■ انتقال المصريين من مرحلة «العشيرة» إلى الأسرة الطبيعية وراء انتشار العنف ■ نحن شعوب تخرج من الديكتاتورية لتسارع بالعودة إليها ولا مخرج سوى نهضة اقتصادية وثقافية شاملة
تحدث مع أى شخص فى الشارع عن حالة مصر وسوف تتوصلان إلى أن البلد يحتاج إلى علاج. قد تختلفان فى التشخيص وفى نوع الدواء لكن الأكيد أنكما ستتفقان على أن «المريضة» بحاجة إلى طبيب فاهم.
قد تتحدثان عن الاقتصاد والمرور والتعليم والتربية والأخلاق والإخوان وغيرها، ولكن من المستبعد أن تتطرقا إلى المشكلة الأساسية التى يعانى منها المصريون، وفقا لتحليل واحد من أهم علماء النفس السياسى فى العالم، وهو الدكتور مصطفى صفوان، المصرى المقيم فى فرنسا منذ ستين عاما.
المشكلة الأساسية تنحصر- حسب الدكتور صفوان- فى العقد والمركبات النفسية التى تحكم المصريين نتيجة تعرضهم لقرون وعقود طويلة من الفقر والقهر والاستبداد والجهل، وهى مشاكل تؤدى فى المدى البعيد إلى ظهور مجتمع غير سوى يحتاج إلى فترة علاج مكثفة فى المصحة الكونية للطب النفسى الشعبى!
فى ساحق السنين والأزمان كان الناس ينظرون إلى المريض النفسى باعتباره مجنونا أو «ملبوسا» أو «معمول له عمل»، ومع بزوغ عصر العلم أصبح للنفس علم وللمخ والأعصاب علم، وبات الكثيرون يدركون أن النفس والعقل يعتلان ويتعبان مثل البدن.
وحتى عقود مضت كان الناس يحسبون أن المجتمعات والشعوب لها صفات ثابتة خالدة، وكل أمة تعتقد أنها خير ما أخرجت للناس وأنها الوحيدة التى تملك الحق الذى لا يأتيه البطلان، ثم ظهر علم النفس الاجتماعى واكتشف الناس أن للجموع سيكولوجية تشبه النفس الفردية قد تصاب فى فترة من حياتها بالوهن أو الاكتئاب أو جنون العظمة أو الهستيريا الجماعية.
فى كتاب «إشكاليات المجتمع العربى» يبين الدكتور صفوان كيف أن البنية العائلية للمجتمع تؤثر فى سلوك مواطنيه فرادى أو جماعات. لقد ظل المجتمع العربى أسيرا لنمط القبيلة، العشيرة، العائلة، الجماعة المغلقة، لقرون طويلة، ولم يعرف نمط الأسرة الثلاثية (الأب، الأم، الأبناء) التى يطلق عليها الثلاثية الأوديبية نسبة إلى تحليلات فرويد عن العلاقات والتركيبات النفسية التى تنتج عن شكل وبنية هذه الأسرة. هذه الأسرة الثلاثية التى سادت فى أوروبا منذ القرن الثامن عشر لم يعرفها العالم العربى إلا حديثا. وهنا يلاحظ الدكتور صفوان أن «الانتقال من الانتماء القبلى كوحدة متكاملة للمجتمع إلى الثلاثية الأوديبية قد يولِّد عنفا هائلا لا حيلة لنا أمامه».
ما معنى هذا الكلام؟ معناه أن أفراد هذا المجتمع، الذين يشعرون بالقلق نتيجة افتقاد الوحدة والخوف من الاختلافات وتعدد الآراء والمذاهب والعقائد، يسعون إلى حل القلق بمحاولة القضاء على أى اختلاف ويتبنون بشكل مرضى فكرة الحقيقة الواحدة الوحيدة التى لا تقبل الشك أو الرأى، وكلما زاد قلقهم زاد عنفهم فى مواجهة هذا الاختلاف. من ناحية ثانية فإن هزيمة أو ضعف الأب الواقعى، فى البيت أو الجماعة أو العشيرة، يضاعف من قلقهم ورعبهم ويجعلهم فى حالة استماتة من أجل عودته بشحمه ولحمه أو بديل أكثر قوة واستبدادا منه. لاحظ خطاب وسلوكيات شباب الإخوان ومجاذيب مبارك. «كلما خفت فعالية الزعامة ازدادت الحاجة إليها أكثر» كما يقول الدكتور صفوان. ومن ناحية ثالثة فإن ضعف دور الأب فى الأسرة الواقعية يدفع الأبناء، الشباب الأصغر سنا، إلى استبدال صورته بأب آخر رمزى أكثر مثالية. إنهم يريدون أن يحل أب، أو رب الدولة محل أب الأسرة أو زعيم القبيلة، أى أنه كلما ضعف مركز الأب فى الأسرة الخاصة زاد الطلب عليه اجتماعيا!
واحد من أهم الكتب التى قام بترجمتها منذ عشرات السنين ولم يهتم بها أحد كتاب «مقال فى العبودية المختارة» للفرنسى إتيان دى لابوسيه، المكتوب فى القرن السادس عشر(!)، الذى يضم مجموعة من التأملات النافذة فى الأسباب التى تجعل الشعوب والأمم تقبل بالطغيان والاستبداد من قبل فرد واحد.
إنها الفكرة نفسها التى يعود إليها الدكتور مصطفى صفوان فى معظم مؤلفاته ومحاضراته، معرياً، طبقة وراء طبقة، هذه العقد المتشابكة الكثيفة التى تدفع الناس دفعا إلى التخلى عن حريتهم وكرامتهم من أجل وهم «الوحدة» والتخلص الظاهرى من الاختلاف والتعددية والتناقض الداخلى.
يتساءل لابوسيه: لماذا الخوف من الطاغية ومن أين يستمد سلطته عليك؟ ويجيب بأن الطاغية يستند إلى القوة التى يمنحها له المواطن، فقوته تأتى من الشعب وسلطته من التكليف الشعبى، فإذا أصبح ظالما وطاغيا واستلب مواردك فلأنك قد منحته هذا الحق».
فى «إشكاليات المجتمع العربى» يقول: «طالما أننا مأخوذون بالأب المثالى وبفكرة الوحدة فى كل شىء، لن نخرج من الديكتاتورية. وهزيمة الأب تعنى أننا سنطالب بديكتاتور آخر. هذا الوضع يؤدى إلى طريق مسدود أمام العرب».
«عندما يفشل الحاكم العربى يتم إرجاع فشله فى الأداء السياسى إلى إرادة الله. هذه العادة السيئة أخذها العرب من اليهود. فهؤلاء كلما ألمت بهم مصيبة يقولون بأنها من عند الله».
بنفاذ بصيرة مذهلة يبين الدكتور صفوان فى مقاله «الأسئلة المنسية فى فلسفتنا السياسية» أن التخلف العلمى والاقتصادى فى العالم العربى خلق فريقين متناقضين: «قسم يسير نحو الماضى المنتظر حتى لتراه يخطط من أجل تكوين الجماعة التى سوف تعيد فتح العالمين.. وقسم يتحمس لحقوق الإنسان دون أن يتساءل، ولو على سبيل الفرض، إذا لم يكن الإلحاح على المطالبة بالحقوق إنما يستر نسيان الإنسان واجباته، فعلام التذكير بحقوقنا فى ألا يقتلنا أو يعذبنا أحد إذا كنا لا نذكر واجبنا فى ألا نقتل أو نعذب أحدا؟»
وفى مقال آخر يكتب بانفعال وبساطة أكثر: «لقد صرنا شعوباً تهلل لكل من دارت برأسه، سواء كان فردا أم جماعة، أنه وحده مُصلحها، شعوبا تجرى جيلا بعد جيل وراء المهدى المنتظر دون أن تعرف بعد الخيبة إلا الخيبة».
قبل ثورة يناير كان يرى الدكتور صفوان أن مشكلة العالم العربى هى أنه لم تحدث به ثورة كبيرة مثل التى حدثت فى فرنسا، كما يقول فى أحد حواراته. ولكن ماذا بعد «الربيع العربى»؟
مرة أخرى، وبنفاذ بصيرة المحلل النفسى العالم ببواطن النفس البشرية، كان الدكتور صفوان من أوائل المتشككين المحذرين من انحراف هذه الثورة وانقلابها إلى الطريق العكسى لمسارها، وفقا لما جاء على لسانه فى حوار حديث له:
«المهمة الملحة، ليست فى إسقاط الحكام، ذلك أن بناء الانسان والمستقبل وصناعة التغيير بحاجة إلى ما هو أبعد من التغيير السياسى أو الغرق فى عبارات من مثل: «الشعب يريد».. تغيير الحكام من دون مشروع نهضة اقتصادية ثقافية يبقى ضمن التغيير ال«خارجى»، وتبقى معه المكبوتات الوجه الآخر للقهر السياسى والاجتماعى والثقافى».
ولكن كيف يمكن الخروج من دائرة الحاكم الأب مرة وإلى الأبد والوصول إلى مرفأ الديمقراطية الحقيقية التى تشمل النهضتين الاقتصادية والثقافية؟
الحل هو «الكلام» كما يقول الدكتور صفوان، الذى يشرح بالتفصيل فى واحد من أهم كتبه وهو «الكلام أو الموت» كيف أن العلاج النفسى التحليلى يتعلق بالكلام الذى تتكشف من خلاله حقائق اللاوعى أو «المكبوت»، وأن بقاء هذا المكبوت فى حالة الكبت أو الصمت هو الذى يؤدى لأعراض العصاب والذهان والعنف تجاه الآخرين والذات نفسها.
إن شعباً غير قادر على الكلام والتعبير والتفاوض والتصالح مع تناقضاته وخلافاته وتعدد الآراء والرؤى فى داخله لا يمكن أن ينتهى مصيره سوى إلى الحرب الأهلية والعنف المدمر.
هذا هو المذهب الوحيد الذى يعترف الدكتور مصطفى صفوان باعتناقه ورؤيته لمصير الجنس البشرى الذى ينفرد من بين كل الكائنات الحية، باستثناء الذئاب ربما، بأن الخطر على وجوده لا يأتى من خارجه، ولكن من حماقته وجنونه هو نفسه!