سألت صفوان بهلوان: هل رأي عبد الوهاب؟ أم أنها علاقة علي البعد؟ قال لي: أنه نشأ في بيت يحب الغناء. كان والده معجباً بعبد الوهاب. وعلاوة علي الراديو كان عندهم جهاز يمكنهم من الاستماع للاسطوانات القديمة. من الصعب القول أنه استمع لعبد الوهاب أو أعجب به. ولكنه تشرب فنه. عندما كان عبد الوهاب يزور لبنان في أحد المصايف. قامت إحدي أجهزة الإعلام بإعداد أغنية لعبد الوهاب يغني كوبليه فيها صفوان بهلوان. كان شاباً في السابعة عشرة من عمره ولم يتنبه أحد - بما في ذلك عبد الوهاب نفسه - أن هناك شابا يغني جزءا من الأغنية التي غناها عبد الوهاب. ذُهِل عبد الوهاب. والتقي بالفتي الشاب وتكررت اللقاءات سواء في مصيفه أم في القاهرة عندما كان صفوان يزور مصر. ولم تقتصر العلاقة علي عبد الوهاب. ولكن امتدت لرفيقة عمره نهلة القدسي وأسرته. كنا نجلس في بيت الدكتور حسن راتب بمنيل شيحة حيث يستضيف صفوان بهلوان خلال وجوده في مصر. كشف لي حسن راتب عن وجه لم أكن أعرفه. فهو معجب بالفن متذوق له. مستعد أن يسافر حتي لآخر مكان في الدنيا لكي يستمع إليه. وقد بدأت علاقته بصفوان بهلوان عندما سافرا معاً إلي المغرب. غني صفوان بهلوان هناك. واستمع إليه في آخر نقطة في الغرب وصل إليها الحرف العربي. لديَّ شجاعة الاعتراف. فعندما بدأت ظاهرة صفوان بهلوان. قلت لنفسي - والنفس قد تكون أمارة بالسوء - أن تقليد مطرب لا يمكن أن يصنع مطرباً. وما دامت لدينا أغاني المطرب الأصلي يمكن أن نستمع إليها بالصوت والصورة أحياناً. فلماذا نستمع إلي من يقلده؟ هكذا احتميت بوجاهة الفكرة التي توهمتها وجيهة. ولم أستمع لصفوان بهلوان إلا بالصدفة وعبر الفضائيات. مع ندرة عرض أغانيه في الفضائيات. وتلك جريمة في حق صوت نادر وجميل وتقف وراءه ثقافة فنية حقيقية. إلي أن دعتني الدكتورة إيناس عبد الدايم رئيس الأوبرا التي تحاول إعادة أضواء الأوبرا المصرية متمثلة التراث المصري والعربي والإسلامي في الغناء. وكانت استضافة صفوان بهلوان المناسبة الكبيرة الأولي. مساء يوم الجمعة 6 أبريل الماضي. كان المسرح الكبير بدار الأوبرا ممتلئا بالبشر. كان من بين الحضور اللواء حسن الرويني عضو المجلس العسكري قائد المنطقة العسكرية المركزية. قد قالت لي صديقتي ليلي الرشيد أنه شئ مفرح أن يجد هؤلاء القادة من العسكريين الوقت لكي يستمعوا للغناء. إن الاستماع للغناء يعني الحضارة والتحضر. ونحن قد نكون في أمس الحاجة إليه. جاءت جلستي بجوار الدكتور شاكر عبد الحميد المثقف والصديق قبل أن يكون وزيراً للثقافة. وقد اكتشفت فيه متابعاً جيداً ودءوباً للغناء ولمسيرة عبد الوهاب في الغناء بشكل أدهشني. أما الدكتورة إيناس عبد الدايم. فهي تتحرك بأحلام من أجل استعادة الأوبرا وعودتها ومحاولة ربطها بالشارع المصري. ووصولها للمواطن العادي. بل إنها تفكر في أن يغني شباب التحرير في الأوبرا ولا يرتبط هذا الصرح الثقافي العظيم بالموسيقي الكلاسيكية. ولا بالتراث العربي القديم في الموسيقي. أي أنها تريد أن تجعل الأوبرا جزءاً من حياة الناس وأن نشاهد شباباً يغنون علي مسارح الأوبرا. وهما من التطورات المهمة التي ستجعل رئاستها للأوبرا جزءاً من تاريخ الغناء في مصر. نعود إلي صفوان بهلوان. اكتشفت في هذه السهرة أنني كنت مخطئاً. وأنني لا أستمع لمطرب يقلد مطرباً آخر. وأنها جريمة حقيقية أن نساويه بغيره من المطربات اللاتي يقلدن مطربات أخريات. فالرجل مبدع حقيقي يعرف ماذا يفعل ويسعي إليه ويقدم جهداً لدرجة أنني لا أغالي عندما أقول أن صفوان بأدائه لأغاني عبد الوهاب إنما يشكل إضافة حقيقية لتراث عبد الوهاب. تقف علي نفس المستوي مع مشروع عبد الوهاب نفسه. ختم صفوان بهلوان ليلته بغناء: كل دا كان ليه. وهي الأغنية التي غناها عبد الوهاب في آخر حفلة عامة له أمام مجلس قيادة ثورة 23 يوليو سنة 1954؟ بعدها لم يغن عبد الوهاب في أي حفلة عامة حتي رحيله عن عالمنا. بعد هذه الحفلة بحوالي نصف قرن. صفوان بهلوان لم يؤد الأغنية كما كان يؤديها عبد الوهاب. بل أدخل عليها تجديدات كثيرة. ثمة كوبليه غناه عبد الوهاب مرة واحدة وقيل له أن كلماته ضعيفه وأن لحنه ضعيف فلم يغنه بعد ذلك أبداً. صفوان بهلوان قام بأداء هذا الكوبليه الذي يعكس معرفة حقيقية بتراث عبد الوهاب الذي لا نعرفه نحن. ثم أضاف له ألحان عبد الوهاب التي غنتها أم كلثوم وعمل توليفة جعلتنا نستمع لكل دا كان ليه الخاصة بصفوان بهلوان وليست كل دا كان ليه الخاصة بمحمد عبد الوهاب. عرفت منه في بيت حسن راتب أن لديه أغانيه الخاصة به. لكن حفلتنا كانت مخصصة لذكري عبد الوهاب. وأنه درس الموسيقي في ألمانيا وله تأليف سيمفوني قدمته دور أوبرا عالمية كثيرة. هذا فضلاً عن أنني لمحت فيه ثقافة حقيقية يفتقدها كثير من أهل الفن من المعاصرين لنا. وبعد وطني حقيقي. لقد ذهلت عندما بدأ ليلة عبد الوهاب بأغنية: أخي جاوز الظالمون المدي. فحق الجهاد وحق الفدي. التي نظمها علي محمود طه. ولحنها وغناها عبد الوهاب بعد محنة فلسطين الأولي. ثم استبدل صفوان كلمة فلسطين بكلمة سوريا. وهو بذلك يعد الفنان عندما يصبح ضميراً لعصره.