تاركاً ثلاثة أبناء، وكانت قد حضرت عقد قرانه قبل تركها العراق. ورغم أن الحزب كان قد أعاد النشاط لرابطة المرأة العراقية وتمت استعادة كوادرها، لكن انشقاقاً فيه دفعه الى وقف نشاطها تلافياً للمشكلات في صفوفها. بقيت الدليمي في الوطن عشر سنوات. وهي لم تتزوج لأن الجيدين من رفاقها كانوا في السجون، حسب قولها، ولأن النضال التهم أجمل سنوات عمرها. وفي عام 1977 غادرت العراق ولم تعد إليه. وهي قد درست، في منفاها، تاريخ بلدها في مراحله المختلفة، وتاريخ الحركة الوطنية فيه، على أمل أن تؤلف كتاباً يحمل نظرة نقدية لتلك الحركة. كما ظلت تتلقى، في بوتسدام، مطبوعات الحزب الشيوعي، وكانت تقرأ كثيراً وتشاهد التلفزيون وشاركت في ملتقيات قليلة قبل أن تصاب بالعارض الصحي الذي أقعدها. وعلى المنضدة الصغيرة، بجوار سريرها، شاهدت مصحفاً وكتاباً عن حياة لينين. ولما لمحت استغرابي من اجتماعهما قالت «لا تعارض بينهما طالما أن لينين كان يريد خير البشرية». وقالت أيضاً إنها نادمة لأنها لم تمارس الطب بشكل كاف، تلك المهنة التي أحبتها، لكنها أحبت الوطن أكثر منها. «كيف أشتغل في الطب ووطني يخضع للحماية البريطانية؟». عاشت نزيهة الدليمي 85 عاماً وماتت، والعراق تحت الاحتلال الأميركي، والقوات البريطانية عادت الى البصرة بعد نصف قرن من الجمهورية. ماتت وفي العراق اليوم، من الأجيال الجديدة، من لم يسمع باسم نزيهة الدليمي.