■ رشيد كان سمسار الصفقة التركية.. ومنح الأتراك 1.5 مليون متر لإقامة ثلاث مناطق اقتصادية حرة ■ عمر سليمان أوقف المد التركى بعدما اشتكى له وزراء ومحافظون
علاقة مصر وتركيا ستظل علاقة خاصة ما بين الحنين والماضى والأطماع والمنافسة الإقليمية.. حتى قبل وصول الإسلاميين للحكم على يد حزب أردوغان، ظلت العلاقة بين مصر وتركيا معقدة.. فخمسائة عام من الاحتلال التركى العثمانى لمصر والدول العربية لا يمكن أن تمحى بسهولة.. ولذلك تطاول سفير تركيا على عبدالناصر فطرد من مصر، فلم يتعلم السفير فى ذلك الوقت أن مصر أصبحت دولة مستقلة، ولم تعد ولاية عثمانية.. وحين حاول الملك فاروق بعد خلعه استعادة عرشه، كان الأتراك إحدى وسائله الفاشلة.. وبعد أكثر من نصف قرن ظل الحلم العثمانى تحت الجلد التركى.. ظلت تركيا تتطلع لدور حاسم وحاكم ووضع خاص فى مصر.. ولكن صعود أردوغان وحزبه الإسلامى قوى الأطماع الكامنة فى العودة للسيطرة على مصير العرب.. والطريق لذلك لا يمكن أن يمر من خلال مصر.
أردوغان الذى شارك الإخوان فى ركوب ثورة 25 يناير، وأردوغان الذى يحارب ثورة 30 يونيو، ويتجاوز فى حق المؤسسة العسكرية ويصف قادتها بالانقلابيين.. هذا السياسى الكاذب كان يحلم، مجرد الحلم بأن يعقد قمة مع الرئيس المعزول مبارك.. أردوغان الذى حاول احتلال مصر اقتصاديا وسياسيا فى عهد الإخوان، هو نفسه المسئول الذى كاد أن يوقع مع مبارك اتفاقية تجارة حرة.. وهو نفسه رئيس الحكومة الذى كاد أن يحصل من نظام مبارك على 1.5 مليون متر مربع من أرض مصر.. مع تسهيلات ودعم من ثروات مصر كهرباء وغاز.
حاول الإخوان أن يصورا التعاون مع تركيا وكأنه إحدى ثمار الثورة.. وكأن الأتراك كانوا مضطهدين فى عصر مبارك.
ويحاول أردوغان الآن أن يكرر اللعبة، أو يصور معركته مع مصر وكأنها معركة نظام ديمقراطى مع نظام عسكرى.. وان أردوغان عدوه الأكبر الحكم العسكرى.
مثل الإخوان يتعامل أردوغان وكأن ذاكرة التاريخ مجرد أمواج بحر يسهل محوها بأمواج أخرى.. فقد (حفى) أردوغان لعقد لقاء قمة مع نظام مبارك وهو النظام العسكرى الاستبدادى.
قصة أردوغان مع مصر قبل ثورة 25 يناير ومع الإخوان لاتزال تحمل الكثير من الأسرار.. والكثير من الفضائح والوقائع التى تراجعت من الذكاء فى ظل مناخ ساخن متقلب يحمل كل يوم أحداثاً جديدة.
السمسار التركى
قبل وصول وزير التجارة والصناعة الأسبق رشيد محمد رشيد إلى منصبه فى حكومة نظيف كان حجم التعاون الاقتصادى مع تركيا لا يتجاوز 300 مليون جنيه.. وقد تضاعف هذا الرقم نحو ثلاث مرات فى أقل من 3 سنوات.. رشيد له أصول تركية ويتحدث اللغة التركية بطلاقة.. وعمل مستشاراً اقتصاديا للحكومة التركية لمدة خمس سنوات قبل توليه المنصب الوزارى.. وبهذه الخلفية التركية الثلاثية يسهل تفهم اتجاه أو بالاحرى هرولة رشيد إلى التعاون الاقتصادى مع الأتراك.
وبعد الزيارات الثنائية المتبادلة.. توج رشيد التعاون الاقتصادى بزيارة لرئيس الحكومة أحمد نظيف وشلة وزراء لتركيا، وذلك لتدشين التعاون التركى مع مصر فى كل مجالات البيزنس.
فى هذه الزيارة كان أردوغان منتشيا لهذا التقارب مع مصر وطار من الفرح.. وبالطبع لم يترك رئيس الوزراء التركى فرصة دون الإشادة بالرئيس المخلوع مبارك.. بحكمة مبارك وقيادته ودور مصر الإقليمى والدولى، ومكانتها تحت حكم مبارك.
بعد هذه الزيارة حصلت الشركات التركية على دفعة من امتيازات رشيد.. فجرى تخصيص مئات الآلاف من الأمتار من أرض مصر لمشروعات تركية.. فى هذه الفترة ما بين عامى 2007 و2008.. جرى تخصيص 60 ألف متر فى مدينة العاشر للشركة التركية (بوى داك) لصناعة الأثاث.. وكان حجم العمالة مجرد 900 عامل فقط.. وبالمثل جرى الاتفاق على تخصيص 60 ألف متر بالعاشر للشركة التركية (كوشوك شالك) والشركة متخصصة فى صناعة المفروشات والستائر.. وكان حجم العمالة 900 عامل فقط.. وهكذا فى عام منح رشيد شركتين تركيتين 120 ألف متر مربع.. وفرصة الحصول على الغاز الطبيعى والكهرباء بأسعار مدعمة، كل ذلك فى سبيل تعيين 1800 عامل.. ونظرا لأن حجم العمالة كان ضئيلا.. فقد روج رشيد لفكرة أن الأتراك سيتولون تدريب العمالة المصرية، وأن معظم الإنتاج مخصص للتصدير.
واستغل رشيد نفوذه بين العائلة المالكة المصرية (مبارك وولده وزوجته) فى الدفع بالأتراك فى مصر لتكوين قاعدة اقتصادية كبرى لها فى أكبر دولة فى الوطن العربى.. بالمثل استغل رشيد عقدة مصر من عدم توقيع اتفاقية التجارة الحرة مع أمريكا لصالح تركيا.. فروّج لفكرة توقيع اتفاقية تجارة حرة بين مصر وتركيا.. بموجب هذا الاتفاق الذى لم يتم طلبت تركيا السماح بدخول الأتراك لمصر بدون تأشيرة..
وقد أثار هذا الطلب غضب فريق من النخبة الحاكمة.. وكان رأيهم أن الدول العربية أولى بهذا الاهتمام.. أو بالاحرى هذا التدليل والاستثناءات.. خاصة أن الاستثمارات الاماراتية والكويتية والسعودية كانت ضخمة فى مصر، ولم تطلب الحصول على استثناء من التأشيرة.. وفيما بعد سيتكرر قيام قطر بنفس الطلب مع مرسى وإخوانه، استثناء رجال الأعمال القطريين من تأشيرة دخول مصر.. لتكرر النموذج التركى أو بالأحرى الأهداف التركية فى مصر قبل ثورة 25 يناير وبعدها.. وهذا النفوذ كان يلقى معارضة موضوعية جدا من جانب من النخبة الحاكمة.
لكن نفوذ رشيد الطاغى ظل يمثل حاجزاً من الخوف لدى الكثيرين من المعارضين للتوجه التركى لرشيد، فلم يصرحوا علانية بمعارضتهم ومخاوفهم.
تحذير المخابرات
واستمرت خطة رشيد تتصاعد لتمكين تركيا اقتصادياً فى مصر.. واستمرت الخطة حتى عام 2010 أى قبل ثورة 25 يناير بأقل من عام.. وفى هذا العام تحولت المشروعات التركية بمصر إلى فكرة إقامة ثلاث مناطق صناعية خاصة تركية.. وكان من المفترض أن تمتد هذه المناطق على مساحة 1.5 مليون متر.. وكانت تركيا قد اختارت مدينة صناعية خاصة لصناعة الأثاث، وأخرى لصناعة المنسوجات بمختلف أنواعها.. ملابس ومفروشات وستائر.. والثالثة للمواد الغذائية والحلويات.
وهنا انفجر الغضب السرى إلى محاولة علنية لإيقاف مشروع رشيد للتمكين التركى.. فقد اعتبر محافظ دمياط الأسبق الدكتور فتحى البرادعى إقامة منطقة صناعية عملاقة لصناعة الأثاث التركى بمثابة شهادة وفاة لصناعة الأثاث فى دمياط، وأبدى وزير الاستثمار الأسبق محمود محيى الدين نفس الموقف بالنسبة للمنطقة الخاصة بالمنسوجات التركية.. وكان محمود يخشى على صناعة النسيج فى مصر، التى يقع جزء مهم منها فى شركات قطاع الأعمال التابعة له.
وبدأ الغضب يجد طريقه للرئاسة عبر اللواء عمر سليمان.. فقد كانت المخابرات هى البوابة الوحيدة القادرة على مواجهة نفوذ رشيد.. فأرسلت تقارير بمخاطر هذا المد التركى على صناعة الأثاث والمنسوجات فى مصر.. ودخل لوبى صناعة الأغذية والحلويات على نفس الخط.
وقبل الثورة (بكام) شهر نقل عمر سليمان هذه المخاوف لمبارك.. واستجاب مبارك.. وكانت النتيجة أوامر لرشيد لإبطاء التعاون التركى حتى تتم دراسة آثاره على الصناعة والاقتصاد المصرى.
والحقيقة أن مبارك كان لديه دافع آخر للشكوك فى الصفقات الاقتصادية التركية.. دافع سياسى لا علاقة له بالمخاطر الاقتصادية.. فمبارك كان يشك فى أن أردوغان وحزبه الإسلامى «إخوان».. وقد دفعته شكوكه إلى الربط بين أردوغان وإخوان مصر إلى التخوف الأمنى من الأتراك.. ولهذا توقفت طموحات أردوغان ورشيد مؤقتا فى خطة التمكين الاقتصادى.
جليطة الخروف التركى
ومع صعود الإخوان والإسلاميين فى مجلس الشعب بعد ثورة 25 يناير.. وجد أردوغان الطريق مفتوحا لاستكمال الخطة القديمة.. وقام أردوغان بزيارة مصر فى الفترة الانتقالية الأولى.. واستقبل كزعيم إسلامى قاوم إسرائيل.. لكن أردوغان صدم الكثيرين بمنتهى الجليطة.. فبدلا من أن يصطحب رئيس الوزراء التركى وفداً سياسياً معه.. فقد اصطحب أردوغان فى زيارته التاريخية نحو 500 من رجال الأعمال الأتراك.. وبدا الأمر للبعض وكأن مصر عرضة للاحتلال الاقتصادى انتهازا لفرصة تردى الأوضاع الاقتصادية فى مصر بعد ثورة 25 يناير.
ولا شك أن غياب الدول العربية فى ذلك الوقت عن دعم مصر قد عزز أحلام أردوغان فى هذا الاتجاه.. فقد بدا وكأنه اللاعب الوحيد فى ملعب مضطرب وعلى كف عفريت.
وفى هذه الفترة بدأ الإخوان اتصالهم برشيد محمد رشيد السمسار السياسى والاقتصادى لتركيا.. وكانت علاقات رشيد التركية هى مدخله للعودة لمصر، بينما سهل علاقته وإقامته بقطر فكرة التفاوض مع إخوان مصر.
وقد حاول الإخوان الترويج إلى أنهم ليسوا فى حاجة لرشيد، بحجة علاقتهم بالتنظيم الدولى، وكانت هذه إحدى أكاذيبهم أو بالأحرى خطاياهم.. لأن رشيد كانت له علاقات واسعة مع كل المستثمرين الأتراك المؤيدين لأردوغان والمعارضين له.. وعندما فشلت صفقة عودة رشيد لم يستطع الإخوان الحصول على مزايا اقتصادية حقيقية من النظام التركى.. باستثناء الحصول على قرض بمليارى دولار.. وسرعان ما أجبرت المعارضة التركية أردوغان على النزول بالقرض إلى مليار واحد.. وللتغطية على التراجع التركى، فقد روجت كل من القاهرة وانقرة أن المليار الآخر سيتحول لمشروعات مشتركة.. وكان من بين هذه المشروعات أهداف تركية للاستحواذ على شركات صناعة السيارات، واستثمارات أخرى فى مجال صناعة الحديد والاسمنت والمنسوجات.. وعادت الاستثمارات التركية فى مصر من خلال وزير الصناعة السابق حاتم صالح.. وبدأ التعاون بإنشاء مصنع ضخم للاسمنت فى سيناء.. وفى عهد هذا الوزير فتح ملف الاستثمار التركى على مصراعيه.
استثمارات مريبة
فى عهد مرسى وإخوانه، لم يكن لدى أردوغان شك فى إمكانية استكمال خطة التمكين الاقتصادى لتركيا فى مصر.. وأردوغان رجل بالغ الذكاء، ولذلك بدأ فى إضافة الطموح السياسى إلى الاقتصاد مع وجود الإخوان.. وظهرت فى عصر الإخوان استثمارات مريبة لأنها فى مناطق حساسة للأمن القومى، فبالإضافة لمشروع الأسمنت فى سيناء اشترى رجال أعمال أتراك 16 فندقاً فى شرم الشيخ، وذلك فى أقل من عشرة أشهر.. وحقق خيرت الشاطر أحد أحلام أردوغان للتواجد فى مجالات حيوية.. فقد تعاقد الشاطر مع شركة «زاد» التركية للسوبر ماركت.. وكانت خطة الشاطر احتكار سوق السوبر ماركت، وذلك من خلال نشر 12 ألف فرع ل«زاد» التركية فى مصر خلال عشر سنوات.. وخلال حكومة الجنزورى الثانية طلب الشاطر من رئيس الحكومة تخصيص 500 ألف متر فى المحافظات المختلفة لسلسلة زاد، وقوبل الطلب بالرفض.. واتجه الشاطر لشراء سلاسل سوبر ماركت شهيرة، ولكن محاولاته باءت بالفشل.. وكاد الشاطر أن ينجح فى شراء المئات من محال البقالة الصغيرة والمتوسطة لضمها ل «زاد»، لكن ثورة 30 يونيو أطاحت بالعملية كلها.
واستغل أردوغان الإخوان لتكريس العلاقة بين قطاع السياحة المصرى بتركيا.. لأن تركيا كانت ممر نسبة كبيرة من السياحة الروسية لمصر.. فقد كانت تركيا محطة مفضلة لغسيل الأموال لبعض رجال الأعمال الروس.. فقامت عشرات الشركات التركية للسياحة بأموال الروس، ولكن فى عهد الإخوان سعى أردوغان لربط السياحة المصرية بخطة السياحة التركية.. بحيث تصبح زيارة مصر مجرد محطة سياحية لشركات السياحة المصرية.
ولكن سرعان ما كشفت تركيا عن طموحات سياسية أكثر.. فقد حاول مرسى أن يعطى لشركة تركية امتياز تشغيل قاعة المؤتمرات بشرم الشيخ.. وتتبع القاعة المخابرات العامة.. وتديرها شركة مارتين.. وكانت الشركة التركية التى أصر عليها مرسى مرتبطة بعلميات واسعة لغسيل الأموال.. والأهم أنها إحدى الشركات الرئيسية فى تمويل حملات أردوغان الانتخابية.. ولذلك تم رفض عرض مرسى.. لأن هذه القاعة تجرى فيها كل المؤتمرات الرئاسية ومؤتمرات القمة العربية.. ولذلك رؤى أنه من الخطر ترك هذه القاعة فى أيد شركة غسيل أموال.. لأن هناك فرصة كبرى للتجسس على ما يدور فى الغرف والاجتماعات المغلقة خلال مؤتمرات القمة.. فالاستثمار التركى فى عهد مرسى اتجه إلى السيطرة على ملفات الأمن القومى تحت ستار البيزنس.
ولذلك اتفهم حرق دم وجنون رئيس الوزراء التركى أردوغان على ضياع حكم الإخوان فى مصر.. فقد تبخرت فجأة وبدون سابق إنذار الفرصة الهائلة لتتحول مصر لمجرد تابع اقتصادى وسياسى فى الخلافة العثماينة الجديدة التى يخطط أردوغان لتولى منصب الخليفة (المودرن) بها.. وضاعت فرصته فى حكم العالم العربى من جديد.. ومن أجل هذه الأحلام أو بالأحرى المطامع فقد كان أردوغان على استعداد للتعاون مع أى نوع من الأنظمة، نظام عسكرى، نظام استبدادى.. وحتى نظام الشيطان، فأردوغان وحكومته يتعاملان مع النظام الإسرائيلى.