تحاول أختها أن تجد تبريراً أو تفسيراً لقدرة شيوخ السلفيين على ارتداء جلباب أبيض يشف ملابسه الداخلية دون أن يصاب بالبرد، بينما تتلفع هي ببلوفر صوف فوقه كوفيه ومازال برد ديسمبر يحاصرها.
تنتقل أختها من الجلباب إلى الساعة، إلى.. ، تشغلها تفاصيل هندامهم، أما هي فكان يشغلها كتلة الشحم والدهون التي تستقر فوق معدتهم وأمعائهم، وكلما سمعت كلاما عن الورع والزهد والتقوي تجسدت كروشهم التي لا يسترها جلباب فضفاف أو عباءة واسعة كثقب أسود يمكنه أن يبتلع الكون، ويرد على خاطرها قصيدة الشاعر اليوناني سكوكوس كونستندينوس : إلى واعظ عظيم البطن عظتك يا سيدي جميلة رائعة ومؤثرة خطبتك تمس شغاف القلوب إلا أن بطنك الكبير المترهل " يدخلنا في التجربة"
ورغم اختفاء صورتهم من الشاشة لبعض الوقت، إلا أنه استغلالا لخوف متجذر في أعماق مسئولينا من الحفريات ، يطل أحدهم من كهفه، ويحاول أن يفتح الستار ويعود للمسرح ، ملوحا بجحيم الدنيا، فتتجسد فيهم أبيات الشاعر الفرنسي بول فاليري:
روحي كنصل عار في الظلمات
يطعن الصديق والعدو. يقتلني كما الآخرين. ما كنته وما أستطيع أن أكونه، ضحية حد المعرفة التي من غير اعتبار.
***
كلما سمعت أمي بخروج الإخوان كل جمعة أو شاهدت حادثا ارهابيا، دعت "اللهم اهدهم صراطك المستقيم " فننكر عليها دعاءها، لكنها توضح لنا: لو أن الله هداهم لارتحنا جميعا وتروي لنا كيف أن "معروف الكرخي" كان يسير يوما مع جمع وكانت جماعة من الشباب قادمة، وتعبث فساداً، حتى وصلوا إلى شاطئ دجلة، فقال له الأصحاب: يا شيخ أدع أن يغرقهم الحق (تعالى) جميعا، لينقطع آذاهم عن الخلق، فقال معروف: ارفعوا أيديكم، ثم قال : إلهي أسألك أن تسعدهم في الآخرة كما أسعدتهم في الدنيا" فتعجب الأصحاب وقالوا يا سيدنا: إننا لا نعرف سر هذا الدعاء. قال يعلمه من أحدثه، فانتظروا وسيتضح سره الآن، وعندما رأى ذلك الجمع الشيخ، حطموا الرباب، وسكبوا الخمر، وارتعدوا وجثوا على يدي الشيخ وقدميه، وتابوا. قال الشيخ أرأيتم أن مراد الجميع قد حدث دون غرق ودون أن يصاب شخص بأذى." *** هو لم يتنكر ليختفي من رجال المباحث لكنه يتخفى من عينيها التي بحثت عنه ولم تجده بجوارها، كيف نساها وفر؟ ، هل هي المرة الأولى ، ربما، لا يتذكر، لكنها قطعا المرة الأخيرة. مبتسما ينتظرهم، يستطيع أن يواجه الكاميرات ويتحدث عن الشهيدة ، عروس الفردوس، ويجعل تضحيته لله وليس لغرض من أغراض الدنيا ولكنه لن يستطيع أن يواجه صمت زوجته الذي يصرخ " والله ما أنت بإبراهيم وما أمرك الله بذبح ابنتي" . *** يجتاح أذنيها نحيب طفلة وحيدة جائعة ، منزوية في ركن لا يرقبه أحد، يزداد الصوت وضوحا كلما بدأت في إعداد الطعام ، أو عندما تفتح الثلاجة وتعيد ترتيب رفوفها بما يسمح بتوسعة لعلبة جديدة تضاف لثلاجتها المكتظة، تتلفت بحثا عن مصدر الصوت، تفتح باب الشقة، تتطلع لباب الجارة، لعلها ذهبت للعمل تركت ابنتها نائمة، فاستيقظت الصغيرة جائعة، فتفاجئ بعودة الطفلة في يد والدتها العائدة من العمل. هل هو صوت القطة المحبوسة في المنور، تطل من النافذة، القطة غارقة في نومها، يدفعها الصوت لالتهام شريحة كيك، ورك دجاجة ، قطعة لحم. أيام، شهور، ازداد وزنها كثيرا ولم تشبع الطفلة الجائعة. استسلمت، تآلفت مع الصوت حتى أنها أصبحت ترصد أوقاته وأتاحت لها استكانتها أن تلاحظ اختفاءه في الأيام التي يكون لديهم مدعوين على الغداء. فهمت ما يريده واستجابت له، وإذا حدث يوما ونسيت يذكرها بوعدها، فتنزل مسرعة متعللة بشراء كيس ملح، أو علبة كبريت. وفي يدها علبة طعام تمنحها لأول عابر سبيل تقابله في الشارع. *** إلى مريم الباز في عيدها السادس: عيناك حقل حنطة، وأهدابك شجرة صفصاف.