يعود تاريخ الصراع على السلطة في مصر بين الحكام والإخوان المسلمين إلى عهد الملك فاروق، وكل حلقة يتبعها تقريبا نفس السيناريو، إذ يتعاون الحاكم والإخوان لفترة قصيرة كل مرة ، وبعدها يفشل الزواج بينهم وسط اتهامات متبادلة من الطرفين. وسواء وصل الحاكم لسدة الحكم في مصر عن طريق الملكية أو الجمهورية، فإنه يحاول التواصل مع الإخوان، للاستفادة منهم أو على الأقل تحييد دعمهم السياسي. ومن جانبها، تسعى الجماعة إلى شراء ود الدولة، درءًا للتهديدات التي تحيق بها، والحصول على الموارد والأرضية اللازمة لتبدأ صعودها سلم السلطة. إلا أن هذا التعاون لا يدوم، اعتمادًا على التاريخ، الذي يعرفه كل اللاعبين الموجودين على الساحة الآن. ففي حالة الملك فاروق، بالغ الإخوان في حملتهم الاغتيالية، ما أدى إلى اشتعال حملة مضادة عليهم، أسفرت عن قتل مؤسس الإخوان، حسن البنا، ومن ثم هجوم عام على الحركة ككل. وفي حالة جمال عبد الناصر، بالغ النظام الجديد في رد فعله عندما منح الإخوان مقعدًا في البرلمان في البداية، قبل أن يستغل محاولة اغتيال مزعومة ضده بعدها بعامين لشن حملة إرهاب ضد الجماعة استمرت تقريبا حتى وفاته. ومن جهته، تواصل أنور السادات، مع الإخوان لسد الفجوة السياسية التي نجمت عن قيامه بالتخلص من الناصريين اليساريين بعد شهور قليلة من توليه الرئاسة. واستمتع الإخوان لسنوات بمحاباة «السادات» وحمايته لهم، قبل أن يصبحوا ضحايا جنون عظمته وخوفه فيما بعد. ولم يكن حسني مبارك مختلفًا، إذ سار على النهج نفسه، بعد توليه الحكم عقب اغتيال «السادات»، وفتح المجال السياسي للإخوان في السنوات الأولى لعهده الطويل، قبل أن يقوم بتقييد أداء الإخوان بشدة في التسعينيات، دون إلغاء وجودهم سياسيًا. و تسامح «مبارك» لسنوات طويلة، كما استفاد أيضًا، من الوجود المقنن للجماعة، إلا أنه ككل من سبقوه، أحكم مخالبه على الإخوان المسلمين، خاصة في السنوات الأخيرة لحكمه، وحاول تدمير قاعدتهم الاقتصادية والسياسية من خلال حملات متزايدة من الاعتقالات والقمع. وتاريخ العلاقات بين الحكام المصريين والإخوان المسلمين يشبه الصراع الأزلي بين النمس والكوبرا، الذي يفوز به النمس دائما. المشير حسين طنطاوي وزملاؤه في المجلس الأعلى للقوات المسلحة يعرفون جيدًا هذا التاريخ. ويعكس سلوكهم حقيقة أنهم أيضا يريدون الاستفادة من الدعم السياسي للإخوان المسلمين خلال الفترة الانتقالية، لكن كالعادة، وبشكل يشبه المهزلة، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه. فالتنافس المحموم المتوارث في العلاقة بين الطرفين يجعل التعاون السياسي صعب إن لم يكن مستحيلا، وبالتالي يمكن أن نتوقع ضربة محتملة من النمس العسكري ضد الكوبرا الإخوانية مرة أخرى، إلا أن النتيجة هذه المرة ستكون مختلفة تماما. وفي حالات أخرى، يظل تطبيق قصة النمس والكوبرا على أي قصة تشمل حكمًا عسكريًا وجماعة دينية معارضة في ظل نظام استبدادي صعب، فمثلا في حالة الجنرال فرانكو وجيشه الذي سيطر على إسبانيا كلها، بما فيها الكنيسة الكاثوليكية وذراعها اليمنى السياسية، رأت الفاشية في أوروبا كلها أن الحزب المدعوم من الكنيسة، تسلق على أكتاف الجيش. وفي أمريكا اللاتينية، كان للجيش عموما اليد العليا حتى حدثت بعض الانتقالات الديمقراطية، التي جعلته خاضعًا للرقابة المؤسسية. وقد كان الوضع مختلفا في إيران، فما زال للملا اليد العليا فوق الجيش النظامي وقوات الحرس الثوري. كل هذه الصراعات لا تؤدي حتميًا إلى خضوع الحزب الديني المعارض للجيش، ولا يمكن بالضرورة أن يكرر التاريخ نفسه هذه المرة في العلاقة السياسية بين المجلس العسكري والإخوان. فالعسكري يلعب لعبة سياسية حمقاء، يمكنها أن ترتد عليه، وبينما يقترب موعد تسليم السلطة للمدنيين، يحاول الجيش بجهد رسم خطوط حمراء حول مصالحه، لتظل محرمة لا يمسها أحد، إلا أن هذا الجهد قلل من دعم الجيش السياسي، وشكك في كل ما يقوم به. وعلى المدى الطويل، سيكون من الصعب على الجيش الدفاع عن الخطوط الحمراء، التي رسمها بنفسه أمام حلبة الصراع السياسي المستمرة، والتي تستمد نشاطها من الرأي العام المصري. عاجلاً أو آجلاً، سيتزايد السؤال عن ميزانية الجيش، وإداراته الداخلية، وستزيد المطالب بالمشاركة في وضع سياسات الأمن القومي للبلاد. ربما تكون هناك احتمالية تدخل عدد من الضباط الناصريين الجدد، لإنقاذ الأمة، بعد أن أفسد المجلس العسكري والإخوان المسلمين «والثوار» والكل تقريبًا المشهد السياسي في مصر منذ 11 فبراير 2011، إلا أن مصر الآن ظروفها مختلفة، وقد يكون من الصعب عليهم تثبيت أنفسهم في المشهد ومواجهة الإخوان المسلمين، الذين أصبحوا يتمتعون بتمكين سياسي كبير الآن، فضلاً عن الإسلاميين المرافقين لهم. ولا يوجد دليل تاريخي على أن الإخوان المسلمين سعوا لحشد مؤيديهم لنزول الشارع ضد الدولة من قبل، إلا أن هذه المرة، وبعد أحداث العام الماضي، لا يمكن لأحد الجزم بأن هذا هو ما سيحدث، خاصة أنهم وصلوا أخيرًا للسلطة. وبالنسبة للاقتصاد السياسي الناتج عن تعاون الجيش مع الإخوان المسلمين، فإنه يصب في صالح الجماعة، لأن الانقسام الحالي في النظام السياسي يعطي الجيش والجماعة السلطة على الدولة بشقيها، القوي والناعم.. والجيش يتحكم في القوات المسلحة والمخابرات والنظام الأمني، بالإضافة إلى الشرطة والمحليات. وتعتبر خطوة منح الإخوان المسلمين رئاسة لجنة الأمن القومي والدفاع في البرلمان، صك إذعان الجماعة للجيش، كما أن وجود وزارات الدفاع، والإنتاج الحربي والداخلية والسياسة الخارجية والمالية والتعاون الدولي في يد الموالين للمجلس العسكري، في الحكومة المستقلة، التي يمكن أن تستمر حتى بعد تسليم السلطة- يعني أن الجيش، على الورق على الأقل، في مكانة لا يمكن تعويضها. من ناحية أخرى، لا يمكن الاستهانة أبدًا بسيطرة الإخوان على الدولة الناعمة في مصر وتأثير ذلك سياسيا. فالبرلمان الذي تسيطر عليه الجماعة سيكون لديه القوة المطلقة أكثر من أي وقت في التاريخ، ربما منذ عام 1923. ومن غير المرجح أن تقوم الجماعة بإضفاء الطابع المؤسسي على تلك السلطة في كيان منتخب، إذ إنها لا يمكن أن تتأكد من السيطرة عليه في المستقبل، إلا أنه لو استطاعت الجماعة تحقيق نتائج في الانتخابات المحلية، مماثلة لنتائجها في البرلمان، فسوف تتحكم في المحافظات والأحياء والبلديات أيضا. وبالتالي يمكن وقتها أن تتصارع المجالس مع نظيرتها التنفيذية على السلطة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي وضع الإخوان المسيطر على النقابات العاملة، وتأثيرهم القوي على القضاء، الواضح من خلال دورهم في نادي القضاة والمجلس الأعلى للقضاء، على وضع أساسات جديدة لهم تعزز من سلطاتهم السياسية. ورغم أن الدستور لم يكتب بعد، إلا أنه يعتقد بقوة أنه سيؤسس نظامًا تعتمد فيه السلطة التنفيذية بشكل كبير على السلطة التشريعية. والرهان الآن على أن الرئيس سيكون مرشحًا توافقيًا بين المجلس العسكري والإخوان، وبالتالي التأكد من أن هذا المنصب لن يكون أداة في يد أي منهما بالكامل. ومن المرجح أن يبدأ الإخوان تحركاتهم ضد الجيش من القاعدة إلى القمة بشكل متزامن، فالشرطة مثلا، المكروهة شعبيًا، ستجد مواجهة الإخوان صعبة، خاصة مع وجود الإخوان القوي في الشارع، وسيكون الأمر مماثلا بالنسبة للجيش، لكن بدرجة أقل، فضلاً عن القطاعات الأخرى من الأمن، خصوصًا الأمن المركزي التابع لوزارة الداخلية. ومن القمة للقاعدة، يمكن أن يحرك الإخوان مؤيديهم الموجودين في قطاعات مختلفة من الأمن لدعمهم. وعلى الرغم من أن الإخوان يسيطرون الآن فقط على قوى الدولة الناعمة، إلا أنهم يقومون بعمل توازن ملحوظ أمام الدولة القوية التي يسيطر عليها الجيش، وبالتالي تصبح تلك السيطرة في خطر خلال الأعوام المقبلة. وبالمثل، ينقسم النظام الاقتصادي إلى مكونات ناعمة وقوية، ويمكن أن يشهد انقسامات كبرى في المستقبل، فالاقتصاد العسكري يشمل منتجات وخدمات استهلاكية، لكن تركيزه الأكبر ينصب على الصناعة الثقيلة، ومن المحتمل أن يتعزز ذلك الاتجاه بواسطة الجنرالات، الذين يدعون مصادرة أصول أصدقاء جمال مبارك من الحديد والصلب وغيرها. على العكس، تتركز استثمارات الإخوان في المنتجات الاستهلاكية والخدمات والمطاعم ومحال التجزئة والأثاث المنزلي، خاصة تلك التي يديرها رجال مثل نائب المرشد العام خيرت الشاطر ورجل الأعمال صفوت ثابت. ويمكن القول إنه رغم أن النظرة الأولى التي تقول إن الجيش يتحكم بشكل أكبر في الاقتصاد، إلا أنه على المدى الطويل سيكون للجماعة اليد العليا في التحكم في الاقتصاد، خاصة مع عدد ونسب النمو السكاني وزيادة الطلب الاستهلاكي، وبالتالي ستتحقق الاستفادة الكبرى لموردي المنتجات والخدمات الاستهلاكية. وستوسع الجماعة مجتمعها المتشابك الآمن للتعامل مع موارد الدولة بشكل مباشر، ويمكن وقتها أن يصبح قرب السلفيين من الفقراء، كما كان واضحا أيام الانتخابات البرلمانية، تهديدًا سياسيًا خطيرًا. من ناحية أخرى، يجب الأخذ في الاعتبار قدرة الإخوان على الحصول على موارد من الخليج. فبينما كان «مبارك» يحصل على موارد قليلة جدًا من الخليج، ولم يحصل المجلس العسكري على إسهامات كبيرة من المصادر نفسها، فإن فرص الإخوان في الحصول على الموارد نفسها أكبر بمراحل، خاصة أن دول مجلس التعاون الخليجي قد أبدت بالفعل مصلحة في الاستثمار من خلال مستقبل الإخوان السياسي، وبالتالي يمكن انضمام مستثمرين آخرين في المستقبل أو الحصول على دعم اقتصادي من موارد مصر. بالإضافة لذلك، سيسهم توسع الاقتصاد الإسلامي، الذي ظهر في ضخ صكوك إسلامية بقيمة 2 مليار دولار، ليس فقط في مد جسور أخرى مع الخليج، وإنما سيجعل من الإخوان قوة اقتصادية منافسة. وفي المقابل سيتحكم الجيش في المصانع الخاضعة لرأسمال الدولة، التي تنتج منتجات الجيش، وستمدهم ببعض المميزات السياسية، سواء في مصر أو في المنطقة. وقد ظهر التنافس على ساحة السياسة الخارجية في الهجوم البائس، الذي شنه المجلس العسكري على الولاياتالمتحدة، في محاولة لاستعادته بعضًا من شعبيته المفقودة، من خلال قضية المنظمات الأهلية المصرية الممولة أمريكيًا، وهو ما أدى لانتشار المشاعر المعادية للأمريكيين والغرب عمومًا، وبالتالي هدد مصالح الجيش، لكنه يأتي في صالح الجماعة، وفيما يستخدمه الشوفينيون لتنفيذ مصالح معينة، فإن نتائجه ستصب على المدى الطويل في صالح الإخوان وليس في صالح الجيش. إن التعاون الآن بين الجيش والإخوان المسلمين لا يمكن أن يكون مستقرًا، لكن احتمالية نجاح شن المجلس العسكري أو أحد قادته ضربة استباقية على الإخوان، كما حدث في الماضي مستبعدة الآن، والوقت في صالح الإخوان. هذه المرة سيتحول الأمر لانتصار النمس وهزيمة الكوبرا. إن مصر الآن في منعطف تاريخي يشبه ما مرت به عندما حلت الجمهورية محل الاستعمار، فهل سيقوم النمس بالتحكم مباشرة في الكوبرا أم سيكتفي بإخضاع الجيش للرقابة المؤسسية خلال مرحلة شبه ديمقراطية؟ بمعنى آخر، هل سيتبنى الإخوان النظام الإيراني في التحكم في الجيش، أم سيختارون بدلا من ذلك عدم تسييس الجيش، وبالتالي يمنحون الديمقراطية فرصة محتملة؟.. هنا، لا يمكن للتاريخ أو لقصة النمس والكوبرا أن يقدما لنا أي دروس أو نصائح.