في صبيحة أحد الأيام الربيعية بالريف اللندني تلقت الشرطة المحلية في بلدة أسكوت بلاغا عن وفاة رجل أعمال روسي في بيته الريفي، بمقاطعة بيركشير التي تبعد 40 كليلومترا عن العاصمة لندن. لم يكن رجال الشرطة البريطانيين أن يأخذوا بعين الاعتبار تلك الأهمية القصوى لهذا البلاغ، لولا أن المتصل لم يكن “آفي نافاما” أحد العناصر المخضرمين السابقين بجهاز الموساد الإسرائيلي، والحارس الشخصي لرجل الأعمال والملياردير الروسي ذائع الصيت بوريس أبراموفيتش بيريزوفسكي.
وتابع تقرير نقلا عن العرب اللندنية أن نافاما الذي كان أول من اكتشف موت بيريزوفسكي صباح الثالث والعشرين من آذار/مارس عام 2013 قال في إفادته إنه عثر على جثة رب عمله ممددة على أرضية الحمام التابع لغرفة نومه الخاصة، حيث كان وشاح قماشي يلف عنقه من طرف، فيما يبدو أنه كان مشدودا بعلاّقة الدوش من الطرف الآخر، بينما كان الباب موصدا من الداخل.
الشرطة البريطانية وعلى الرغم من إعلانها في التحقيق الأوّلي أنها لم تعثر على أية آثار أو شبهات تدل على العنف أو الاعتداء في قضية موت بيريزوفسكي، إلا أنها أجرت تحقيقات فائقة وإضافية، حيث استدعت عددا من الخبراء والضباط المختصين لإجراء كشف عام على المواد النووية والإشعاعية والبيولوجية والكيميائية، للتحقق فيما إذا كانت قد اُستعملت هذه المواد لاغتيال بيريزوفسكي. حيث يبدو أن فرضية الانتحار لم تكن مقنعة بما فيه الكفاية لرجل بتاريخه الحافل في عالم السلطة والمال. إذ أنه لم يكن مليارديرا عاديا، بل هو عرّاب الكرملن الأول طيلة تسعينات القرن الماضي. صنع رؤساء وعزل آخرين، وتحكم لأكثر من عشر سنوات بمصير أكبر دولة في العالم. فمن هو بيريزوفسكي؟ قد تكون مسيرة بيريزوفسكي الصاخبة في عالم المال والسياسة طغت على خلفيته الأكاديمية، فمعظم الدراسات تجاهلت تاريخه العلمي وأبحاثه. فهو البروفيسور في علم الرياضيات التطبيقية والحاصل على الدكتوراه عام 1983 في اختصاص “تطوير الأسس النظرية للخوارزميات المعتمدة في اتخاذ القرارات وتطبيقاتها العملية” هذا الاختصاص النادر الذي يعتمد على خوارزميات معقدة في البحث والاختيار ضمن سلسلة من البيانات والتصنيفات الرياضية. ما دفع الكثير من المراقبين للقول إن عبقرية بيريزوفسكي التي مكنته من السيطرة لوقت طويل على مفاصل الاقتصاد والسياسة في الدولة لم تأت من هباء، بل إنه وظف كل إمكانياته المعلوماتية لاتخاذ القرارات المؤثرة، وانتهاز الحلول المناسبة في فترة كانت الفوضى هي سيدة الموقف في روسيا.
كما أن لبيريزوفسكي أكثر من 100 بحث ومُؤَلف كلها تصب في مسألة تطبيق علم الرياضيات والخوارزميات لإيجاد الحلول وفقا للنظريات الاقتصادية المعتمدة على تقييم الخيارات المتاحة واتخاذ القرارات الأفضل على أرض الواقع، سواء على صعيد المؤسسات أو المجتمع. ومن جملة ما أصدره: كتاب بعنوان ” ترابط العلاقات في إيجاد الحلول متعددة المعايير” عام 1981 وأيضا كتابه عام 1984 بعنوان ” مهمة الخيار الأفضل” وبحثه الذي أصدره عام 1989 تحت عنوان ” الحلول متعددة المعايير: باستخدام علم الرياضيات”.
بيريزوفسكي كان عضوا في الجمعية الدولية للبحوث في قضايا اتخاذ القرار، كما كان عضوا فعالا في “الأكاديمية الروسية للعلوم”، حيث جرت محاولات حثيثة في السنوات الأخيرة لفصله من الأكاديمية على خلفية القضايا الجنائية التي رفعت ضده، إلا أنها لم تنجح وبقي عضوا في الأكاديمية حتى مماته.
بعد أن تعاقد مع شركة «أفتوفاز» للسيارات توجهت أعين بيريزوفسكي إلى «البزنس الخاص» مستغلا القوانين الجديدة التي أقرها غورباتشوف زمن البيريسترويكا حيث أسس عام 1989 شركة «لوغوفاز» والتي تخصصت بداية الأمر في تزويد مصانع السيارات بأنظمة الكومبيوتر، ليسيطر بعدها تدريجيا على مفاصل قطاع صناعة السيارات في روسيا أصول بيريزوفسكي اليهودية كانت تشكل له عائقا في زمن الاتحاد السوفييتي، بحسب ادعاءاته الشخصية، حيث تم رفض طلبه الالتحاق بقسم الفيزياء في جامعة موسكو الحكومية، والتي كانت تعتبر من أقوى المؤسسات التعليمية آنذاك. مع العلم أنه ينحدر من أسرة مستواها التعليمي عال، فوالده أبراهام ماركوفيتش كان يعمل مهندسا في أحد المصانع المتخصصة بمواد البناء، أما والدته فقد كانت رئيسة قسم المختبرات في معهد طب الأطفال بأكاديمية العلوم الطبية السوفييتية. أما بوريس الطفل فقد درس بتفوق في إحدى المدارس الناطقة باللغة الإنكليزية ما أهّله فيما بعد للتواصل مع الشركات الأجنبية إبان حقبة الانفتاح على الغرب، ولعِبِ دورٍ مكّنه من تبوؤ مناصب حساسة.
ولد بوريس بيريزوفسكي عام 1946 في العاصمة موسكو، حيث نشأ كغيره من أقرانه في ذلك العصر متشبعا بالإيديولوجية الماركسية والفكر الشيوعي، وكان عضوا نشطا في اتحاد الشباب الشيوعيين. ولدى إنهائه المرحلة الثانوية التحق بكلية الإلكترون والحوسبة التقنية، وفور تخرجه عمل كمهندس في وزارة التجهيز السوفييتية وأشرف على نظم التحكم والأتمتة. ثم في مركز البحوث الهيدرولوجية، ليصبح بعدها رئيسا لقسم الإدارة والتحكم في أكاديمية العلوم السوفييتية.
عام 1973 كان مفصليا بالنسبة إلى بيريزوفسكي حيث عاد ليحقق حلمه بالانتساب إلى جامعة موسكو الحكومية وتحديدا في قسم الميكانيك والرياضيات ودافع عن أطروحته المتعلقة ب”الحلول متعددة المعايير”. وهو ذات العام الذي فُتحت فيه أبواب الاقتصاد أمامه عندما تعاقد مع شركة ” أفتوفاز ” الحكومية للسيارات، حيث ترأس اللجنة المشرفة على إدخال نظم الأتمتة وبرامج المعلوماتية إلى هذه المؤسسة السوفييتية الكهلة.
عبر نظم المعلوماتية التي برع فيها بيريزوفسكي، كان المدخل إلى عالم المال والسلطة. فبعد أن تعاقد مع شركة ” أفتوفاز ” للسيارات توجهت أعينه إلى “البزنس الخاص” مستغلا القوانين الجديدة التي أقرها غورباتشوف زمن البيريسترويكا. حيث أسس عام 1989 شركة “لوغوفاز” والتي تخصصت بداية الأمر في تزويد مصانع السيارات بأنظمة الكومبيوتر، ليسيطر بعدها تدريجيا على مفاصل قطاع صناعة السيارات في روسيا، ويستحوذ على الوكالات الحصرية للعديد من الماركات الأجنبية التي كانت تدرّ أموالا طائلة آنذاك وعلى رأسها “مرسيدس بنز”.
كما ترأس “اتحاد صناع السيارات لعموم روسيا” سيئ الصيت، والذي أجرى عدة عمليات اكتتاب عامة بغية إنشاء مصنع للسيارات، تبين فيما بعد أنها وهمية، وخسر الكثير من المواطنين الروس البسطاء مدخراتهم التي استثمروها.
بيريزوفسكي الداهية كما يحلو للبعض أن يطلق عليه، لم يدخل بداية التسعينات في عالم السياسة بشكل مباشر. بل فضل أن يشغّل “خوارزمياته الحسابية” على ما يبدو، ليقع الاختيار على ابنة الرئيس الروسي بوريس يلتسن، تاتيانا دياتشينكو، والتي كانت بمثابة مستشارته الخاصة والمفتاح الأمثل لدخول الكرملين. وكانت بداية العملية عن طريق الصحفي فالنتين يوماشيف صديق تاتيانا آنذاك وزوجها لاحقا، والذي عهد إليه يلتسن بتسجيل قصة حياته. فما كان من بيريزوفسكي إلا أن عمل على إقناع يوماشيف بتدوين سيرة حياة الرئيس الروسي على شكل كتاب فاخر “مذكرات رئيس” يتكفل هو بنفقاته، ليبدأ فيما بعد بتمرير مبالغ شهرية كبيرة إلى يلتسن على أنها عائدات هذا الكتاب “الناجح”.
بعد أن أصبح بيريزوفسكي أحد اللاعبين الأساسيين في الدائرة المقربة من يلتسن، بدأ يهيمن بأمواله على فضاء الإعلام الروسي، حيث عُين نائبا لمدير قناة التلفزيون الروسية الأولى ORT بعد أن تمكن من شراء نصف أسهمها. كما اشترى معظم الأسهم في مؤسسات إعلامية مثل القناة السادسة، وصحف روسية عريقة مثل “نيزافيسيمايا غازيتا ” و”كوميرسانت”.
وفي العام 1995 أنشأ بيريزوفسكي مع صديقه الميلياردير الشاب رومان أبراموفيتش شركة “سيب نفط” للبترول والتي حصلت على معظم أسهم شركة “روس نفط” الحكومية بعد عمليات الخصخصة غير النزيهة التي كانت رائجة آنذاك.
وباستخدام سلطة المال والنفط والإعلام تمكن بيريزوفسكي من الحشد لإعادة انتخاب يلتسن لولاية ثانية عام 1996 ويُطبق على معظم مفاصل الدولة الحساسة. حتى أنه بدأ يلعب دورا محوريا في قضايا هامة مثل الحرب الشيشانية الأولى، وأصبح عضوا في اللجنة الفيدرالية الخاصة بقضية الشيشان، وشارك في توقيع اتفاقية الهدنة. فيما اتهمته أجهزة المخابرات الروسية بالتعاون مع قادة شيشان وتمويلهم مقابل نيل مواقف سياسية معينة تصب في مصالحه الخاصة.
الشرطة البريطانية وعلى الرغم من إعلانها في التحقيق الأولي أنها لم تعثر على أية آثار أو شبهات تدل على العنف أو الاعتداء في قضية موت بيريزوفسكي، إلا أنها استدعت عددا من الخبراء المختصين لإجراء كشف عام على المواد النووية والإشعاعية والبيولوجية والكيميائية، للتحقق فيما إذا كانت قد استعملت لاغتيال بيريزوفسكي عندما ينقلب الأصدقاء لا تنفع الحسابات
مع حلول عام 1999 كان قطب المال والنفط والإعلام بوريس بيريزوفسكي قد تبوّأ مناصب حساسة في الدولة، فقد شغل منصب نائب سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي، ثم مستشارا لمدير ديوان الرئيس الروسي، كما اُنتخب نائبا في مجلس الدوما. وقد بلغت ثروته آنذاك أوجها، حيث صنفته مجلة فوربس في المرتبة ال 97 من بين أغنى رجال العالم.
الحالة الصحية السيئة للرئيس يلتسن، وتعاظم دور الحلف السياسي ضد بيريزوفسكي في مجلس الدوما، دفع الأخير لاتخاذ خيارات صعبة للتحضير لخليفة الكرملين الجديد. فمخاوفه بدأت تتزايد من التكتل السياسي الصاعد بقوة والذي جمع محافظ موسكو يوري لوشكوف مع رئيس الوزراء السابق يفغيني بريماكوف، خاصة أن الأخير وهو رئيس الاستخبارات الخارجية سابقا، بدأ يلاحق بيريزوفسكي بقضية اختلاس مبالغ طائلة من شركتي “أفتوفاز ” للسيارات و “أيروفلوت” للطائرات.
كان الحل الأمثل برأي بيريزوفسكي حينها هو الدعم اللامحدود عبر إغداق الأموال وحشد الآلة الإعلامية لصالح كتلة “الوحدة” الانتخابية التي فازت في انتخابات عام 1999 على كتلة “الوطن- عموم روسيا” التابعة للوجكوف وبريماكوف. وبذلك كان بيريزوفسكي قد أزاح أكبر الخصوم المسيطرين والمتبقين من الإرث السوفييتي. وفسح الطريق أمام شخصية توافقية مغمورة، كانت قد طرحتها الدائرة المقربة من يلتسن في الكرملين، وهو العميل السابق في الاستخبارات الروسية فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين الذي تم تعيينه في مرحلة انتقالية كرئيس للوزراء، ليتم انتخابه عام 2000 رئيسا جديدا لروسيا الاتحادية.
الرئيس الجديد الذي لم يكن قد تسلم منصبا سياسيا رفيع المستوى من قبل، كان يملك مهارة استخباراتية مكنته في ظرف أشهر من الإمساك بزمام الأمور على غير توقعات الدائرة المحيطة بيلتسن المريض، والتي كانت تأمل في أن يؤمن رجل الاستخبارات السابق فلاديمير بوتين غطاء لعمليات تبييض الأموال التي كانت تحدث بعلم يلتسن. وكانت خيبة بيريزوفسكي هي الأكبر حيث أعلن عام 2000 تخليه عن منصبه في مجلس الدوما منتقدا سياسات بوتين، الذي بدأ يضيّق الخناق عليه دون غيره، حيث أوعز للنيابة العامة بتفعيل قضايا الاختلاس والفساد ضد بيريزوفسكي.
لم تكن فاتحة الألفية الثانية خيرا على مسيرة بيريزوفسكي، حيث بدأت الضغوطات الأمنية تتزايد عليه، خاصة بعد رفضه التعاون مع أجهزة التحقيق الفيدرالية. وتحسبا للملاحقات الجنائية أو حتى الاعتقال الذي كان يبدو له وشيكا، قام بإيكال أعماله لصديقه الشاب الملياردير رومان أبراموفيتش، وبدأ التحضير للتوجه إلى بريطانيا، ريثما يرتب أوراقه من جديد.
في تلك الفترة تحديدا كانت الأمور تتطور بسرعة في روسيا، وبدأت تبرز قوى جديدة تحاول السيطرة على مفاصل الدولة بقيادة مباشرة من الاستخبارات الروسية. والتي أثّرت بشكل ما على شريك بيريزوفسكي رومان أبراموفيتش حيث انقلب الأخير بين ليلة وضحاها على أبيه الروحي في أسرة الأوليغارخي، وأجبره تحت الضغط والتهديد، بحسب رواية بيريزوفسكي، على التنازل عن معظم أسهمه في شركة “سيب نفط” البترولية والتي قدرها خبراء بأكثر من 5 مليارات دولار.
عام 2003 استطاع بيريزوفسكي الحصول على لجوء سياسي وتأمين الحماية الشخصية من الحكومة البريطانية، ما أدى إلى توتر العلاقات الروسية البريطانية لفترة طويلة. كما أنه لم يوفر فرصة لانتقاد حكم بوتين ووصفه بالمستبد، متهما الاستخبارات الروسية بأنها تسعى لاغتياله. وراح يدعم بسخاء الحركات الليبيرالية داخل روسيا والدول المحيطة، حيث موّل ما كان يسمى حينها بالثورات الملوّنة، ومنها الثورة البرتقالية في أوكرانيا، التي أتت بنظام ليبيرالي مُوال للغرب.
عام 2007 وبواسطة جيش من المحامين المخضرمين في لندن، قرر بيريزوفسكي شن معركة قانونية ضد شريكه السابق رومان أبراموفيتش الذي خان ثقته بحسب تعبيره. واستمرت المرافعات حتى عام 2012 لتعلن المحكمة البريطانية هزيمة بيريزوفسكي وبراءة أبراموفيتش.
آمال كبيرة بحسب المقربين من بيريزوفسكي كان يعقدها على معركته القضائية تلك، إذ أن مصالحه المالية كانت تتدهور بالسنوات الأخيرة بعد أن سيطر شريكه السابق على معظم أسهمه. فيما عملت الحكومة الروسية على تجميد أرصدته في عدة دول. وعلى الرغم من حالته النفسية المزرية قبل وفاته إلا أن الكثير من المقربين رفضوا فرضية الانتحار، مشككين بنتائج التحقيقات.
وفيما يبقى الغموض يلف قضية وفاة بيريزوفسكي بين الانتحار والاغتيال، تبقى شخصيته المثيرة للجدل محط نقاش الكثير من الباحثين. إذ أن عبقريته التي أوصلته إلى أعلى المراتب، كشفت من ناحية أخرى عن نواحي مضطربة في شخصيته. كاعتناقه فجأة الديانة المسيحية الأرثوذكسية، أو طموحه بإعادة الحكم القيصري إلى روسيا، حتى أن بعض المؤرخين المعاصرين أطلقوا عليه لقب “العرّاب المجنون” نسبة إلي الراهب غريغوري راسبوتين الذي كان يدير دفة الحكم في روسيا القيصرية من وراء الكواليس.