يوفر تاريخ باكستان العديد من أوجه التشابه لما حدث في مصر هذا الشهر من استيلاء الجيش على السلطة، بما في ذلك ما يمكن أن نستقي منه قصصاً تحذيرية واستراتيجيات يمكن أن تكون مفيدة للعملية الانتقالية. فمن تبعات الانقلاب الذي وقع في باكستان عام 1977 وحتى الانتقال السلمي للسلطة عقب الانتخابات في أيار/مايو هذا العام، تستطيع واشنطن (والقاهرة) استخلاص دروساً عديدة من جهود إسلام أباد لتطبيق حكم مدني حقيقي في مقابل الاحتمالات المستمرة لوجود دولة فاشلة.
خبرة طويلة مع الانقلابات
على غرار مصر، فإن باكستان دولة كبيرة من الناحية الجغرافية، ولديها تعداد سكاني كبير فضلاً عن ارتفاع معدلات الفقر في البلاد. وفي كلا البلدين، خلّفت التجربة الاستعمارية بيروقراطية وقوات عسكرية على النمط الغربي.
فمنذ تأسيس باكستان في عام 1947، حكم الجيش البلاد طوال فترة وجودها. وحتى في الوقت الحالي، مع قيام حكومة مدنية، فإن الجيش لاعب كبير، حيث احتفظ بسلطة واضحة تمنحه حق النقض فيما بتعلق بسياسات البلاد الخارجية والدفاعية وكذلك السيطرة على أسلحتها النووية.
وتقدم البيروقراطية المدنية في باكستان المساعدة للجيش، ولا سيما للإستخبارات وقوات الأمن. ولا يمكن تعريف نطاق ومدى هذه النخبة من البيروقراطية- العسكرية؛ فغالباً ما تماثل مصطلح "الدولة العميقة" [مشابهة لفكرة "دولة داخل دولة"] الذي يشيع استخدامه مع تركيا. على سبيل المثال، تم طرد المراسل المقيم لصحيفة نيويورك تايمز أثناء انتخابات هذا العام بسبب "أنشطة غير مرغوبة" لم يتم تحديدها رغم الاحتجاجات ضد القيادة السياسية للبلاد.
لقد شهدت باكستان ثلاث "فترات من الحكم العسكري". كانت الأولى بين 1958-1971 -- عندما استولى في البداية الجنرال محمد أيوب خان على السلطة، وقام بتسليمها في وقت لاحق إلى الجنرال آغا محمد يحيى خان في عام 1968 بسبب سوء حالة أيوب خان الصحية. وفي عام 1971، بعد أن فقدت القوات الباكستانية السيطرة على الأراضي التي أصبحت دولة بنغلاديش، تنازل يحيى خان عن السلطة إلى ذو الفقار علي بوتو - سياسي مدني انتخب بعد ذلك رئيساً للوزراء وفقاً لدستور جديد في عام 1973.
والفترة الثانية من الحكم العسكري بدأت عام 1977، عندما تولى الجنرال محمد ضياء الحق السلطة من بوتو بعد الانتخابات المتنازع عليها التي جرت ذلك العام والتي حفزت قيام احتجاجات في الشوارع لعدة أشهر. وبقي الجنرال الحق في السلطة حتى عام 1988، عندما قتل (مع السفير الأمريكي) في حادث تحطم طائرة لا تزال أسبابه غامضة.
أما الفترة الثالثة من الحكم العسكري فقد استمرت بين 1999-2008. وقبلها شغل العديد من السياسيين منصب رئيس الوزراء، بما في ذلك بينظير بوتو (ابنة ذو الفقار) ونواز شريف. ومع ذلك، ففي تشرين الأول/أكتوبر 1999، أطاح الجنرال برويز مشرف برئيس الوزراء شريف بعد أن حاول هذا الأخير أن يستبدله بشخص آخر في منصب رئيس أركان الجيش. وقد اضطر مشرف في النهاية إلى التخلي عن السلطة في عام 2008 بعد فوز حزب بينظير بوتو في الانتخابات، على الرغم من أنها نفسها قد اغتيلت قبل قيام الانتخابات.
أوجه الشبه والاختلاف
من بين هذه الانقلابات العسكرية، فإن انقلاب 1977 في باكستان يماثل عن كثب الأحداث الأخيرة في مصر. ففي ذلك الوقت، كان الجيش الباكستاني تحت قيادة ضياء الحق، حيث عمل ذو الفقار علي بوتو على ترقيته إلى منصب رئيس أركان الجيش لأنه لم يكن ينظر إليه كشخص يشكل تهديداً. وقد أصبح "حزب الشعب الباكستاني" بقيادة ذو الفقار علي بوتو الجماعة السياسية الأفضل تنظيماً في البلاد، كما أنه أسس وحدة شبه عسكرية بقيادته.
وفي 4 تموز/يوليو 1977، أمر ضياء قواته بأن يعتقلوا بصورة مؤقتة ليس فقط بوتو وزملائه الكبار، بل أيضاً قادة المعارضة الذين ينتمون إلى أطياف متباينة في البلاد، بما في ذلك الإسلاميين والمحافظين وأعضاء من الفصائل الإقليمية. وقد بررت الإدارة العسكرية تدخلها بتسمية الانقلاب "عملية اللعب النظيف" وادعائها بأنها أرادت القضاء على الاضطرابات الاجتماعية. كما عين ضياء تكنوقراط كوزراء في الحكومة بوعده إجراء انتخابات مبكرة، لكن سرعان ما اتضح أن بوتو سوف يفوز في أي تصويت جديد. ووفقاً لذلك، تم اعتقال رئيس الوزراء السابق مرة أخرى ومحاكمته جراء إعطائه أوامر بتنفيذ عمليات قتل سياسية في عام 1974، وقد أدانته المحكمة في النهاية وتم شنقه.
وعندما حدث الانقلاب، كان المجتمع الباكستاني هادئاً في البداية. وقد تراجع ظهور النشطاء السياسيين، ولكن بمجرد الإفراج عن قادة الأحزاب، كرس هؤلاء أنفسهم للحملات الانتخابية وليس لمواجهة الجيش. وقد اشتمل الاستيلاء على السلطة اتباع وسائل كلاسيكية للانقلاب: فقد أُغلقت المطارات، وتم قطع خطوط الهواتف الدولية والتلكس، والتزمت الصحف الصمت، ثم قصرت نفسها على نشر البيانات الحكومية والمقالات الافتتاحية المتملقة. لقد جعلت التغييرات التكنولوجية والاجتماعية من تلك الأساليب أمراً مستحيلاً هذه الأيام؛ وفي الواقع، من شأن ذلك أن يثير غضب جماهير الباكستانيين العاديين الذين يفضلون الابتعاد عن العنف.
ورغم أن اتصالات الهواتف المحلية والجوالة تعتمد على موافقة الحكومة فإن هواتف الأقمار الصناعية، رغم عدم شيوعها، تعمل خارج سيطرة الدولة. وعلاوة على ذلك، تحرص الآن وسائل الإعلام الباكستانية على تأكيد استقلاليتها؛ ولا شك أن الحكومة توجه التقارير حول بعض المواضيع، لكن ذلك لا يصل إلى درجة السيطرة الكاملة.
دروس لمصر
بعيداً عن العوامل الداخلية الفريدة، سيكون من الغباء أن يتجاهل قادة الجيش في مصر تجربة جيوش أخرى في حكم بلدان ونقل السلطة إلى المدنيين، إلى جانب المتطلبات ذات الصلة بالانتخابات والبرلمانات وسيادة القانون. ينبغي أن يدركوا بادئ ذي بدئ أن الجيوش تُدرَّب لخوض المعارك، وليس لإدارة البلدان؛ لذا فإن التركيز على دورها الأمني قد يؤدي إلى الإضرار بالحوكمة والعكس بالعكس. ثانياً، رغم أن النخبة العسكرية تحيط نفسها بهالة من الاحترام، إلا أنه يتعين عليها أن تكسب ذلك الاحترام لدى المدنيين. إن سوء الإدارة والفساد قد يسيئان بسرعة إلى سمعة الجيش. ثالثاً، إن التوقيت الصحيح للانتقال السياسي يمثل أهمية كبيرة، فالسماح ولو بالقدر اليسير من النشاط السياسي قد يخلق في حد ذاته قوة دافعة. وفي الواقع إن الجيش المصري أساء بالفعل إدارة أول عملية انتقالية في فترة ما بعد مبارك.
وعلاوة على ذلك، يُظهر تاريخ باكستان الحديث كيف أن السمات الشخصية والازدراء الدائم بين القادة العسكريين والسياسيين يمكن أن يقف عائقاً أمام عملية انتقالية مستقرة. على سبيل المثال، نُزعت الكثير من صلاحيات الرئيس الباكستاني آصف علي زرداري، أرمل بينظير بوتو، من قبل "المجلس الوطني" في عام 2010 ويمكن أن يواجه مرة أخرى تهماً بالفساد في أيلول/سبتمبر القادم، بعد انتهاء فترة ولايته ويتم رفع الحصانة عنه. كما يشتهر رئيس الوزراء شريف بضعف قدرته على التركيز وقام بتجميع ثروة هائلة، الأمر الذي يثير تساؤلات حول نزاهته التجارية. كما بالغ مشرف في تقدير شعبيته بعودته إلى البلاد لخوض الانتخابات هذا العام.
فبعد أن هُزم شر هزيمة، فإنه يخضع للإقامة الجبرية في منزله حالياً ويمكن أن يحاكم بتهمة الخيانة من قبل شريف، رئيس الوزراء الذي كان قد أطاح به مشرف عام 1999؛ وربما تكون علاقاته بالجيش هي الشيء الوحيد الذي ينقذه من الإعدام. ويمكن أن تُطل مشاكل مماثلة برأسها على مصر، حيث ربما يزدري قادة الجيش بعض السياسيين الذين يتعين عليهم التعامل معهم الآن.
كما هو الحال مع مصر، فلدى الولاياتالمتحدة تاريخ طويل من التعاون مع باكستان، ولا سيما نخبتها العسكرية البيروقراطية. على سبيل المثال، إن مهمة التجسس الفاشلة التي قامت بها الولاياتالمتحدة ضد الاتحاد السوفيتي عام 1960 قد تمت باستخدام طائرة يو-2 أُطلقت من منشأة ل "وكالة الاستخبارات المركزية" في قاعدة جوية في بيشاور. وفي عام 1971، طار مستشار الأمن القومي الأمريكي هنري كيسنجر من باكستان إلى الصين في مهمة سرية لفتح علاقات دبلوماسية مع بكين.
وخلال الثمانينيات، كانت باكستان الشريك الرئيسي للولايات المتحدة في تزويد الأسلحة إلى المجاهدين في أفغانستان المجاورة، الأمر الذي اضطر القوات السوفيتية إلى الانسحاب.
ومع ذلك، فمثل هذا التعاون كانت له تبعاته السلبية، ومن بينها ظهور تنظيم «القاعدة» برئاسة أسامة بن لادن، وقرار التغاضي أحياناً عن تطوير باكستان لأسلحة نووية، والعلاقة المحرجة في كثير من الأحيان مع الهند - القوة الإقليمية. إن علاقات الولاياتالمتحدة مع قادة باكستان السياسيين يكدرها حالياً هجمات الطائرات بدون طيار التي تشنها "وكالة الاستخبارات المركزية" ضد أهداف إرهابية بالقرب من الحدود مع أفغانستان، والتي أثارت غضب السكان بسبب سقوط ضحايا من المدنيين والاعتداء الواضح على سيادة باكستان.
ومع ذلك، تعاونت واشنطن مراراً وتكراراً مع إسلام أباد (ومع الجنرالات الباكستانيين في روالبندي القريبة) لتسهيل الانتقال السياسي على مر السنين. وكانت تلك مهمة صعبة بالفعل، لكن باكستان شهدت فترات طويلة من الحكم المدني، ولهذا من الأيسر تصويرها على أنها نموذج مثالي (ولا يمكن أن يقال الشيء ذاته عن مصر، التي دامت خبرتها مع الحكم المدني فترة وجيزة جداً وكانت سلبية).
إن نجاح العملية يتضح على أفضل ما يكون في عملية الانتقال السلمية عقب الانتخابات التي جرت في باكستان الشهر الماضي، من حكومة بقيادة إحدى الأحزاب إلى إدارة جديدة بقيادة حزب معارض.
وعلى الجانب الآخر من الصورة يأتي ذلك التصور بأن باكستان لم تعد حليفاً للولايات المتحدة (نظراً للمساعدات المفترضة التي وفرتها لبن لادن خلال السنوات التي قضاها مختبئاً هناك) وتبدو أحياناً على حافة أن تصبح أول دولة فاشلة تمتلك ترسانة أسلحة نووية. وتشير هذه العوامل إلى أنه ينبغي على الولاياتالمتحدة أن تعمل على الحفاظ على ارتباطها مع القاهرة بل وتعززه من أجل المساعدة في إدارة عودة العملية الديمقراطية بقيادة المدنيين في مصر.