على هامش التسريبات والتوقعات والحملات الداعية لترشحه مبكرا جدا قلت إن الفريق أول عبد الفتاح السيسى ليس الرئيس المناسب لمصر خلال هذه الفترة، لكنه الرئيس الضرورة.
كانت الصورة واضحة أمامى جدا وأنا أقول ذلك فى أكثر من برنامج تليفزيونى، فخصوم الرجل السياسيون سواء فى مصر أو خارجها سيكونون حجر عثرة أمام تقدمه، ولن يكون بعيدا أن تتكتل عليه القوى الدولية والإقليمية والداخلية من أجل تعطيل تجربته ومشواره السياسى.
لكنه فى الوقت نفسه هو الرئيس الضرورة الذى يمكن بحسمه وحزمه أن يسير بمصر إلى الأمام، خاصة أن تجربته فى القوات المسلحة، ثم تجربته فى إدارة الصراع مع الإخوان المسلمين والمتحالفين معها بعد 3 يوليو، تجعلنا نطمئن إليه وهو يقود سفينة الوطن.
لا أتحدث عن السيسى بالطبع على طريقة دراويشه، هؤلاء الذين يتعاملون معه على أنه المهدى المنتظر، أو الرجل الذى يحمل عصا سحرية يستطيع من خلالها أن ينهى كل الأزمات والمشاكل التى تعانى منها مصر، ولكنى كنت – وما زلت- أنظر إليه على أنه مشروع للاستقلال الوطنى واسترداد قيمة وكرامة مصر، وعليه فيجب أن يقف الجميع إلى جواره، لأن هذه ليست معركته وحده.
لقد حاول بعض خصوم السيسى السياسيين أن يضعوه أكثر من مرة فى «خانة اليك»، كانوا يعرفون المتاعب السياسية التى يمكن أن يتعرض لها، ولذلك سارعوا بالقول أنه أقسم على المصحف أمامهم أنه لن يرشح نفسه للرئاسة، لكن بعض المحيطين بالسيسى أكدوا لى وقتها أنه لم يقسم على المصحف، بل لم يقسم على الإطلاق على أنه لن يرشح نفسه، لكنه فى الوقت نفسه لم يتحدث بشكل نهائى عن ترشحه، وفهمت وقتها أن هناك من يريد أن يصبح الباب مفتوحا، فالفريق لم يحسم أمره بعد، ولا يريد أن يصادر على نفسه أو من حوله.
يعتقد القادة العسكريون الآن– ولديهم كل الحق فى ذلك– أن المدنيين ليسوا قادرين على إدارة شئون البلاد، وأنهم عندما تولوا الأمر أصبحت مصر على شفا الحرب الأهلية، وهم لن يكرروا الأمر مرة أخرى، ولن يسمحوا به على الإطلاق، ولذلك فقيادات الجيش لا يفكرون مطلقا فى أن يكون هناك رئيس مدنى مرة أخرى، وفى الوقت نفسه يرون الفريق مناسبا للمهمة تماما.
فى أكاديمية ناصر العسكرية وفى احدى الدورات التدريبية، طرح أحد المحاضرين وجهة نظره على الموجودين، -وعدد كبير منهم كان من المدنيين-، قال لهم: نحن فى الجيش لا نريد الحكم، ولا نريد أن يتورط الجيش فى السياسة، لكن دلونى على مدنى يصلح لقيادة مصر فى هذه المرحلة الحرجة، ونحن نسانده فورا، المفاجأة لم تكن فيما قاله القائد العسكرى، ولكن كانت فى رد الموجودين، فقد هتف الجميع: عاوزين السيسى، ورد مثل هذا تحديدا يزيد قادة الجيش ثقة فى أن يكون الحكم لهم وليس لأحد غيرهم.
ورغم قناعتى الشديدة بقدرات وكفاءة الفريق السيسى السياسية والإدارية، إلا أننى انحزت إلى أن ترشحه للرئاسة ليس قراره وحده، ولا قرار الشعب المصرى وحده، فهناك أطراف أخرى ليست داخلية فقط، لكن خارجية أيضا ستكون لها كلمة فى هذا القرار. ولا تعتقد أننى أقصد أمريكا ودول الاتحاد الأوروبى التى لا تزال تصر على أن ما حدث فى مصر انقلاب، وعليه فهى لن تمكن قائده– من وجهة نظرها– من أن يصل إلى السلطة فى مصر، وإلا تكون بذلك قد أعلنت هزيمتها التامة أمامه.
هذه القوى الدولية لن تلعب بشكل واضح على المسرح السياسى، لسبب بسيط أنها تعلم أن إرادة الشعب المصرى الذى خرج وأيد ثورة 30 يونيو لن تسمح بأى حال من الأحوال، أن يتم تشكيل قرارها على مزاج القوى الخارجية، ثم إن ملايين المصريين لن يتخلوا عن الفريق السيسى الذى يتعاملون معه على أنه الأمل والمنقذ والمخلص، والأهم من ذلك أنه الحامى لهم من جماعات الإسلام السياسى التى تضم الإخوان وحلفاءهم، وهؤلاء لن يتورعوا عن الانتقام من الشعب المصرى والتنكيل به، إذا ما أتيحت لهم الفرصة وعادوا مرة أخرى إلى العمل السياسى.
ولذلك يتم اللعب السياسى الآن فى القنوات الخلفية، ولم يكن تصريح محمد بن راشد حاكم دبى ورئيس الحكومة الإماراتية يعكس رأيه الشخصى عندما أعرب عن أمله فى ألا يترشح الفريق السيسى لرئاسة مصر.
كان بن راشد يتحدث إلى الخدمة العالمية بهيئة الإذاعة البريطانية «بى بى سى»، وقال إنه يأمل فى أن يبقى السيسى فى الجيش وأن يترشح شخص آخر غيره للرئاسة».. خففت حكومة أبوظبى بعد ذلك من حدة هذا التصريح، وسعى كثيرون للقول بأن التصريح نقل بشكل غير دقيق، وذهب البعض إلى التأكيد أن هناك ضغوطاً أمريكية تتعرض لها الإمارات من أجل إجبار السيسى على الانسحاب من مشهد الانتخابات الرئاسية المصرية.
حقيقة الأمر أن الضغوط لم تكن على الإمارات، فرغم أنها رقم كبير فى المعادلة السياسية فى مصر الآن، إلا أنها ليست الرقم الصعب.. ولذلك فالضغوط الفعلية كانت على السعودية لأنها يمكن أن تشكل الثقل فى صياغة قرار السيسى النهائى بالترشح للرئاسة من عدمه.
لم يتحدث مسئول سياسى سعودى صغيراً كان أو كبيراً عن الموضوع، لكن جرى ما أكد أن هناك ما يتم فى القنوات الخلفية، ويمكن أن نعتبر هذا بداية جديدة للحديث. «ترشح السيسى وتوليه الرئاسة مغامرة خطيرة، فالحكم والسياسة فى مصر ليست مهمة مضمونة بخلاف ما كانت عليه منذ قيام الجمهورية بعد عام 1952، النظام السياسى ليس مستقرا بعد، وتمر البلاد منذ ثلاث سنوات بحالة انتقال خطيرة، يتبدل فيها المزاج الشعبى سريعا من حب للجيش إلى غضب عليه، ومن قبول للإخوان إلى كراهية لهم، وكل خطوة خاطئة تكلف كثيرا».
هذه ليست كلماتى، ولكنها من مقال كتبه عبدالرحمن الراشد رئيس تحرير جريدة الشرق الأوسط اللندنية السابق– المملوكة للسعودية– وهو ليس مجرد كاتب يقول كلمته ويمضى، ولكن كما هو معروف يرتبط بعلاقات قوية مع مراكز صنع القرار فى السعودية، ولا تخفى علاقته بأجهزة سيادية وهى أجهزة تلعب دورا مهما الآن فى إدارة الصراع فى المنطقة. الراشد يرى– ليس هو وحده بالطبع فهو يعبر عن وجهة نظره سعودية أعتقد أن النظام الرسمى يتحرج من إعلانها– أن السيسى أهم من أن يكون رئيس جمهورية، موقعه ودوره أن يكون ضابط الإيقاع السياسى، وحارس الدستور الجديد، وحامى النظام، أما عندما ينزل إلى المنصب التنفيذى فسوف يصبح جزءاً من المشكلة، ولن يكون هناك من يرعى الانتقال التاريخى ويدافع عنه، كما فعل منذ شهر يوليو 2013، بعد المظاهرات الشعبية التى أدت إلى عزل الرئيس مرسى وإيقاف حكم الإخوان الفاشى.
ويعزز الراشد رأيه بقوله: نزول السيسى من رعاية الرئاسة إلى الرئاسة نفسها سيضعه فى مرمى المشكلات المتوقعة للسنوات الأربع الصعبة المقبلة، لن يكون خصوم الرئيس المقبل الإخوان وحدهم، بل ستخرج إلى الشارع وتنضم إلى صفوف المعارضة جماعات مختلفة لها مطالب اقتصادية واجتماعية، ستفرزها الظروف الصعبة التى تمر بها مصر.
ويتوقع الكاتب السعودى أنه سيكون على الفريق السيسى أن يقبل بحقيقة أنه قد يضطر إلى الاستقالة فى نهاية السنوات الأربع المقبلة، إن بلغت الاعتراضات درجة الغليان، وسيسلم الحكم مضطرا، لأن الشارع المصرى الذى أصر على اسقاط الرئيس حسنى مبارك رافضا الانتظار إلى نهاية موعد الرئاسة، لن يحترم عقد الأربع سنوات التى ينتخب لها الرئيس الجديد ان انحدرت الأمور الاقتصادية والسياسية.
بدا ما كتبه الراشد وكأنه نصيحة لا أكثر يتقدم بها من وجهة نظره، لكن ما يؤكد أنها كانت أكبر من وجهة نظر، وأنها كانت تعبر عن وجهة نظر سعودية رسمية، أن جريدة الشرق الأوسط السعودية واصلت ما يمكن التعامل معه على أنه نوع من الضغط من الدرجة الأولى. عبر تسريبات من مصادر لا أحد يعرف ثقلها أو موقعها أشارت «الشرق الأوسط» إلى أن هناك ما يشبه تقييم الموقف تقوم به قيادات عليا فى مصر، وهو التقييم الذى توصل من قاموا به إلى أن مسألة الترشح للرئاسة ليس قرار السيسى ولا قرار الشعب فقط، لكن أيضا المهم مصلحة مصر، ولو كان الإصرار على السيسى يمكن أن يتسبب فى مشاكل مع دول إقليمية وغربية فإنه يمكن البحث عن بديل آخر. هل يمكن أن نتعامل مع هذه التسريبات على أنها تراجع تكتيكى فيما يخص دعم ترشيح السيسى للرئاسة، خاصة أنه كاد أن ينطق بها فى كلمته التى دعا المصريين خلالها إلى النزول للاستفتاء، لكنه انتظر الاستجابة يومى الاستفتاء ثم فى ذكرى 25 يناير، فالكلام الآن ليس عن أحقية الرجل وبشكل منفرد فى أن يصبح رئيسا– أحمد وصفى قائد الجيش الثانى الميدانى حسم الأمر عندما قال: هنلاقى أحسن من كبيرنا؟ - ولكن عما إذا كان ترشح السيسى للرئاسة فى مصلحة مصر، أم أنه يضر بها، وهو نوع من اهتزاز الأرض تحت أقدام القيادات التى عملت ولشهور طويلة ماضية من أجل تمهيد الأرض للحظة إعلان السيسى ترشيح نفسه رئيسا لمصر.
ليس بعيدا أن جهات بعينها الآن تقوم بدور مراوغ فى المسألة المصرية، وهو دور يمكن أن يبدأ بمحاولة إقناع الفريق بالتخلى عن قراره بالترشح للرئاسة، ولا تنتهى عند مرحلة الضغط عليه بكل قوة، فقد ساندت السعودية مصر من أجل الحفاظ على أمن واستقرار وسلامة المملكة، ولن تتردد فى مواصلة ضغوطها إذا رأت أن هذا سيهدد أمنها واستقرارها وسلامتها. لقد كان ترشح السيسى وإلى حد كبير أمرا محسوما داخل المؤسسة العسكرية، طالبه قادتها بأن يترشح، لكنه وضع شروطا لذلك، من بينها أن يخرج المصريون فى الاستفتاء بحشود كبيرة، لأنه فى النهاية كان يعتبر الاستفتاء على الدستور استفتاء عليه شخصيا (كثيرون ممن ذهبوا إلى صناديق الاستفتاء كانوا يقولون نعمين، الأولى للدستور والثانية للسيسى)، وأن يخرج المصريون مرة أخرى فى ذكرى 25 يناير من أجل مطالبته بالترشح، وذلك بعد أن يكون حصل على تفويض من جيشه. حدث الحشد الأول، وسيحدث الحشد الثانى، فالمصريون البسطاء الذين يرون فى السيسى منقذا لهم، لن يستمعوا إلى ما تقوله أمريكا ولا توابعها، ولن ينصتوا إلى ما يردده الإعلام السعودى الذى يبدو أنه سيصبح موجها لهدف واحد خلال الأيام القادمة، لكن يبدو أن هذ لن يكون كافيا لحسم الأمر فى مصر، خاصة أن المسألة تجاوزت ما نريده إلى ما يريده الآخرون ويشاركوننا فيه. كان السؤال فى الشارع المصرى هو متى يعلن السيسى ترشحه للرئاسة، لكن يبدو أن الأيام القليلة القادمة ستحمل سؤالا آخر، وهو هل سيترشح السيسى من الأساس، أم سيرضخ للضغوط التى تحاصره من كل مكان، ويتراجع عن الترشح، خاصة أن هناك تسريبات تشير إلى أن جهات بعينها تُعد اللواء مراد موافى مدير المخابرات العامة المصرية الأسبق، ليصبح هو المرشح الذى يدعمه السيسى وترضى عنه المؤسسة العسكرية، فى تصور يشير إلى أن من سيقف معه السيسى سيكون هو صاحب الحظ الأعلى فى الانتخابات الرئاسية. لكن بعيداً عن هذه التسريبات ومحاولات الضغط فإن هناك إصرار على أن يرشح السيسى نفسه، إصرار من داخل الجيش وإصرار بين صفوف المواطنين، وأعتقد أن هذا سيجبر من يفكرون فى الضغط على الفريق ليتراجع أن يكفوا عن محاولاتهم. وهو ما يفسر ما همست به مصادر خاصة لى من أن السيسى حسم أمره وسيعلن ترشحه للرئاسة خلال أيام، فالسيسى يعرف أن الشعب يقف وراءه.. وهو ما سيجعله يمضى فى طريقه دون أن يلتفت إلى الوراء.