هذه المسرحية تعيد للمسرح المصرى مكانته واعتباره أعترف بأننى منذ سنوات طويلة جدا لم أشهد عرضا مسرحيا استطاع أن يهزنى ويقلب كيانى بهذا الشكل. عرض من النوع الذى يثبت لك أن فن المسرح لا يمكن أن يموت وأن السينما لا تستطيع أن تحل محله ولا أن تلعب دوره فيما يتعلق بالتأثير المباشر والملموس على المشاهدين. المسرحية هى «عدو الشعب» التى كتبها النرويجى العظيم هنريك إبسن منذ قرن وثلاثين عاما وترجمتها بالعامية المصرية، بجانب الترجمة بالفصحى، كل من رندة حكيم وشيرين عبد الوهاب فى طبعة حديثة عن دار نشر «ميريت» وأعدتها للمسرح وأخرجتها الممثلة والأديبة والمخرجة والمنتجة نورا أمين صاحبة فرقة «لا موزيكا» المسرحية.
من بين كل الأعمال العربية والعالمية التى تنطبق على حالتنا المزرية تبدو مسرحية «عدو الشعب» وكأنها التلخيص و»التخليص» من الآخر لأمراضنا الاجتماعية والسياسية والعقلية.. ومع إخراج نورا أمين ومجموعة الممثلين البارعين الذين يعملون معها ولمساتهم وإيحاءاتهم التى أضافوها للنص تكتسب المسرحية هوية محلية كاملة.
تدور المسرحية فى قرية نرويجية صغيرة تعتمد فى معيشتها على مياه حمامات صحية يستثمر فيها أغنياء المدينة أموالهم ويعتمد عليها السياسيون فى كسب انتخاباتهم، من أكبرهم وهو العمدة إلى أصغرهم من قادة النقابات العمالية، وهى أيضا الأمل الذى يعيش عليه العامة لجذب السياح ورفع مستوى معيشتهم، ولكن طبيب القرية العالم توماس ستوكمان يكتشف أن هذه المياه ملوثة تماما وتسبب المرض لا الشفاء ويصمم على إعلان كشفه للناس ترفض الصحف نشر مقاله وعندما يعقد مؤتمرا يدعى إليه كل سكان القرية ليعلن لهم الحقائق يمنع من ذلك تماما ويتآمر عليه الجميع ويحرضون الناس ضده واصفين إياه بالمجنون والطامع فى السلطة والعميل الكاره لبلده والخائن عدو الشعب!
تكشف المسرحية المكتوبة منذ أكثر من 130 عاما كيف يمكن أن تستغل الديمقراطية والسياسة لخداع البسطاء الجهلة ودفعهم للعمل ضد مصالحهم، وكيف يتلاعب بهم الأغنياء والإعلام الفاسد بل ومن يتحدثون باسمهم وباسم الفضيلة والأخلاق ليل نهار.
تلغى «عدو الشعب» المسافة بين خشبة المسرح والصالة وبين الممثلين والجمهور، وهو تكنيك طالما استخدمه المسرحيون الشبان، وعجت به عروض مهرجان المسرح التجريبى، الذى يجب أن نعترف بتأثيره مهما كان رأينا فى سياسات وزير الثقافة فاروق حسنى.. ولكن تأثير هذا التحطيم للحائط الرابع، كما يسميه أهل المسرح، أى إلغاء المسافة بين الخشبة والصالة، يصبح له تأثير مرعب هنا. فى الحقيقة سوف تكتشف أن أحد الجالسين بجوارك هو واحد من سكان قرية الدكتور ستوكمان. نورا أمين جعلت بعض الممثلين يجلسون وسط الجمهور، وبدلا من خشبة العرض أقامت اثنتين فى مقدمة ونهاية ساحة العرض وفتحت الطريق بينهما بممر يسير فيه الممثلون ويتكلمون ويتشاجرون وحتى يطاردون بعضهم البعض وسط الجمهور. عادة، يستخدم هذا التكنيك فى أعمال كوميدية تعتمد على الارتجال ومخاطبة الجمهور، ويكثر استخدامه فى المسرح الايطالى «الشعبي»، ولكن نورا أمين تستخدمه بمفهوم المسرحى الألمانى برتولت بريخت، للتحريض والتوعية السياسية المباشرة، مع فارق جوهرى، بريخت يستخدم الممثلين للخروج من العرض والتواصل الإيجابى مع المشاهدين. هنا تستخدم نورا أمين المشاهدين أنفسهم وتورطهم فى الدخول إلى العرض كأفراد من سكان المدينة المشاركين فى الجريمة!
مع احتدام الصراع وهياج الصالة ضد ستوكمان لمنعه من الكلام تنتاب المشاهدين حالة من الارتباك ما بين الرغبة فى التدخل ومنع المأساة القادمة، أى تغيير مسار العرض، وبين الجلوس صامتين عاجزين شبه مشلولين عن الفعل.. إلى درجة الانفجار فى البكاء أحيانا، خاصة فى المشهد الرئيسى الذى يهاجم فيه الغوغاء بتحريض من العصابة الحاكمة الدكتور توماس ستوكمان، ويصفونه بأنه عدو الشعب!
طارق الدويرى فى دور الدكتور ستوكمان ساهم فى إحداث هذا التأثير الساحق على الجمهور لأنه لم يتعامل مع ستوكمان كشخصية يؤديها، ولكنه عاشها وانفعل بها حتى تكاد تخشى عليه بالفعل من أن يصيبه أحد «غوغاء المشاهدين» بأذى أو أن يصاب بأزمة قلبية من شدة الانفعال، وبجانب الدويرى اتسم التمثيل عموما بمستوى مرتفع من قبل عدد من ممثلى المسرح المخلصين، كما ساهمت الموسيقى بدور رئيسى معهم، حيث تم تشكيل فريق موسيقى يعزف أثناء العرض ويتفاعل مع أداء الممثلين فى هبوطه وصعوده!
على مدار الشهور الثلاثة الماضية بأحداثها وظروفها السيئة استطاعت الفرقة أن تعرض المسرحية خمس عشرة مرة فى ثلاثة أماكن هى مسرح الهوسابير برمسيس ومركز «شبابيك» بالمقطم ومعهد جوتة بوسط البلد. وقد تأجل العرض أكثر من مرة بسبب الأحداث، ولكن فريق العمل توصل فى النهاية إلى أن هذه الظروف بالذات، خاصة جو العنف المسيطر من قبل قطيع من الخراف الهائجة، على حد تعبير ستوكمان، هى أنسب وقت لعرض المسرحية ومواجهة القطيع بالحقيقة!
المشكلة أن العرض يواجه بجانب هذه الأحداث المتلاحقة ظروفا إنتاجية صعبة، ويحتاج إلى أماكن تستضيفه وترعاه، وشخصياً لا أعتقد أن هناك أعمالا كثيرة تصلح للعرض الآن أنسب من «عدو الشعب».